الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 18 / مايو 09:02

الشام وإن هوى أحد أعمدتها تهوي الأمة /بقلم:آسيا طه مصالحة زريقي

كل العرب
نُشر: 29/04/15 07:44,  حُتلن: 07:47

آسيا طه مصالحة زريقي  في مقالها:

هل كانت الشام البعد الاستراتيجي الذي لا بد منه لأمن واستقرار مصر حتى عصر نابليون، واختلف هذا البعد في العصر الحديث؟ أم أنه إذا هوى أحد أعمدتها تهوي الأمة بعظمتها؟ 

ماذا يعني اضطرار محمد علي إرسال كتاب لحاكم نابلس يتلطف فيه ويعد بأنه لن يأخذ مالا ولا عسكرا من الفلسطينيين مقابل فك الحصار وخروج إبراهيم باشا وبعدها الانقلاب على الفلسطينيين؟

غزت سماء السياسية، وفضاء الإعلام، واحتوت كل نزاع على الأرض، فما هي مقوماتها؟ وما هو الإطار الملائم لها: أهو وصف دقيق للواقع العربي أم أنه أداة لترسيخ "الفشل العربي"؟ للوقوف على مدى واقعيتها نرجع إلى شيخ المشايخ، الفصل والفيصل في كل إدعاء ومدعاة، المتحف الأسمى، والمعرض الأوسع، والمحاجج الأقدر على الإيفاء بالمعلوم وما خفي بين السطور، "التاريخ" ما قرب منه وما بعد.

ربما استعراض حملة إبراهيم باشا على الشام هو الاستهلال الأنجع، والرمي الأسرع، والهدف الأرفع، ورد في كتاب محمد كرد علي، خطط الشام، أنه بعد أن نعم محمد علي بالحكم الذاتي في مصر طمح في التوسع في الملك، احتار في البداية لأي الاتجاهات عليه أن يتمدد، ثم قصد مفتاح كل فتح، "الشام". " قال المؤرخون: ولما كانت الجيوش المصرية (من البر ثلاثون ألف جندي) تحاصر عبد الله باشا في عكا جاءه من نابلس ستمائة رجل واخترقوا صفوف العسكر المصري ودخلوا عكا وزيرها شاهرين سلاحهم ضاربين من عارضهم... وفتحها بمعاونة العرب والدروز والموارنة الذين أتوه بأنفسهم طوعا" (علي، ص 3/51-52).
على ما يبدو أن ثلاثين ألف (30000) جندي مصري لم يستطيعوا رد ستمائة (600) رجل نابلسي، ولم تفتح الشام على يدي إبراهيم باشا إلا بمعاونة العرب والدروز والموارنة. لكن لم يستطع هذا الفتح من الاستقرار بأرض الشام، إذ أن سوء معاملة المصريين لأهل الشام أدى لانتفاضة ولحصار الفلسطينيين لإبراهيم باشا: "فلما ضاق الحصار بإبراهيم باشا اضطر محمد علي أن يجيء بالذات إلى يافا، وأرسل لقاسم الأحمد كتابا يتلطف فيه مصحوبا بمال جسيم ويقول: إنه لا يأخذ منه عسكرا ولا مالا. فرضي قاسم الأحمد وفك الحصار، وخرج إبراهيم باشا حتى وصل إلى يافا، فوجد العساكر قد وصلت لنجدته، فرجع على عقبيه في الحال واشتغل بالقتال والنهب والسلب، فهرب قاسم الأحمد إلى الخليل فلحقه إبراهيم باشا بعسكره، واشتغل بالنهب والقتل حتى لم يبق ولم يذر" (علي، ص 59).
ماذا يعني اضطرار محمد علي إرسال كتاب لحاكم نابلس يتلطف فيه ويعد بأنه لن يأخذ مالا ولا عسكرا من الفلسطينيين مقابل فك الحصار وخروج إبراهيم باشا وبعدها الانقلاب على الفلسطينيين؟ هل هي حادثة يتيمة لانقلاب المصريين على معاهداتهم ؟
لعل حملة نابليون بونابرت على مصر والشام تطلعنا على ما غاب عنا في حملة إبراهيم باشا، إذ أن بعد احتلال نابليون لكامل مصر لم يشعر بالأمن إلا إذا تبعتها الشام: " أتى نابليون بونابرت مصر (1213 هجري) وفتحها، ولما شعر باجتماع الجيوش لمحاربته، وأنه إن لم يفاجئ الدولة العلية في الشام قبل أن تتم استعداداتها الحربية تكون عواقب الأمور وخيمة عليه، وأن من يحتل مصر لا يكون آمنا عليها إلا إذا احتل القطر الشامي، فلهذه الدواعي قام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصدا الشام من طريق العريش.
وسار بونابرت بالعسكر قاصدا مدينة عكا على طريق الجبال،...، وحوصرت عكا وابتدأت الحرب عليها خامس يوم من شوال سنة 1213، وكانت الحروب قائمة على مدينة عكا الليل والنهار وهم يهجمون على الأسوار والقنابل تنهال عليهم كالمطر، وقد أهلكوا من العساكر الإسلامية والإنكليزية خلقا كثيرا وهدموا أبراج عكا وأسوارها. ولما هلك بعض قواد الفرنسيين على أسوار عكا مع جملة صالحة من جندهم بدأ بونابرت يرجع إلى وطنه لأمر طرأ على مركزه هناك (علي، ص 3/12-15).
هل كانت الشام البعد الاستراتيجي الذي لا بد منه لأمن واستقرار مصر حتى عصر نابليون، واختلف هذا البعد في العصر الحديث؟ أم أنه إذا هوى أحد أعمدتها تهوي الأمة بعظمتها؟
وعلى أنغام الثنائية الأبدية "فلسطين ومصر" يقول احسان النمر(1938)، في كتابه تاريخ جبل نابلس والبلقاء، عن ملك الجليل ظاهر العمر الزيداني الذي صعد نجمه في القرن الثامن عشر: "اغتنم فرصة انشغال الشهابيين في النزاع الحزبي وانشغال ولاة الشام بالفتنة اليرلية فعصى في صفد واستولى على عكا وحيفا والناصرة وجبل عجلون. واتفق مع علي بك الكبير أمير المماليك مع حليفته الروسيا فاستفحل أمره، ولما هاجمه والي الشام سليمان باشا العظم قتل أخوه فانسحب إلى عرب عنزة ودس السم على الوالي المذكور فقتل به. وعاد بعد ذلك إلى اسوإ مما كان فهاجم دمشق هو وأبو الذهب قائد المماليك ثم هاجم جبل نابلس وما زال متمردا إلى أن قضي عليه وعلى أولاده سنة 1190 هجري" (النمر، 1938: ص1/ 122).
بعد خلاف بين علي بك الكبير وقائده أبو الذهب، غلب علي بك الكبير ووقع أسيرا جريحا بيد قائده أبو الذهب الذي سمه ليتخلص منه، ثم أخذ يعد العدة للانتقام من ظاهر العمر... في سنة 1188 هجري زحف أبو الذهب بجيش مصر على فلسطين، فاستولى على غزة سلما وقاومته يافا، فقتل من أهاليها خلقا كثيرا بالغ المؤرخون فيه وقالوا: انه أقام من جماجمهم تلالا، وكان ظاهر العمر مصمما على الخديعة فأخلى عكا وصفد وانسحب إلى جبل عامل، فدخل أبو الذهب عكا دون مقاومة، وقد ظل رجال جبل نابلس مرابطين في الحصون والأبراج ومداخل الأودية يضايقون جيش مصر ويهاجمونه أثناء مروره، وقد مكث أبو الذهب في عكا ينتظر أخبار والي الشام، وفي تلك الأثناء وفق ظاهر العمر بواسطة جواسيسه إلى إغراء أحد رجال أبي الذهب لقاء أربعة آلاف ذهبه فدس عليه السم فقتله به بعد ثلاثة أيام من استيلائه على عكا... أما جيشه فقد فزع وادعى رجاله أنه مات من شدة الفرح، وبذلك أمنوا الفتنة، وصمم الجيش على أخذ الجثة إلى مصر لئلا تحرق إذا دفنت في عكا، فغسلوها بالعطور وحملوها إلى مصر وعادوا عن ساحل جبل نابلس يجرون أذيال الخيبة وقد استولى عليهم الذعر من رجال جبل نابلس الذين كانوا يباغتونهم أثناء انسحابهم (النمر، 1938: ص 1/150- 153).
للمرة الثانية يوثق التاريخ الحديث انقلاب المصريين على حلفائهم، ويفصل عاداتهم في إعمال السيف بمن يختلف معهم. وللمرة الثالثة يشهد بذعر المصريين من الفلسطينيين، وبعدم قدرتهم على السيطرة على فلسطين برغم الجيوش الجرارة، التي لا تعدم طريقة لإقامة التلال من جماجم البشر المسحوقين تحت حد الآلة الحربية التي لم ينفذ منها إلا بني صهيون، فما هو السر يا ترى؟
إذا عرجنا على ماضي الأمة الذي لم يخل يوما من المحن، لكنها سرعان ما كانت تتجاوزها وتبني منها أمجادا تلو أمجاد، فعين جالوت خير شاهد على أيام خوالي عجز الزمن على أن يلد لهن شقائق: "اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر هربا من التتر، فلما انتظمت أحوالهم واستجمعوا قواهم عزم المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار معه صاحب حماة المنصور وأخوه الأفضل علي حتى التقى مع التتر في الغور، وكان كتبغا نائب هولاكو على الشام ومعه صاحب الصبيبة الملك السعيد فانهزم التتر هزيمة قبيحة على عين الجالوت وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتفرقوا في الأرجاء. قال ابن أبي شامة: ومن العجائب أن التتر كسروا وأهلكوا بأبناء جنسهم من الترك وقيل في ذلك:
غلب التتار على البلاد فجاءهم من مصر تركي يجود بنفسه
بالشام أهلكهم وبدد شملهم ولكل شيء آفة من جنسه"
(علي، ص 2/104-109).

التفرق كان من صلب دواعي عين جالوت، واجتماع العساكر الإسلامية بمصر هربا من التتر رأس حربتها، وانتظام العساكر وخروجها بمساندة مصرية بطاقة هويتها، وقائد مملوكي من جنس التتر راية اشتعالها، والشام وعدها وموعدها، إذ لم يكن بدا مرة بعد أخرى عن الشام. المعركة لم تكن مصرية خالصة كما روج لها، بل مصر كانت مركز استجماع القوى، وجمع الكلمة تحت راية قائدها الذي ليس مصريا، ومع كل صخبها لم تكن مصر فيها سوى جزء من كل، حتى لو كانت الجزء الحاضن، فالجسد لا يقوم بلا روح وإن احتضنها.
أما الوقعة العظيمة حطين فيقول عنها العليمي (1999)، في كتابه الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل: "لما عزم السلطان الملك الناصر، رحمه الله، على الفتح كتب يستدعي للجهاد من جميع البلاد وبرز من دمشق يوم السبت مستهل شهر الله المحرم الحرام سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة قبل اجتماع العساكر عليه، وحضور من استنفره للجهاد عليه، وسافر بمن معه من عسكره، وخيم على قصر سلامة من بصرى على سمت الكرك... وانتظر السلطان وصول العسكر المصري، فأبطأ عليه... ووصل إليه عسكر مصر واستمر على هذا الحال شهرين والملك الأفضل مقيم برأس الماء في جمع عظيم ينتظر ما يأمره به والده.
ثم سار السلطان واجتمع به ولده، وقد كثر عسكر الإسلام... ثم قوي عزمه على طبرية فسار إليها ونزل عليها... ، وجاء يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر والفرنج سائرون إلى طبرية، فرتب السلطان الأطلاب في مقابلتهم فحال الليل بين الفريقين. فلما أسفر الصباح، ثارت الحرب بين الفريقين... وأمكن الله المسلمين منهم، فأووا إلى جبل حطين... واشتد القتال، فنصر الله المسلمين... ورحل السلطان ظهر يوم الثلاثاء بمن معه من العساكر الإسلامية... وكان في صحبته الأمير عز الدين أبو فليسة القاسم المهدي الحسيني، أمير المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكان حضر تلك السنة صحبة الحاج وهو ذو شيبة نيرة، وحضر مع السلطان هذا الفتح جميعه... وكتب السلطان لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر وهو بمصر يعلمه بالفتح، فوصلت البشائر للسلطان بوصوله، وأنه فتح في طريقه حصن مجدل يابا// ومدينة يافا عنوة، وغنم ما فيها" (العليمي، 1999: ص 1/ 461-467).

القائد الذي كان بصحبة صلاح الدين في حطين هو أمير المدينة النبوية وليس قائدا مصريا. شهران وعساكر المسلمين تنتظر عساكر مصر لمحاربة الفرنج ولم يصل إلا بعضا منها، وقعت الوقعة العظيمة قبل وصول الملك العادل وعساكره من مصر، فتح الملك العادل بعساكر مصر المجدل ويافا، في وقت كان الفرنج مجتمعين لمحاربة صلاح الدين في شمال فلسطين. المفارقة هي أن تكون كبسة الفرنج على عسكر مصر الواصل في خضم معارك تحرير القدس، فيقع العدو في أمتعتهم وما معهم، ويتفرق العسكر في البرية فمنهم من يرجع إلى مصر ومنهم من يتوجه على طريق الكرك، وأن يأخذ الفرنج من الجمال والأحمال ما لا يعد ولا يحصى، وتقع النكبة العظيمة. ويصل الجند مسلوبين منكوبين ويسلاهم السلطان ويعدهم بكل جميل. وعند نزول السلطان على مدينة يافا وفتحها، يجدون الأحمال المأخوذة من قافلة مصر فيسترجعونها (العليمي، 1999: ص 1/533-534).

وفي ذكر تغلب الفرنج على بيت المقدس واستيلائهم عليه يقول العليمي أن الفاطميين كانوا يخافون من الفرنج خوفا شديدا فلا يطيقون مقابلتهم بخلاف الدولة الأيوبية: "لما فتح الله البيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه... استمر بأيدي المسلمين من حين الفتح العمري في سنة 15 من الهجرة الشريفة إلى سنة 492 هجري في خلافة المستظهر بالله، هو أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله العباسي خليفة بغداد... وكان الفاطميون قد تغلبوا على بني العباس وادعوا الخلافة بالمغرب من أواخر سنة 296 هجري في أيام المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد العباسي خليفة بغداد، ثم بنوا القاهرة واستولوا على الديار المصرية والشام ومكة واليمن وبيت المقدس.
فلما آل الأمر إلى المستعلي بأمر الله... وكان مدبر دولته الأفضل قد استولى على بيت المقدس في شعبان سنة 489 هجري، وكان الفاطميون يخافون من الفرنج خوفا شديدا فلا يطيقون مقابلتهم بخلاف الدولة الأيوبية... فلما دخلت سنة 492 هجري قصد الفرنج بيت المقدس وهم في نحو ألف ألف مقاتل، وحصروا القدس نيفا وأربعين يوما، وملكوه في ضحى نهار الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة 492 هجري" (العليمي، 1999: ص 1/445-447).
فتح المسلمون بيت المقدس، فاستعصي على الغزاة إلى أن حكمته مصر بضع سنوات لا تتعدى أصابع اليد ليقع في الأسر إلى أن حرره الناصر صلاح الدين بفضل من الله جل في علاه، فهل من أجل ذلك قال كيسنجر "لا تستطيع أن تحارب في الشرق الأوسط من دون مصر"؟


احسان النمر(1938)، تاريخ جبل نابلس والبلقاء. دمشق: مطبعة ابن زيدون.
مجير الدين الحنبلي العليمي (1999)، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل. إعداد وتحقيق ومراجعة: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبانه ، مكتبة دنديس.
محمد كرد علي، خطط الشام. دمشق: مكتبة النوري- الطبعة الثانية.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

 

مقالات متعلقة