قال باخ:\"اذا اردت ان تحكم على شعب فاسمع موسيقاه اولاً\" ، وكم كنت متشوقة لمعرفة رأيه بعد ان يسمع هديل صوتها ويطير محلقاً في سماء الرقي والإحساس المرهف !
فمن حنجرتها الذهبية تعمر بيوتاً روحانية تسكنك بها شئت ام ابيت وتنقلك الى عالمها كما لو مستك بعصا سحرية، لتتوه في دروب الالحان الراقية والتعابير البديعة الاخاذة ، فإذا ما سمعتها تغني للحب سينبت لك جناحان في فؤادك وتغدو عاشقاً متيماً حتى لو لم تحب ، وإذا ما بعثت بقلبها لتدندن وتبجل بالوطن ستشرق شمس الحرية تحمساً لمجد بلادك المعذبة فغناؤها لم يقتصر على العشق والهوى بل دخل من كل ابواب الحياة من سياسةٍ ودين ووطن حتى تخال ان المحبوب في \" القلب يعشق كل جميل\" قد يكون الحبيب العاشق ، بيدَ ان شدة الحب ما وصفت سوى مشاعر صوفية عظيمة ، خاصةً ان هذه الاغنية بالذات قد شكلت قمة التكامل والعظمة من كلمات والحان واحساس بالنسبة لها – اسطورة الشرق- ام كلثوم او ثومة كما اعتاد الشعب العربي تسميتها من باب الدلع والاحترام معاً !
الست ام كلثوم ، المطربة المصرية التي استطاعت دخول العالمية من اوسع ابوابها بعد نجاحها بالعيش في قلب كل عربي بمسيرة فنية دامت لأكثر من نصف قرن اتسمت بنفحات النغمات الجميلة ، وعبقرية الاداء ولم الشمل العربي وتوحيده من خلال الموسيقى بعد ان كانت قد بدأت المشوار في قريتها الصغيرة كمنشدة في الافراح وهي لم تكن قد تجاوزت الثالثة عشرة بعد ، الى ان بدأت بإحياء الحفلات لبعض اعيان القاهرة ، حتى تعرفت عام 1924 على القصبجي وكانت بداية المجد ، خاصة بتعاونها بعد ذلك مع ابرع عباقرة الملحنين في العالم العربي على مر العصور : محمد عبد الوهاب ، رياض السنباطي ، بليغ حمدي وزكريا احمد ، حتى لحنت هي بنفسها عدداً من الألحان الرائعة ..
هذه العظيمة استطاعت التفوق واثبات نفسها ، قدرتها وموهبتها حتى على غريماتها الجميلات ، وكانت تتدخل بكل التفاصيل الدقيقة لتصبح بعد ذلك اهم مطربات الشرق على الاطلاق.
وهذا ما يجعلنا نقف وقفة تعجب واحترام امام هذه الاسطورة ، وخاصة بعد مرور كل هذا الوقت على وفاتها بعد سبعين عاماً من حياتها المكتظة بالاحساس والاحداث ، فنحن نرى بأم عيننا وضع موسيقانا العربية والتي لا نميز احياناً إن كانت عربية ام غربية ، وأي اغنية تسطع لا بد وتغيب بعد شهر او اسبوع واحد ، هذا بالاضافة الى تطور التكنولوجيا والقدرة على ادخال التأثيرات والتلاعب بالصوت ظناً منهم ان كل الجمهور العربي بات غبياً لا يفقه شيئاً بالفن !
فهل هو الاعلام ما يلقي الينا بنكرات الفن ؟ ام هو جزء من مخطط سياسي استراتيجي؟ او ان ذائقة الشعب العربي قد باتت رديئة وغبية الى حد الاشمئزاز؟
لا استطيع الجزم بحياديتي في هذا المقال ، خاصة اني من عشاق ومدمني ام كلثوم ، لكنني اتعجب من جيل اليوم الذي لا افصل نفسي قسراً عنه ، انما جهل معظمه برباعيات الخيام ، سلوا قلبي، حبيبي يسعد اوقاته ، أغدا القاك ، لهو علامة سؤال كبرى لدي !
من الطبيعي جداً ان تغيرات العصر وسرعة التكنولوجيا قد اثرت بشكل كبير على حياتنا وبالتالي على فننا ، لكن العجيب هو غرقنا في الحضيض وتناسينا لأصل الابداع وأعلامه ، فكم \"فنانة\" سنجد اليوم ..تحترم فنها وجمهورها وتبحث عن ارقى لحن وكلمة دون ان تبحث باستماتة عن جميع الطرق الملتوية لخداع المتلقي..بعد ان غدت الصورة كل شيء بالنسبة للمشاهد العربي ؟
الاجابة واضحة ، فهم قلائل ومن النادر ان تجدهم للأسف ! ولكي نضمن مستقبل ابداعنا الموسيقي ما علينا سوى البحث عن الرقي والاحترام ، فهل من \"كوكب شرق\" ستسطع مرة اخرى؟
اشك بذلك ..ربما سنجد اصواتاً جميلة ، لكننا لن نجد ملحناً لهذه الأصوات كمحمد عبد الوهاب جديد ولا لقاء آخر للسحاب !