الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 08 / مايو 14:01

جَمَلُ الحكايات/ بقلم: خالد الغول

خالد الغول
نُشر: 09/05/18 12:10,  حُتلن: 14:28

في يوم المسرح العالمي، قرر "مسرح عشتار" تقدير الفنان "راضي شحادة" وإطلاق كتابه "سيرة حكواتي من فلسطين" طلب مني الصديقان إيمان عون وادوارد معلم أن أشارك في هذا الحفل بالتقديم للكتاب. تردَّدتُ للوهلة الأولى، إلّا أن اهتمامي الشغوف بتجربة هذا الفنان، جعلني أخوض هذه المغامرة الجميلة.

نحن نتحدث عن تجربة لا هي تجربة ذاتية فقط، ولا هي جماعية وحسب، بل أمام تجربة جمعذاتية، ساهمت في تشكيل هويةِ ذاتٍ إنسانية حملت هموم شعب يعيش في أرض محتلة، ما زالت تصوغ هويتها كفعل تاريخي، وتحميها وتصون كينونتها وسِيرتها الأولى وصيرورتها الممتدة كواقع متجذّر، وفي بناء هُويةِ مسرحٍ فلسطيني يصارع من أجل بطاقةٍ لونُها فلسطيني في صميمه، ومضمونها وشكلها اشتباكي مع شروط التغييب والمحو والزوال، وفي إبراز ملامح مسرح يرفض بطاقةً تائهةً متشردةً متشظيةً تعتاشُ من فتاتٍ كولونيالي أنيقٍ يُغري الضحية بجرزة الحياة في حمأةِ الموت البطيء، وربما اللذيذِ أحياناً.
هو من قرية المغار، لكنَّه وُلِد على خشبة المسرح، وجاء الى الدنيا في العام 1952 لكنَّه اعتلى صهوةَ الحياة مع أول مسرحية مدرسية؛ هو لا يتحدث عن مسرحِه هوَ، ولا عن سيرته هوَ، ولا عن حكايته هوَ. والسيرة الذاتية بالنسبة له هو ما يريد أن يعرفه الآخرون عَنه دون أن ينهمك في سرده عندما يُطلب منه أن يحكيه عن نفسه. وتتجلى هنا لعبةُ اكتشافِ الذات من خلال فعلٍ دؤوبٍ يمارسه عاشقٌ للمسرح، وتفاعُلِ المتلقين لهذا الفعل اليومي الحثيث وقبوله أو رفضه، ونقده أو تجاهله، ومديحه أو هجائه.
المسرح بالنسبة الى راضي شحادة "فرع من فروع الثقافة الفاعلة والقوية، وإحدى مهماته الرئيسة المساهمة في تجذير الهوية والوعي الوطني لدى المتلقين من مبدعين يمتهنون مجالا يتطلب مستوى وعي ثقافي وجمالي وإبداعي ووطني راقٍ" وبناء على هذا الفهم يؤكد راضي أنّ الشكل والمضمون في العمل المسرحي الذي يطرقه مرتبط كل الارتباط بالقضية الوطنية، "حتى وإنْ لم يكن العمل الإبداعي الذي يقدمه مسرحيّونا لا يتطرق إلى القضية السياسية والوطنية بشكل مباشر، فإن له حتما علاقة بحقيقة أننا موجودون في هذا القسم من هذه الجغرافيا والتاريخ... والهوية الوطنية."
واستناداً الى هذا الدور الذي يراه راضي شحادة للمسرح، في ظرف تاريخي جغرافي سياسي هو أعقد الظروف الفلسطينية وأكثرها التباساً وجدلا، فإنّه يرى نفسه أمام قضيتين متناحرتين متصارعتين، هما وجود احتلال كولونيالي إقلاعي يترسّخ كل يوم، وقضية فلسطينية عادلة، تواظب أنيابُ الظلم والبطش والاستبداد من كل الجهات لتجريدِها من نُبلها وتفوُّقِها الأخلاقي، ومن سلاح المظلومية التاريخية التي سَفَكت أبسط الحقوق الإنسانية التي ابتدعتها التجربة الإنسانية على مر العصور، مما يُحتِّم إبراز هذا الصراع الـمُحتدم من خلال ما يتم التعبير عنه مسرحياً، سواء أكان ذلك مؤلَّفا أو مُعدّاً كي يصبح مسرحا أو عرضاً فلسطينياً له هويته وشكله وكيانه وحضارته الخاصة، وارتباطه الوثيق بفلسطينيته وبجذوره وبعروبته، والمشترك بينها جميعا أنهُّ مسرح إنساني من الدرجة الأولى.
يؤكد راضي شحادة في ممارسته الإبداعية وفي كتابه هذا على أن المسرح يختلف عن الخطاب السياسي المباشر بأنّه فن إنساني ذوقي جمالي مؤثر في جميع القضايا الأخرى، ولكنّ حدّة الصدام بين متطلبات السلطة ومتطلبات القضية السياسية في فترة البحث عن التحرر الوطني التي لم تكتمل، كما هو الحال لدى سائر الشعوب التي تحرَّرت وحصلت على حرية تقرير مصيرها، جعلتنا نؤكّد على حاجة استغلال المسرح كمجال يخدم الهوية والقضايا الوطنية.
في هذا الكتاب أَوْلَى راضي شحادة اهتماماً كبيراً لتجربته في مسرح الحكواتي لما اكتنفها من احداث صاخبة، وتحولات مغامرة، تناطحت فيها الأفكار، وتوالدت عبرها مشاريع التأسيس الفعلي لمسرح وطني فلسطيني راسخ، يمتدُّ ويُثير الأسئلة، ويؤصِّل لِمَعَانٍ ومضامينَ جديدةٍ ثريةٍ وفعالةٍ في تاريخ المسرح الفلسطيني.
سبق ذلك الحديث عن تجاربه الأولى في المسرح من خلال المسرح المدرسي ومسرح البلد، الذي كشف عن ثقافة القرية والسِّجال الفكري الذي طرحته تحدياتُ المواجهة مع الثقافة التقليدية في مجتمع ريفي محافظ ومُعيقٍ للإبداع وكابحٍ للخيال.
وفي خضم هاتين التجربتين كان ماهراً بامتياز في لعبة القط والفأر، وفي السّير في حقل ألغامٍ مُتعبٍ، استدعى رشاقة الحركة والفكر والفعل. وساهم في نَسْج حكاياتِ الناسِ المليئة بالشقاء والشقاوة، وفي يومياتِ المواطن العادي، والحزنِ الذي أصبح عادياً، والموتِ الذي بات مألوفاً، والأمل الذي تَحَوَّل الى حالةِ إدمان.
في العام 1989 طوت تجربة راضي شحادة صفحتها الأخيرة مع مسرح الحكواتي المقدسي، وحمل الحكواتي الجليلي أمتعته وقرَّر أن يواصل مسيرته مؤسِّساً مسرحه الخاص (مسرح السيرة)، وتدفّق الحَكيِ مع منيرة دربه "أم رستم"، في تجربةٍ أخرى في الجليل، لتكون التسعينات بدايةَ نقلةٍ أخرى، ومحطة أخرى في السرد والحكي وإفشاء السِّيَر والخراريف والأقاصيص، في مُربِّعِه الأول، وعشيرته الأولى، ولكن دونَ ان ينقطعَ عن حُبِّه الأول " القدس"، ولا عن قضيته الأولى " كل الوطن".
في كل مراحل عمله المسرحي، وأمام كل لحظة سؤال عن البطاقة الشخصية يطرأ على السطح المُتخَم بالاسئلة سؤال الهوية. ينْهمك راضي شحادة في الإجابة المباشرة عن الجنسية والوطن والدولة والجغرافيا والتاريخ والمكان والزمان، فيجد نفسه أمام سؤال مكثَّف حول المسرح والحياة والماضي والحاضر والمستقبل. استطاع في غمرة هذه المكابدة الحياتية المُهلكة أن يُحدِّد هويته التي يعترف بها والتي يطالب العالم بان يعترفوا بها كهوية جماعية، لشعب بأكمله. وتطرق في أكثر من مرة الى دوامة الحوارات المتعبة التي كان يخوضها مع الناس في العالم كله (عرباً وعجماً) خلال جولاته المسرحية حول بطاقته التي يحملها وجنسيته التي ينتمي اليها. ولم ينتظر معايير جماعية تحدِّدها أيُّ جهة كانت حول العلاقة بين المثقف الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 والمؤسسة الحكومية، فحسم أمره بقرار ذاتي، وانطلاقا من ضميره الوطني، وكان واضحاً في الموقف والسلوك برفضه لكل إملاءات التمويل، ومواجهته الصريحة للمخاطر التي يحملها، وقرَّر أن يكون نشاطه المسرحي وطنياً فلسطينياً، وأعماله المسرحية متحرِّرة من ربقة التمويل وأثمانه الباهظة.
ومن أبرز الامثلة على ما واجهه في تجربته الإبداعية ردّه على مُخرجٍ سويسري عَرَض عليه المشاركة في عمل مسرحي يضم خَلْطة أوروبية يهودية فلسطينية، تسهل الوصول الى العرب والمسلمين من خلال مسرحي فلسطيني عربي، وتسهل الوصول الى الغرب من خلال مُخرج سويسري، والوصول الى اليهود من خلال يهودي إسرائيلي (تل أبيبي). بما يحمل هذا المشروع من مغريات كثيرة أهمها التمويل السَّخي، ومغادرة المحلية والانطلاق نحو العالمية، لكنه رفض نظرية العيون الثلاث المكونة لهذا المشروع المسرحي التي عرضها المخرج السويسري معتبراً نفسه مركز الحكاية ومحور القصة قائلاً: "أنا هو العين الأولى للقضية. أنا هو مركز المعاناة والقصة. أنا هو السِّيرة من جذروها. أنا هو أعنف مصدر لجميع القصص والمسرحيات التي تدور في هذه المنطقة، لأنّ جميع القضايا الآن أصبحت مرتبطة ارتباطاً جوهرياً بقضيتي، فإذا وافق العالم على قرار محكمة العدل الإسرائيلية بالسماح بتعذيبي، فالعالم شريك في جريمة التعذيب. أنا هو الواقع في النار التي يؤُزّها الآخرون بي لكي يمحوني عن الوجود، ولكي أُشَكِّل لحماً مشوياً طازجاً لذيذاً يأكلونه على موائدهم بالشوكة والسكينة وعلى طريقة العالم المتحضِّر، وبكل ما أوتوا من آداب الطعام والديمقراطية والحرية المطلقة. أنا هو الضحية التي عندما تقع تكثر السكاكين والشِّوَك فوقها" .
صال الحكواتي راضي شحادة في داخل الوطن وخارجه، ومارس كل مهمات العمل في المسرح بتفاصيلها، ممثلاً ومخرجاً وكاتباً ومُنَظِّراً وتقنياً وحَكَّاءً، وما زال يحمل عَتادَه ومصدر لقمةِ العيش ومتعةِ الحياة، يجول بسيارته مع زوجته وحاملة أعبائه الثقيلة، حامِلاً معها أحلامها التي لا تتعب، يرويان الحكاية بِكُلِّ اسئلتها، وينثران المعاني بلا تعب مهما زاد، وبلا تَلَكؤٍ مهما اشتدَّت المـُعيقات.
في كتاب راضي شحادة سيرة جماعية ثرية، وفيها أسئلة ما زالت تطرح نفسها بطَزاجة وكأنها تراودنا اليوم، فيه تعبُ المسرحيين، وإرهاصاتُ المثقفين، وهواجس الحالمين، ولكن أهم ما فيه أنه لا يريد ان يقول هأنذا، ولا كان أبي، بل أراد أن يقول هؤلاء نحن بِعَجَرِنا وبَجَرِنا، بما لَنا وما عَلينا، بِفَرَحنا وحُزنِنا، بتوَحُّدِنا وانقسامِنا، بلقائِنا وافتراقنا، يكتبه مُضطراً عندما غاب النقدُ الثقافي، ولَمَّا فقُرَ التحقيبُ للتجاربِ الفنية، وشُحَّت كتاباتُ التاريخِ وأسئلة السِّجال، ومقتضياتُ التنظير للفنِّ عموماً والمسرح خُصوصاً. وبعد هذا الكتاب الذي تلاحمت فيه التجربة الوطنية السياسية مع التجربة الثقافية الإبداعية بأرقى تجلياتها، فإنه يَعِدُنا بكتابٍ ثانٍ سَيُوليهِ الإهتمام الكبير إذا أسعفه الوقت.
شكراً راضي شحادة لأنك ما زلت تحملُ على ظهرِك الـمُتعَب أثقال السِّيرةِ وأعباءِ الحكايا. وعلى اصطحابنا في جولة مثيرة، في ساحةٍ كُنتَ وما زلتَ عَنْترَها وفارسَها الخيَّال.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة