الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 27 / أبريل 07:02

وديعة بنت ابي وديع

قصة: ناجي ظاهر
نُشر: 02/03/24 15:21

احتضنت حقيبتها اليدوية كما تحتضن الام ابنها المشوها. فتحت خوخة البوابة الكبيرة وانطلقت في شوارع البلدة الغافية. هذه الساعات المتأخرة من الليل هي الافضل لها ولأحلامها الجميلة. في النهار.. هي متأكدة انها لن تعثر الا على ما يغيظ وينكد عليها. اما في الليل فقد تحدف الظلمة القاتلة من يملا حياتها ووحدتها، فيغير حياتها ويدخلها الى جنانِ نعيمٍ طالما تمنتها وحلمت بها، رغم الشانئين والحاسدين التاريخيين.

عاشت وديعة بنت ابي وديع وما زالت تعيش بعد رحيل والديها، في غرفتها القديمة مع اختها. في الغرفة الضيقة المعتمة في بيت العائلة.. يقضي اخوها سحابة يومه متآمّرا، منبها وموبخا. المصيبة ان اختها تبرعت في ان تكون عينا عليها، تنقل اخبارها الى اخيها وديع اولا بأول. ها هي وديعة تصل السابعة والثلاثين دون ان تكون لها قصية حقيقية تكون هي بطلتها ويكون بطلها شاب متميز ذو اطلالة بهية، شعره مثل الليل ووجهه مثل القمر. ومن اجل ان تكون وديعة جديرة بفارسها المنتظر، عملت المستحيل لان تبدو في هيئة المرأة المثقفة و.. حتى الدارسة الجامعية المتفوقة. بحثت عبر اكثر من طريقة لان تطور نفسها.. وما ان التقت بمن تخبرها انه بإمكانها الالتحاق بدورات جامعية حرة.. حتى وجدت حبل النجاة فتعلقت به.. وتعلق بها، حتى انه بات من الصعب على المحيطين بها التمييز بينهما.. هي وحبلها.

مضت وديعة تخب في شوارع بلدتها مثل حصان نسيه اصحابه في الخلاء. وراحت تتنقل من شارع الى اخر. كم هي بحاجة للخروج من مكانها وزمانها. يا الله.. كم هي تحتاج الى من يأخذ بيدها ويرشدها الى سواء المصير في ظلمة الدرب العسير.. كم وكم والف كم تعبث بها وتتنقل بها من شارع ضيق الى ساحة اضيق.. ومن ساحة منخفضة الى شارع اخفض. لم تكن في كل مكان تقع عيناها المتعبتان عليه سوى الظلمة، ورغم ان اشعة شحيحة كانت تفد من الأقاصي البعيدة، لتنعكس على واجهات الحوانيت الخالية من اصحابها، فهي لم تر سوى اللون الاسود يصبغ مدينتها.. وكل ما وقعت عليه عيناها.

شدت وديعة على يدها مصممة: "الى متى يستمر هذا الوضع؟"، تساءلت ومضت تخاطب نفسها: "بعد ايام اطفئ الشمعة السابعة والثلاثين.. فهل سأشعل شمعة؟". تناولت شمعة اعدتها، دون ان تعي، لهذه المناسبة واتخذت ركنا قصيا من حديقة المدينة الغاطة في سباتها المزمن، و.. اشعلت عود ثقاب ادنته من فتيل الشمعة لينير في الحلكة القاتلة وليجعلها بالتالي في خفة محتملة.

عاشت وديعة مع شمعتها لحظات رومانسية متمناة، ما اجمل الحياة بعيدا عن اختها الجاسوسة التاريخية ووشاياتها المبالغ فيها.. الدامية، وعن اخيها وديع.." الله يرحمك يا امي.. ذهبت وتركتني وحيدة في هذا العالم.. ليسامحك الله يا والدي نقلت خيزرانتك قبل ان تولي في دربك الاخيرة الى وديعك ليواصل تأمّرك.. تنبيههك وتوبيخك".

اهتزت الحديقة. بخفة لا يمكن لأي انسان ان يشعر بها سوى وديعة ذاتها. اغمضت.. وديعة.. عينيها وفتحتهما لترى اجمل ليل واروع قمر ينبق من بين الاشجار القريبة المحاذية.. ويدنو منها رويدا رويدا.. خفضت راسها خفرا وحياءً، واغمضت عينيها، فمد الفارس المقبل الهُمام يده الى اسفل وجهها ورفعه الى اعلى. لترى كل ما تمنت ان ترى طوال ليالي حياتها وسنواتها الطويلة.

"هل ستاتين معي؟"، سألها الفارس المفاجئ وهو يرسل نظرة الى حصانه العربي الاصيل، هناك تحت الشجرة الوارفة. لم تجب فعاد يسالها" لماذا لا تردين انا قادم الى هنا من اجلك..". اصابتها سكتة متوقعة وغير مفاجئة، عندها لم يكن من مفر امام الزائر الليلي المُخلّص، من دعوتها لان تتبعه وسار هو باتجاه حصانه تحت الشجرة فيما تبعته مبهورة كأنما هي مسحورة. شعور قوي شدها اليه.. جعلها تنسى اختها الواشية واخاها الظالم، وحتى امها واباها. نسيت كل ما احاط ويحيط بها، ماضيا وحاضرا، وفطنت الى امر واحد، هو انها لا يمكن ان تقول "لا" في لحظة عمرها المنتظرة. انطلق الفارس يطوي ارض الحديقة طيا، كأنما هو يقدم شوطا استعراضيا، ابتعد واقترب، وفجأة علا صوتها غصبا عنها: " انتظر"، انتشرت على وجه فارسها ظلال بسمة رضيّة. اقترب منها مد يده نحو يدها الممدودة اليه دون ارادة منها، جذبها فطارت في الهواء، لتستقر خلفه على صهوة حصانه، ولينطلق بالتالي في جنائن الارض وحدائقها الغناء.

تواصل الحصان العربي يدب في صحرائها، حاملا اياها برفقة حاملها الطائر المجنّح، الى ان وصل الاثنان الى جنات تجري فيها الانهار، تحتها انهار وفوقها انهار، وبين الانهار اشجار ذات ظلال والى جانبها اشجار ذات اثمار، كبح الفارس جماح حصانه جاذبا لجامه اليه.. وتوقف" هل يعجبك هذا المكان؟"، سألها.. وقبل ان ترد عليه لاحت لها وجوه من الماضي واخرى من الحاضر.. بقيت الوجوه تظهر وتتلاشى.. الى ان بقي وجهان اثنان .. لا غير.. وجه اختها الواشية واخيها المتأمّر .. وبدلا من ان تعرب عن فرحتها كما توقع فارسها، صرخت من اعماق خوفها:" وديع"، بدا ان الفارس فهم ما ارادت ان توصله اليه، فسالها عما اذا كانت تريد ان تعود الى بيتها، فهزت رأسها علامة الموافقة، فما كان من الفارس الشهم الا ان تناولها من جنتها الموعودة و.. العودة بها الى حديقة المدينة. هناك اتفق معها على ان يلتقيا كلما حلت ضيفة عزيزة على حديقتيهما المباركة.

بعد ان ولى الفارس مختفيا بين الاشجار ذاتها، وجدت نفسها وحيدة كأنما هي المرأة الوحيدة على الارض. بعد قليل حملتها رجلاها مجددا لتتوجها بها صوب بيتها.. وتصورت نفسها تفتح خوخة بوابة بيتها الكبيرة وتدخل منها، حاضنة حقيبتها اليدوية، كما تحتضن الام ابنها المشوها.. ومضت باتجاه غرفتها وسط وجه اختها المقطب وصراخ وديعهم.. لأول مرة لم تعبأ بما يدور حولها، واستلقت على سريرها.. واستلقى الى جانبها.. حلم.

مقالات متعلقة