الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 16 / مايو 21:01

المٌُ استحال حبًا!- فؤاد خوري


نُشر: 17/12/08 17:02

بعد يومٍ طال فيه الانتظار، حلت رجاء على هذه الدنيا، وما كان أبهاه من مجيء، فسماتها التي كانت تتمتع بها ما لبثت أن دخلت إلى كلِّ قلبٍ، فالشعر الذهبيّ المتهدّل على كتفيها، والعينان الزرقاوان اللتان تتطلعان ورغم صغرهما إلى شيءٍ بعيد، إلى أمرٍ يمتُّ بمستقبلٍ واعد، مستقبلٍ جميلٍ سينير لها دربها، ويفتحُ لها أبواب السعادة.
 وهكذا حلَّ قدوم رجاء إلى البيت أغرودة أملٍ لوالديها منال وربيع، ولدى كلِّ من حظيَ برؤيتها وبملاعبتها، ويكفيه حتّى لو نظر إلى وجهها، هاتان العينان تمامًا كعيني والدها وفمها والوجنتان تشبهان قسمات أمّها، أمّها منال التي ما أن ولدتها حتّى زال كلُّ شعورٍ بالألم، وأضحت رجاء الأمل، رجاء الحياة والسعادة وأسمى ما في الوجود.
فقد كان يعمل ربيع مهندس ديكورات وتصاميم، ومنال تعمل ممرضة في عيادة البلدة، ورجاء طفلتهما التي أضفت بقدومها رونقًا  على حياتهم وبريقًا في دنياهم .
ومع مرور الأيام كبرت رجاء في كنف والديها ومع جديها والديّ ربيع، فقد كان ربيع يسكن بمحاذاة والديه، ومرّت السنوات سريعةً، حتى أصبحت رجاء فتاةً يانعةً في ربيع عمرها الباسم الضحّاك، فتاةً تتسّم بالخلق الرفيع، وبالجمال الفتّان، وكانت فوق كلّ هذا فتاةً ممتازةً على الصعيد العلمي، يشهد الجميع لذكائها ونباهتها، حتّى معلموها كانوا يُذهلون من تساؤلاتها التي كانت تثيرهم أحيانًا، فيغدون في حيرةٍ من أمرهم!!
فقد كانت رجاء فتاةً لامعةً بكلّ ما في الكلمة من معنى، ولكن في الآن نفسه مَن يتعرف إليها جيدًا، لا إلى شكلها فحسب، يشعر أنَّ هنالك لغزًا، هنالك سرًا يحيط بهذه الفتاة، وخاصةً من يتحدث إليها لا بدَّ أن يدرك أنّها لا تستطيع الكلام، إنّها وُلدت مع هذه المشكلة، ولكنَّ الأمر كان غامضًا مبهمًا، إلى أن أصبحت في سنٍ كلُ الأولاد فيه يبدأون بالكلام، وهي لا تتكلم، ومرت سنواتٌ بعد سن السابعة، وهي والصمت الذي يكتم أنفاسها، والذي يخنقها ويحبس الدموع في عينيها عندما تقترب إحدى زميلاتها لتكلمها فلا يبدر منها سوى إشاراتٍ تحركها بأيديها، ويبقى الصمت هو سيد الموقف، الجميع في المدرسة أدرك مشكلتها وعرف ما بها، وفي حصص التعليم، لم يكن سؤالٌ يُوجَّه للصف إلاّ وكانت هي الأولى هي السبّاقة في رفع إصبعها لتحّل السؤال على اللوح، وليُذهل معلموها من ذكائها الذي ينجلي واضحًا رغم ضعفها، ورغم الدموع الساكنة عميقًا في فؤادها.
وأكثر ما كان يؤلمها هو شعورها أنّها غريبة، أنّها هي الوحيدة بين زميلاتها التي تمتلك نقصًا، فتسمع أصواتهّن وهنَّ يتحاورن، يتشاجرن، فتتمنّى لو تشاركهنّ هي أيضًا، ولو حتّى في الشجار، المهّم أن تنطق، أن تتكلّم....
والأولاد في صفّها كبروا، وأصبحوا شبانًا، وهي شابة جميلة رائعة المحيّا، وأكثر ما كان يلفت نظرهم هو الضفيرتين الذهبيتين، ولكن عندما يدركون حقيقة من تكون، حتّى يزيلوها سريعًا من تفكيرهم،وهم في حسرةٍ على ذلك، سيّما أنَّ قلةً من بين الفتيات من كُنَّ يتمتعن بالمواصفات كافةً في شخصٍ واحد،  فالعيون والشعر والوجه والقوام كان فيها جميل ومميز.
تسمعهم حين يحاولون التخفيف عنها، فوالداها عندما كانت صغيرة تذكر كم أخبراها أنّها عندما ستكبر لن تكون على هذا الحال، ولكن هي لا تصدقهما، لا تصدق نظراتهما التي يوّدان بها أن يطمئنوها على أنّها ستصبح في حالٍ أفضل، وهو في الحقيقة حالٌ سيء، حالٌ يبتعد لأجله عنها الجميع، وتبقى هي وحدها ونظرات المارّين من حولها التي تسفر عن شفقة ورثاء لحالها.
إنّها الآن كبيرة، ولم يعد أهلها يستطيعون أن يخففوا عنها بعد محاولين تسهيل الحال، ولكن بقدر ما كان الصمت يحتلُّ منها ومن أغرودة وجهها، بقدر ما كانت قوية صامدة، أبت أن يكتنفها اليأس وتكون لا شيء، وإن قالوا الناس ما شاؤوا، ورغم الدموع التي تحصر فؤادها والتي إن دلّت فهي تدّل على ضعفٍ، على يأسٍ وهوان، ولكنّها تبكي لوحدها في صمتٍ فهذا أقلُّ شيءٍ تستطيع أن تعبّر به عمّا بداخلها، فتبكي وتصلي وتقرأ من كتاب الله بعض الآيات كل يومٍ، مؤمنةً أيّما إيمان أنَّ الله معها ويساعدها ولن يتركها وحدها، فترتاح نفسها عندما تقرأ ويهدأ فكرها وتذهب في سباتٍ فكريٍّ تحلم به وتحلم مطولاً، وتمّر ليلة يطلُّ بعدها ضوء الشمس، لتلبس ثيابها وتذهب للمدرسة، وهناك ينتظرها يومٌ عسيرٌ كباقي الأيام، يومٌ يجعلها تشعر بالآلام أكثر وأكثر، ولكن هذا اليوم، لم يكن كما اعتقدت، فها هي ترى شابًا يقترب منها، وهي التي اعتادت أن تكون وحيدةً بين أبناء صفّها، فيدنو هذا الشاب منها أكثر، هي تعرفه، إنّه في نفس سنّها، ولكن في صفٍ أخر، تساؤلاتٍ تلتها تخمينات تراودت إلى فكرها، ماذا عساه يريد، وهو يعرف من تكون، أيُعقل أن يتطلّع شخصٌ لحالها، وبعد دهشةٍ من أمرها، سردَ عليها هذا الشاب قصته ودموعه تملأ وجهه، فأخبرها أنّه يتيم الوالدين، لا أحد له في الدنيا سوى جدته، وها هي الآن تُوفيت، أجهشت بعد ذلك بالبكاء، تفاجأت رجاء عند سماع قصته، فلماذا بالذات هي يقّص عليها معاناته، وهذه المرة الأولى، التي يكلمّها بها، ربّما يشعر بحالها هو أيضًا، ورآها هي الوحيدة من بين كثيرين التي شعر أنّها ستفهمه وتدرك بحاله، رغم أنّها لا تتكلم، في تلك اللحظة ما كان من رجاء سوى هي الأخرى أن ذرفت دموعًا، كلاهما يبكي، وكلاهما الآن يضحك، يفرح، لم يكن ذلك حلمًا، بل كان حبًا..... أسفر فيما بعد عن زواجٍ...!! 

مقالات متعلقة