الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 27 / أبريل 23:02

أمَلٌ على ألم! بقلم: إياس يوسف ناصر

كل العرب
نُشر: 23/03/09 08:33

* يا أيها الموتُ الذُّعاف، قُمِ احْمِلْ سيفَكَ الكليلَ وامْضِ، فإنّ في قلبِ الأمّ حياةً أكبر من عَدَمِك

* ليس قلبٌ أكثرَ مِن قلبِ الأمّ شاعريّةً، حينَ يَصعَدُ مع الوَلَد إلى هُوَّة السّماء العميقة، فلا يستطيع الموتُ أن يُفرِّقَ بينهما


كلَّما رأيتُ اللَّيلَ صاعدًا في دَرَجَاتِ سَكينَتِه، وهو يَشْرَبُ الشَّمْسَ على مائدة الجبالِ والرّوابي، نَظَرْتُ إلى سَماءِ هَواجِسي فرأيْتُ تصاويرَ يُصوِّرها اللّيلُ على صَفَحَاتِها لأنَّها تُعانِقُ مَعانيَ نفسي.
في ذلك اللَّيلِ الذي يُخبِّئُ أسرارَ النهار في عَباءَةِ نُجُومِه، أُخبِّئُ أنا جَسَدِي، وألْتَحِفُ بثَوْبِ ذاتي، فأسَمْعُ صوتًا لي يَجُولُ في الطُّرُقُات مُحادِثًا ذكريّاتٍ لي قد مزَّقَها الزّمَنُ بِمُدْيَة أيامِه وسنينه، ومعانقًا أحلامًا جميلة تَنسُجُها خواطري بخيوط مُستَقبَلي.
في الليل أسْمَعُ نشيدًا لم أسْمَعْهُ مِنَ الطّيور عندَ الصّباح. أسْمَعُ نشيدَ السّارق الذي سَلَبَهُ الأغنياءُ طبيعَتَهُ فذهَبَ غريبًا في هذا العالم يَجُوبُ البِلادَ في مَلابِسِ الليل ليَتقنَّصَ قوتَ عِيالِهِ في الطّرقات والأزِقَّة.
وفي الليل أسْمَعُ صوتَ السّاهراتِ والسّاهرينَ على شُرَفِ الحبّ والْهُيام، وهم يُحدِّثونَ القَمَرَ حديثَ قُلوبِهم التي ألَّفَتْ بينها الأرواح وفرَّقت بينها الأشباح، فصاروا أرواحًا بلا أجسادٍ تَحوكُ هواجسُهُم أجملَ ذكرَيات العِشْق!.
وفي الليل أسْمَعُ صوتَ المشرَّدِينَ الذين يَلتَحِفونَ بالسّماء، ويَبحَثونَ عن مَآوٍ لهم ويَتوسَّدونَ مَفاتيحَ بُيوتِهم التي هُدِّمَتْ في الزّمان الغابر، فلم يَسْأَلْ عنهم غيرُ تلك الريح التي تَجوزُ الحدودَ حاملةً على كفَّيْها رائحةَ الزيتون.
وفي الليل أسْمَعُ عويلَ الثكلى التي تَنظُرُ بعين الوَلَدِ الحبيب وتَسمَعُ بأُذُنِه، فيُجرِّحُها الحاضرُ بالغائب، والمستَقبَلُ بالماضي. تُريقُ دُموعَها حتّى يَهتِفَ بها هاتفٌ يُفرِّجُ هَمَّها ويقول:
يا أيها الموتُ الذُّعاف، قُمِ احْمِلْ سيفَكَ الكليلَ وامْضِ، فإنّ في قلبِ الأمّ حياةً أكبر من عَدَمِك، وليس قلبٌ أكثرَ مِن قلبِ الأمّ شاعريّةً، حينَ يَصعَدُ مع الوَلَد إلى هُوَّة السّماء العميقة، فلا يستطيع الموتُ أن يُفرِّقَ بينهما، وكذلك يَبقَى قلبُ الشّاعر خفّاقًا في صَدْرِ قصائده وأناشيده وإنْ طَرَحَ عن جَسَدِهِ ثَوْبَ الحياة. 
وفي اللّيل أرى حقيقةَ الحياة التي لا أراها في وَضَحِ الفجر وضوضاءِ النّهار. هناك، في دَهاليز الليل أرى صِدْقَ الكذوب، واستقامةَ الْمُرائي، وشجاعةَ الجبان، وضُعْفَ القاتل. إنّ في هذا العالم ناسًا كثيرًا يَلبَسُونَ على خلائقهم مَلابسَ تُصيِّرُهم كِباشًا وهم ذئاب، وبُزاةً وهم غِرْبان، وزهرًا وهم شَوْك. وفي الدنيا ناسٌ كثيرٌ قد جَعلَهم سُلطانُ الشّرّ وشَظَفُ العيشِ سُجَناءَ وهم أحرار، وأذِلاّءَ وهم أعزّاء، ومُتجاهِلين وهم عُلَماء. فما أبصَرَ الليلَ الذي يرى الناسَ على طبائعهم حينَ يُجرِّدُهم مِن هذه الملابس وهم في ديارهم الذاتيّة حيثُ يَخْلُونَ ولا يَدْخُلُ عليهم أَحد. 
وما أعظَمَ الإنسانَ الذي يَبقَى على طبيعَتِهِ في ليله ونهاره، فلا يتزيَّا بغير زِيِّه. إنّ الياسَمِينَ - وإنْ خَنقَه الشّوكُ وَقَضْقَضَ قدَّهُ الميّاس - لا يُضمِرُ إلاّ العِطْرَ في أكمامه، وكذلك لا يَعْدَمُ الحرُّ حُرّيَّتَهُ وإنْ حُبِسَ في مَحبِسٍ مُظْلِمٍ تحت أطباقِ التراب. 
إنَّ مِن جَلالةِ الإنسانِ أنْ يكونَ إنسانًا وهو في غابة، وألاّ تُصيِّرَهُ أنيابُ المرئيَّاتِ والمسموعاتِ إلى وَحْشِيٍّ يَطرَبُ لغِناءِ الموت، ويَأكُلُ مِن جَسَدِ الإنسانيّة ويَشرَبُ مِن دُموعِها. إنّ إنسانًا يَقِظًا ثابتًا على سَجيَّتِه غيرَ غافلٍ عن نور الله في قلبه، مثلُ نَجْمٍ يُزاحِمُ موجَ الليل. فكما لا يستطيع الليلُ أنْ يُغرِقَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ في لُجَّةِ الفَلَك، كذلك لا يستطيع ليلُ الشَّرِّ الدّاجي في هذا العالم أنْ يَنتزِعَ من إنسانٍ صالِحٍ قلبًا ساطعًا وعقلاً ثاقبًا يَرْسُمُ بهما على وَرَقِ الحياة عَمَلاً صالِحًا باقيًا لأَبَدِ الأبَد.
ليس إنسانٌ صالِحٌ في جهنَّم كإنسانٍ صالِحٍ في جنَّة في الدنيا. إنّ الشَّجَرَةَ التي تَثْبُتُ بإزاء سَوافِي الرِّياح التي كسَّرَتْ أفانينَها، أفضَلُ من شَجَرَةٍ يُصْلِحُها الأكّارُ، فتنام على الفراش الوَثير وتنتبه حين تَسْمَعُ صَوْتَ العصافير.
فأُفٍّ لحياةٍ في هذا الزَّمن الذَّميم! إني لأعْجَبُ من عالَمٍ يتدرَّجُ هذا التدرُّجَ ويَبلُغُ هذه المبالغَ في العِلْمِ والفِكْر وهو يَسفَحُ دماءَ الإنسانية ويُشرِّدُ طفلاً ويَهدِمُ بيتًا ويَقتُلُ امرأةً لأنها تنسَّمَتْ نَسيمَ الحريَّة. ما انتفاعُنا بالطائرات، إذا لم يَطِرْ بعضُنا إلى بعضٍ شوقًا وحبًّا! وما انتفاعُنا بالصّورة إذا لم يُصوِّر الحبُّ صورةَ الحبيب على حِيطانِ القلب! وما انتفاعُنا بالمصابيح والسُّرُج في البيوتِ والسّاحات إذا لم يَكُنِ الإنسانُ نورًا في دَياجي الليل، وضِياءً في وَضَحِ النهار! وما انتفاعُنا بأنْ نَبْلُغَ القَمَرَ، وعلى وِسادَةِ الأرض غُلَيِّمٌ يَبكِي!
أمّا أنا يا أيها السّائل عني في غُرْبَةِ الليل، فإني لا أطلُبُ شيئًا من هذا العالَمِ الذي إذا سَهِرْتُ في ليله صِرْتُ أعمَى يتوكَّأُ على عصا جاهليَّتِه. فلن يُحمِّلَني جارِحٌ سِكِّينًا أَجْرَحُ بها النّاس، ولن يَصنَعَ سجّانٌ مِنْ قلبي سِجْنًا للأحقاد، ولن يَنتزِعَ مني شامتٌ مَحبَّتي التي أفرِّجُ بها كُلَّ هَمٍّ يُنغِّصُ عَلَيَّ أيّامي!. إنّ الأرضَ التي يَمُجُّ الشتاءُ الثائِرُ في أُذُنِها هَزيمَ الرَّعْد، وَيَخْطَفُ عينَيْها ببَرِيقِ البَرْق، ويُقيِّدُ يَدَيْها بأغلالِ الريح، تُخرِجُ مِن أحضانِها بعدَ ذلك رَبيعًا زَاهِرًا يُطلِقُ عُصفورًا مُغرِّدًا ونَسيمًا أَرِجًا ويُنمِّقُ المروجَ والتلال بفُصوصِ الياقوت والزُّمرُّد.
فأنا أُحِبُّ ليلي الذي يُحادِثُني ويُكاشِفني بما فيه فلا يَكْتُمُني أمرًا حين يُطلِعُني على حقائق الأشياء حتّى حقيقتي يُطلِعُني عليها. وأنا أُحِبُّ ليلي الذي يُنبِّهُني مِن نومي لأُنبِتَ سنابلَ فكري في سماء دفاتري، وأعشَقُ سَكينَتَهُ التي تُسمِعُني صدى الموسيقا خارجًا مِن عُمْقِ روحي. هكذا ليلي يا أيها السّائل عني، فما كان إنسانٌ غيرُ مُبصِرٍ في ليله لِيُبصِرَ في نهاره، مِنْ قِبَلِ أنّ العينَ لا تَستَنِيرُ بغيرها، وليس للنَّباتِ أنْ يَنبُتَ فيُثمِرَ بغير العُروق المتأصِّلة في عَتَمَةِ الأرض العميقة.
(كفرسميع)


الكاتب إياس يوسف ناصر

مقالات متعلقة