الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 11:02

مصر والدة محمود أمين العالم


نُشر: 11/03/09 07:29

رحل عنّا المنَظِّر والكاتب والفيلسوف العظيم محمود أمين العالم يوم السبت الماضي وكأنما هو قرّر أن يتضامن في موته مع شعبنا في أكثف وأحلك أنواع الموت والقتل والإبادة، التي يتعرّض لها في غزّة انتقاما منه لصموده بواسطة جبروت الآلة العسكرية الاسرائيلية الأمريكية.
بدا هذا العملاق العَلَم العالم المغادر عنّا كالجندي المجهول في خضّم أحداث غزّة، فليس كافيا أن يمرّ موته على هذا الشكل الصامت وبدون على الأقل أن نسدي اليه قليلا من النعي والوداع.
زرته في القاهرة كي أعرض عليه أحد كتبي كي يكتب لي مقدّمته وأنا شبه متيقّن أنه لن يجد وقتا لكاتب ومسرحي مجهول مثلي، ولكنّه استقبلني بحفاوة منقطعة النظير وأبدى كامل الرضا عن استعداده التام لبذل أقصى ما عنده من مجهود كي يكتب لي المقدّمة بأسرع وقت ممكن، وكان حبّه لفلسطين دافعه الأول لإنجاز المهمّة قبل ان يقرأ محتويات الكتاب، مع أنه تحمّس اكثر عندما عرف انني من أحفاد جدّنا الحكواتي الذي اسسنا له مع أصدقائي بيتا مسرحيا في مدينة القدس المحتلة اسمه مسرح الحكواتي.
تذمّرت له كثيرا عن انطباعاتي السلبية التي جمعتها عن مصر خلال زياراتي المتلاحقة السابقة، خلال تقديمي لعروض مسرحية هناك وخلال فترة إصداري لروايتي "الجراد يحب البطّيخ" في القاهرة. كان الاستاذ محمود يستمع الى تذمّراتي بكامل الهدوء والتيقّظ، ومن ملامح وجهه أيقنت انه يتألم لما كنت أتألم منه، ولكنه لم يلجأ الى التباكي او الدفاع عن النفس، بل أجابني بكامل العقلانية والموضوعية والتحليل العلمي.
أخبرته أنني لم أشعر أنّ مصر التي أزورها الآن هي مصر التي طالما حلمت بزيارتها، مصر عبد الناصر، مصر أم الدينا، مصر الكرامة والسيادة. شممت رائحة فساد في أفقها. في الشارع لا تستطيع ان تَسْلَم من فلسفة: "يا بيه.. يا فندم، يا باش مهندس، أي خدمة يا بيه.." جميع سائقي التاكسي الذين سافرت معهم هناك كانوا يخدعونني بطلب المزيد من الأجرة بعد أن كانوا يعلمون انني سائح عربي، وربما ظنّوا انني من امراء الخليج الأغنياء، ولكنني كنت أسارع فؤأكّد لهم أنني فلسطيني، فيسارعون بالرّد:"أغدع ناس"، فأظنّ انهم بذلك يتضامنون معي، وسرعان ما أكتشف أن "أغدع ناس" معناها أنّ الزبون سائحٌ فلسطيني من أغنياء الخليج ووقع في الفخّ. كثيرون ممّن كنت اسألهم عن عنوان ما او اسم شارع، والذين يخدمون في الفنادق والمطاعم كانوا يقولون لي:"أي خدمة يا بيه"، فأظنهم يريدون متابعة إسداء الخدمة لي، وفهمت لاحقا أنّ هذا المصطلح معناه "أعطني نقودا مقابل خدمتي لك".
لا قيمة للوقت والمواعيد، والفوضى عارمة، فتأخُّر ساعة عن الموعد هو أمرٌ طبيعي، والتأسف عن الخطأ أمرٌ روتيني، وكلمة "معليش" طاغية على كل شيء. قبل زيارتي لك كنت برفقة المخرج السينمائي المعروف علي بدرخان، وسألته: الا يولّد كل هذا الضغط من التراكمات السلبية والفساد والفوضى والفقر والذّل ومن الطبقية المفرطة انفجاراً؟ فقال لي بأسى:"نحن الشعب المصري الشعب الوحيد في العالم الذين بدلا من أن يثور على الجوع وعلى النظام الذي يجعله على هذا الشكل، فإنه كلما جاع أكثر يشدّ الأحزمة على بطنه أكثر كي يحيل التهمة الى معداته بدلا من إحالتها الى مسبّبي فقره الحقيقيين".
بعد أن أفرغت جلّ ما في جعبتي من تذمّرات وشكاوى عن مصر، "صَرَطَ" الاستاذ أمين العالم بريقه قليلا وردّ بكامل المحبّة والعقلانية والهدوء:
"مصر التي شاهدتَها واكتشَفْتَها على السريع يا عزيزي خلال فترة زيارةٍ سياحية عابرة ليست كلها هكذا. معظم الذين يقابلهم السائح هنا هم اناس يعيشون من السياحة، وهؤلاء لا يمثّلون كل مصر. مصر فيها ثوريون وتقدميون ومحبون لدرجة التفاني لفلسطين ولصالح الأمّة العربية، ولكنهم يعملون على نار هادئة. صحيح أنّ الظروف العامة والعالمية أقوى ولكن المادة الخام النظيفة لا تزال متوقّدة في صدور المصريين. المواطن المغلوب على أمره والذي تركته الدولة والسلطة بدون عناية مضطرٌّ أن يبني دولته الذاتية والخاصة والشخصية كي يحافظ على بقائه. كل مواطن يبني لنفسه اقتصاده ومدرسته وفلسفته وقيادته واستقلاله الذاتي مع محيطه لأنه في لحظات الانهيار العظيم فإنه إن تركَ الأمور لقيادة الدولة الفاسدة لمات جوعا ولانقرض. أصبح الكثيرون هنا عبارة عن دولة أفراد داخل دولة فساد، ولكنّ الخامات النظيفة من ابناء مصر الطيبين والمبدعين والمفكرين والفلاسفة والأصيلين لا تزال موجودة ولا بدّ لهذا الغليان البطيء أن ينفجر يوما ما او إن لم يكن بواسطة الانفجار فبواسطة التغيير البطيء كما الماء في الصخر. سوف يصل الجياع الى مرحلة لن يستطيع الحزام المستمر في الضغط على بطونهم، منعا للشعور في الجوع ومنعا من مغامرة مناطحة النظام، أن يكون ملاذا آمنا لخنوعهم، فإما الموت او الانفجار من أجل الخلاص. لا أحد يستطيع الهروب من حقيقة أنّ الضغط يولّد الانفجار.
سألني خلال زيارتي الأخيرة له التي ذهبت اليه كي أستلم مقدّمة كتابي الجديد: "هل لا زلت تحمل الفكرة السلبية ذاتها عن مصر بعد أن تعرّفت على بعض الأصدقاء الجدد عن قرب خارج حدود التاكسي والفندق والمطعم السياحي؟"، وكانت إجابتي بكامل الثقة: "لا. بعد أن تعرّفت عليك، وما دامت مصر فيها عظماء وأصيلون ومتفانون ومخلصون من أمثالك يا استاذ محمود فلا شكّ أن مصر بألف خير". الوداع يا استاذ محمود.

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.76
USD
4.03
EUR
4.72
GBP
235217.96
BTC
0.52
CNY