كثيرون هم من يظنون أن بين الفقر والفكر مسافة بعد الجهل عن العلم.. بعد الواقع عن الوهم.. بعد الوعي عن اللاوعي, العلم بالشيء يعاكسه الجهل به.. لكن المعادلة تختلف تماماً في قضية الفقر والفكر... فالفقر بحد ذاته فكر فلسفي مبني على أوسع الأيديولوجيات انتشاراً على الأرض.. أيديولوجية الفقر همشّت الفكر النظري لترتقي إلى الفكر الواقعي الذي تعيشه أكثر شرائح المجتمعات انتشاراً في العالم.
فمن نظرية الفقر وفلسفة هذا الواقع ينبع الفكر.. الذي جابه وضاهى الفكر والنظرية الرأسمالية في القرن المنصرم .. فكر طبقة البسطاء والكادحين والعاملين .. فكر التطبيق والتوصل إلى النظرية الواقعية ونبذ النظرية الوهمية المتضعضعة التي تعتمد بالأساس على انحناء ظهور ألائك الذين أتوا بفكرهم الجديد.. ليثبتوا فعاليته وشفافيته الشعبية والاجتماعية ومحو الطبقية.
فكر الفقر هو أغنى ما يملك الفقر حقاً .. فهل يصمد هذا الفكر بلا فقراء؟؟؟
" الفقر " .. هذه الكلمة.. التي نلاحظها حتى من افتقارها إلى كمية الحروف الأبجدية.. بحيث نضيف إليها "ال" التعريف.. صدقة جارية.. لكن المعاني والمآسي والحنظل المسكوب على هذه الكلمة كما يُسكب القطر على الحلوى.. تضفي إلى هذه الكلمة نبضة كهربائية نشعر بها تجري في أجسادنا كلما وخزنا الواقع لنستفيق على هذه الكلمة.
للفقر دلالات لا تُعد ولا تحصى .. فقر المال.. فقر العقل.. فقر الدم.. فقر الحيلة.. فقر العلم..
كلها تثبت وجودها يومياً في كل بقعة تراها الشمس في بلادنا, لكن الفقر الذي أتت مقالتي لتبحثه , هو الفقر الذي يجمعنا جميعاً أغنياء وفقراء .. بسطاء وذوي شأن .. تقدميون ورجعيون,
فقر الكينونة الذاتية.. الهوية الوطنية .. الثقافة القومية .. والنظرة الإستراتجية لاسترجاع مكانتنا الأصلية بين وجهاء القوم.. بهذا الشأن .
من نحن؟ نحن الشعب الأكثر امتلاكاً لتعددية الهوية الذاتية على وجه البسيطة.. إذا سُئلنا من أنتم؟ نتحير أي الهويات نكشف للسائل.. فلا بد أن نحلل السائل أولاً من أين أتى؟ وما الإجابة التي ينتظرها .. قبل أن نجيب.. فنختار إحدى الهويات الكثيرة التي نمتلكها لنعرف ذاتنا بها.. فلدينا الهوية الإنسانية.. والهوية القومية والهوية محدودة القومية وهوية الجنسية والهوية الدينية والهوية الطبقية والهوية الإنحدارية وهوية ال"ما قبل 1948" وما بعد " 1948" .....
يتساءل البعض.. أتملكون كل هذا؟؟؟؟ وتنعتون أنفسكم بالفقراء؟؟؟؟؟
نعم.. نحن لا ندعي الفقر.. نعرّف أنفسنا بإحدى تلك الهويات لمصلحة زمنية عندما تنتهي نعيد تلك الهوية إلى مخدعها ... نعيش لنأكل ونشرب ونتزوج وننجب ونموت.. ويكمل نسلنا بالأكل والشرب والإنجاب والموت ... لماذا؟؟ لو أننا مقتنعين حقاً بأي من الهويات التي نمتلكها .. ما كنا لنسأم هذه الحياة.. لكننا نعيش.. دون أن ندري لماذا نعيش؟؟ جدي فلسطيني عربي مسلم من اللجون  ... أبي فلسطيني إسرائيلي عربي مسلم أبوه من اللجون.. أنا عربي فلسطيني إسرائيلي مسلم جدي من اللجون.. هل شعرت حقاً ماذا تعني كينونتي كفلسطيني؟؟ هل أنا على اقتناع تام بأنني إسرائيلي -إلا على جواز السفر-؟ هل يتقبلني العالم العربي على أنني عربي فعلاً ؟؟؟ هل...... أعرف اللجون؟؟؟؟؟  قبل عدة أيام سُئلت في الجامعة من أين أتيت في هذه البلاد من بعض الأصدقاء ( من أبناء العم !!)... أجبت  " أعيش في القدس.. أصلي من أم الفحم" فعرف شخص آخر عن نفسه " أنا من يوكنعام".... فسارعت بالقول.." أصلي من اللجون" ... هل..... أعرف اللجون؟؟؟
سألوني أين تقع اللجون؟؟؟ أجبتهم " سلوا قبور يوكنعام "...
أشعر بانتمائي إلى زيتون جدي .. أغار على فلسطينيتي.. وأحتاج مجبراً إلى إسرائليتي.. ولا أستطيع العيش بلا عروبتي وقد أموت قهراً إذا ما شُتم إسلامي... لكنني في الواقع.. لا أحد من هؤلاء..... أنا الفقير الذي يحتاج ثورة الفكر من جديد.. أنا الفقير الذي يحتاج أيديولوجية جديدة.. وإستراتيجية جديدة... يا سادتي أنا الفقير... الذي لا تفيده تبرعاتكم... لأن كل من يقرأ هذه المقالة فقير مثلي.. سلوا أنفسكم... من أنتم من كل الهويات التي ذكرت؟؟؟؟؟ تجدون أنكم لا أحد منها.. لكنكم تكابرون....
نحن نفتقر إلى الهوية الوطنية... ونعلم أن الثورة والتغيير يأتي دائماً من طبقة الفقراء والكادحين.. فلا بد يُولد الإنتفاض على ذواتنا من ذواتنا المريضة بما يفوق انفصام الشخصية... ذواتنا مريضة.. بانقسام الشخصية لألف هوية لا تعبر عن ذرة فينا.. لأننا لا نعلم عنها سوى مشاعر موروثة.. وقنابل ثورة موقوتة... أفلا نفجر ثورة الفكر حتى نستعيد بناء الذات.. وهوية الذات  من جديد؟؟؟  لن نبحث عن تعريف جديد... فلدينا ما يكفي من التعريفات.. لكن أفلا أفهم سبب انتمائي لزيتون جدي؟ وغيرتي على فلسطينيتي؟ وموتي بلا عروبتي؟ ونصرتي لديني؟؟
الثورة التي لا بد منها.. هي الثورة على  ضياعنا القومي.. فإذا أتينا بكل شخصياتنا المتعددة الهويات.. ولحمنا أجزاءها لنعود شخصاً واحداً ,عندها سأفهم دافعي من وراء اختيار كل هوية مما أملك.. وعندها.. سأفتقد الفقر حقاً وأنعم بانسياب الروح في استرخاء الواقع...
فيا فقراء الذات... اتحدوا....