الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 27 / أبريل 21:02

لا تلوموا الضحية .. حتى ولو طارت-أمير مخول

أمير مخول
نُشر: 25/08/22 06:10,  حُتلن: 08:24

ما هي حجتنا حين نحاجج فلسطيني او فلسطينية من رام الله يريد السفر من مطار رامون في منطقة تمناع في النقب؟ هل نقول له إياك والسفر؟ أم انه يشرعن الاحتلال والتطبيع معه؟ وقد تصل الامور حد التخوين للفلسطيني الفرد. غالبية شعبنا في الضفة الغربية لا تستطيع السفر فإما لحواجز احتلالية وتصنيفاتها الاستخباراتية وإما لحواجز اقتصادية حيث بات السفر الى خارج الوطن مسألة رفاه زائد لا يترك مكانا للتفكير بالحق فيه. كل شعبنا في قطاع غزة محروم من السفر برا وبحرا وجواً، معظم لاجئي شعبنا محرومون من الحق بالتنقل والحركة، وغالبيتهم لا ينتقلون من مكان الى مكان الا عند الكوارث وتكرار اللجوء الى اللجوء الأبعد، لتصبح دروب العودة متاهات شبه مستحيلة التجاوز.

بعد اتفاقات اوسلو وفي مرحلة القناعات بأنها دولة، قامت دولة الاحتلال وفي أوائل غزواتها في هذه الحقبة بتدمير مطار غزة الدولي، وثبتت سيطرتها في منطقة قلنديا كي تزيل أية امكانية لمطار فلسطيني، وحولت المكان الى سجن كبير (عوفر) وحاجز يسجن شعبا.

حاليا وفي زمن اتفاقات السلام الابراهيمي والسلام الاقتصادي وتقليص الصراع، فقد مَنّ المستعمر على ضحاياه بأن منحهم إمكانية السفر للخارج من مطار رامون على اسم الطيار ايلان رامون الفضائي الاسرائيلي وأحد قادة الهجوم على المفاعل النووي العرقي وتدميره في العام 1980. وإن كان المطار الجديد لا زال يعاني من شحٍّ من المسافرين اليهود، فقد ينقذه الزبائن الفلسطينيون. وهو يذكرني بأمرين؛ الأول هو حُجرة انتظار البوسطة في السجن حيث يتم تكديس الأسرى فيها وأحيانا لا يكون مجال لأية حركة من كثرة اكتظاظ الاسرى الواقفين انتظارا للّا  - فرج. وإن نجح احدهم في إشعال سيجارة قام بتهريبها ليتقاسمها مع زملائه ليزاحم دخانها الأسرى على المكان، وإن تضايق أحدهم فيتحول التوتر بين الاسرى بدلا من صبّ غضبهم على السجان ودولة السجان والاحتلال، وحين يبدأ السجان ومعه رزمة ملفات الاسرى بالصراخ باسم الاسير كي يخرج مكبّل اليدين والرجلين الى حافلة نقل الاسرى وصناديقها الحديدية التي يجلس فيها الاسرى قسرا وهي لا تتسع لهم، فيخرجون من قيد الى قيدٍ أكثر قسوة. أما المشهد الآخر فهو المسافة الواصلة في جنوب افريقيا ما بين ديربان الساحلية وبين بلدة امانزمتوتو على بعد حوالي الاربعين كيلومترا حيث أقمنا في المؤتمر الدولي ضد العنصرية (2001)، فتسير بك الحافلة او التكسي وتظن انك في بلاد كل سكانها من ذوي البشرة البيضاء فلا ترى البشرات السوداء ولا بلداتهم ولا تلمح أي أثر لهم، الا في خدمات المرافق العامة، بينما كانت التلال التي تبدو جميلة للأغراب، هي تلال اصطناعية لحجب التواصل بين بلدات وتجمعات شعوب جنوب افريقيا السود ضحايا الفصل العنصري، وبين الحيّز العام التابع لهم أصلا. وهي تلال تذكّرنا بجدار الاحتلال الذي اذا نظرنا إليه في شارع رقم 6 مثلا من داخل "الخط الاخضر" لرأيناه بارتفاع متر او أقل ومكسوّ بالورود واشجار الزينة، بينما لو نظر اليه ابن طولكرم لكان ارتفاعه ثمانية امتار بكل القبح والقسوة وقتل الأفق. هكذا سيتم حشر الفلسطينيين في مطار رامون، خارج المشهد الاسرائيلي وداخله، وكي لا يزعج حضورهم أجواء التسيّد العِرقي في مطار بن غوريون.

لا تريد دولة الاحتلال للفلسطينيين من الضفة الغربية السفر عبر مطار اللد الذي أحالوه الى مطار بن غوريون، فهو متاح فقط لفلسطينيي ال48 والمقدسيين من حملة بطاقة الهوية الاسرائيلية وذلك إمعاناً في ضمّ للقدس، وقد تتيح للبعض من عالم الاعمال والمسؤولين من حملة بطاقة VIP  من الضفة بالسفر منه. وفي ذلك يزداد تغييب الاحتلال عن الذهنية الاسرائيلية وتحجب الانظار عما يحدث وراء "التلال" المذكورة انفا في جنوب افريقيا، وعن مفهوم الجدار الاحتلالي والمشهدين اللذين يخلقهما. المسسافة ما بين مطار رامون ورام الله ونابلس هي أبعد بكثير من المسافة ما بينهما وبين العاصمة الاردنيّة عمان. الا أن المسافات في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال والاستعمار هي ذاتها المسافات الواصلة بينما فعليا فقد أحالوها الى مسافات فاصلة في داخل الشعب وبينه وبين امتداده العربي. لنتخيّل مثلا أن المسافة بين حيفا وبيروت تكاد تكون ذاتها بين حيفا والقدس، لكنها تستغرق الى القدس ساعتين والى بيروت أربعة وسبعين عاماً ولا يزال الطريق طويلا، وهي شبيه بالمسافة بين حيفا وغزة التي باتت خارج كل المتاح.

المسافة الى مطار عمّان ليست بالبعيدة نسبياً، الا أنّ الفلسطيني مع جواز السفر الاسرائيلي يتجاوز معبر الشيخ حسين بعد إجراءت بسيطة لا تتجاوز النصف ساعة بالكامل وتشمل السفريات الى الجانب الاردني، بينما يستغرق اجتياز الفلسطيني ابن الضفة لمعبر الكرامة (جسر اللنبي) ساعات من الفحص الاجرائي والأمني الاستخباراتي، ليشعر بالغضب والمهانة وهو لا يستطيع أن يفعل شيئا سوى الانتظار وتحمُّل القهر الى أن يتسنى له العبور. هل كُتِب على الفلسطيني أن يختار بين مهانة ومهانة؟ 

"لا تلوموا الضحية" هي مقولة درج يرددها إميل حبيبي في دفاعه عن فلسطين وشعبها وقيادتها في زمن انتهى، وقد أراد بذلك ان تبقى بوصلة الغضب والنقمة السياسية موجهة الى الاحتلال ودولته. حين ندرك مصدر الغضب حسب هذه البوصلة، نتيج لانفسنا نوعا من فسحة هدوء داخلي اذ يتحوّل فيها الغضب الدفين تحت القهر الى فعل ضد أساس البلاء ودولته. هل نلوم الناس العادية التي قررت ان تجرّب حظّها في السفر من مطار رامون ذي الوظيفة الاستعمارية العنصرية والاستغلالية وهي تهرب من مهانة الى مهانة ولا من فصائل ولا قيادات ولا سلطة ولا حركة تحرر وطني توجّهها او تبدي موقفا متحدّيا، ولا تعمل المستحيل لخلق البدائل الفلسطينية والعربية؟ وهو سؤال يذكّرنا بتصاريح العمل في المرافق الاسرائيلية والتي باتت أداة ضبط وسيطرة وقهر وإذلال، بل ومؤخراً باتت أداة للتهدئة ومن مقوّمات الهدنة. هل نتهم هؤلاء الفلسطينيين ضحايا الاحتلال وضحايا البؤس الفلسطيني والعربي بالتطبيع؟ كيف وعلى أيّ أساس. أيّة حاضنة سياسية او وطنية او قيادية او نحبويّة يوفّرها أيٌّ كان لهؤلاء. فلقد خلقت اسرائيل وباسناد عربي وعالمي وفلسطيني حتى، نخباً مستفيدة في كل المجالات، تمنحها فتات امتيازات كي تتساوق مع مشاريعها في تعميق الاحتلال وحتى الضم. فالمسافر الفلسطيني من مطار رامون هو جزئيا ضحية هؤلاء ايضا، كما أن العمال الفلسطينيين باتوا ضحايا ايضا لمقاولي التصاريح، بينما بالاساس وبالجوهر ضحايا الاحتلال ودولته، وضحايا المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني العنصري في فلسطين.

كنت اتمنى الّا أرى فلسطينيا واحدا يقبل بالسفر عبر هذا المطار القاهر، لكن اللوم ليس على الأفراد، بل على البؤس القيادي الفلسطيني في كل فلسطين. الذي من دور اسرائيل أن تسدّ امامه وأمام شعبه كل فسحة أمل، بينما من دوره أن يعمل المستحيل كي يصنع الأمل لشعبه، فهل دوره مثلا في أن يتغنّى بأسرى نفق الحرية، أم في شق الطريق الى الحرية ومهما كان شاقّاً وصعبا مع الاستعداد لدفع الثمن، وليس انتظار الثمن من الاخرين ليحصر دوره بالتغنّي والتمنّي.

شعبنا دائما يفاجيء، وما نيل المطالب بالتمنّي.

مقالات متعلقة