الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 13:02

قطار العودة - امطانس فرح


نُشر: 17/07/09 11:27

مسرعًا دخلت محطة القطارات في ساعة متأخرة من المساء، بعد يوم عملٍ شاق، في أحد مكاتب تل أبيب قاصدًا حبيبتي حيفا.
صعدت إلى إحدى القاطرات، لأجد صدفةً مقعدًا واحدًا ووحيدًا بانتظاري. جلست متعبًا على المقعد، بجانب شابة يهودية متديّنة كانت تقرأ في سفرٍ من أسفار التوراة.
كان القطار مكتظًا، فالوقت متأخر والجميع يقصد العودة.
فبعد أن تأقلمت مع مقعدي، حاولت أن أغمض عينيّ لأسرق ساعة نومٍ من ليلي، فلم أنجح، فقد كانت القاطرة ضاجّة.
لاحظَتْ جارتي الشابّة المتديّنة تململي وعدم نجاحي في إغماض عينيّ، فالتفتَت إليّ متأفّفة ضاحكة:
\"أوف.. كم هم مزعجون هؤلاء العرب!\"
نظرت إليها مستغربًا.
فأضافت: \"أقصد حديثهم صاخب وضاجّ ويسبّب إزعاجًا\".
ابتسمت ابتسامة ماكرة، وقلت:
\"طبعًا.. فوجود العرب أصلاً في هذه البلاد هو سبب كافٍ للإزعاج\".
أجابتني بتلقائيّة: \"أنت محقّ\".
وابتسَمَت بدورها ابتسامة ماكرة، وجدتها تختلف عمّا حملته ابتسامتي من مكر.
فسألتها: \"وهل صوت هؤلاء الروس أقلّ إزعاجًا من صوت هؤلاء العرب؟\"
فردّت بخبث: \"يختلف. فعلى الأقل، غالبيتهم من اليهود أمثالنا\"!
قلت معقّبًا: \"تقصدين أمثالك\".
قالت: \"لم أفهم\".
فقلت لها: \"أنا أنتمي لهؤلاء العرب المزعجين\"!
تبدّلت وتغيّرت ملامح وجهها فجأة، وحاولت أن تغيّر من موضع جلستها على المقعد، والتفتت إليّ مجددًا راسمةً ابتسامة مصطنعة قائلة:
\"أها.. نعم.. مش باين عليك.. آسفة لم أقصد\".
لم أعرها انتباهًا، وكأني لم أسمع تعقيبها.
عادت وطمرت جارتي \"المتديّنة\" رأسها في الكتاب، محاولةً متابعة قراءتها أو صلواتها في تلك الأسفار.
لقد كانت القاطرة مكتظّة فعلاً، كما ذكرت.
فهذه العائلة العربية \"المزعجة\" كانت عائدة من مطار اللد، أو من مطار تل أبيب كما سمعت تلك السائحة البريطانية تقول، على الرغم من أنّ الشاب اليهودي وصديقته مصرّان على إبلاغ صديقٍ آخر عبر النقّال عن عودتهما من مطار بن غوريون... تعددت الأسماء وطريق العودة واحد!
حاولت استراق السمع، بعد أن فشلت بسرقة النوم، والتنصّت إلى \"إزعاج\" تلك العائلة العربية.
\"نشّفوا ريقنا\" - سمعت الحاجة تقول.
\"إنسي عادي. المهم انبسطنا\" – قال أحد المرافقين لها.
\"فتّشونا كثير كثير\" – عادت الحاجة لتقول.
\"بالأخير وصلنا إحنا وشنطاتنا بخير وسلامة\" – قالت مرافقة أخرى، قد تكون ابنتها.
علت مني ضحكة مؤلمة، أزعجت، القارئة النهمة، في المقعد المجاور.
فقد أعادني نقاش هذه العائلة العربية العائدة من مطار اللد، إلى أيام قليلة مضت، عند عودتي من رحلتي الأخيرة إلى مونتينغرو، حيث كنت عربيًا \"مسببًا للإزعاج\" عائدًا إلى وطنه.
منذ وصولي المطار وحتى لحظة إقلاع الطائرة كنت أنا العربي \"المزعج\" قيد التفتيش و\"التحقيق\" والمراقبة. فبعد أكثر من ثلاث ساعات متواصلة من الأسئلة والاستجوابات والتفتيش الدقيق للأمتعة والجسد، من قبل طاقم خاص وبارع، تعرّف على ألوان كلاسيني جميعها حتى ذلك الذي أرتديه، أصرّ على القيام بالواجب الوطني ومرافقتي إلى الطائرة قبل إقلاعها بدقائق معدودة فقط، بعد أن كان قد رافقني إلى المراحيض ليتعرّف أكثر وعن قرب، على ما بقي من أعضاء جسدي!
نعم.. فأنا عربي.. وأنا \"مزعج\".
صدّقوني، لم أكن مزعجًا، لا في المطار ولا في القطار، إلاّ أنّ كل ما ومَن حولي أصبح مصدر إزعاج.
أزعجتني هذه السفرة، أزعجني صوت القطار، أزعجني صوت الجندي الذي ما زال يغازل حبيبته هاتفيًا، أزعجني صوت الفتاة الروسيّة التي لم تكف عن التكلم، أزعجني صوت المسنّة مخاطبةً حفيدتها، أزعجني ضحك الصديقين، أزعجني صوت تقليب صفحات كتاب جارتي المتديّنة، حتّى أن حركات المسافرين جميعًا أزعجتني.
تبدّد انزعاجي أخيرًا، فها نحن على مشارف مدينة حيفا الحبيبة، لقد اقتربنا من العودة.
عدتُ.
غادرت القطار من دون إزعاج، لأراقبه يترك المحطة مستمرًا في رحلة عودته.
غادرت المحطة، مبتسمًا لوصولي إلى حيفايا سالمًا، لأعود مجددًا، بعد أيامٍ، أنتظر قطار العودة، الذي لا بدّ أن يأتي، مع أو من دون إزعاج.
 (حيفا)

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.77
USD
4.03
EUR
4.72
GBP
233747.42
BTC
0.52
CNY