الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 12:01

جولة شعرية مع الشاعر د.فهد أبو خضرة/ بقلم: نبيل عودة

نبيل عودة
نُشر: 06/04/20 09:26,  حُتلن: 19:08

1- ديوان:"مسارات عبر الزوايا الحادة"

قال صاحب الزنج وقد بلغه مقتل أحد قواده:
"إذا فــــارس منا مضى لسبيله عرضنا لأطراف الأسنة أخرا"
هذا البيت من الشعر جاءني بعد أن قرأت أول قصيدة في ديوان الشاعر الدكتور فهد أبو خضرة "مسارات عبر الزوايا الحادة". القصيدة هي "أغنية للقدس/ المدينة الخالدة سيدة الأرض"، ما يميز هذه القصيدة ليس حرارة الحب للقدس أو ما تمثله القدس في تكويننا وصيرورتنا، إنما صوتها الوطني الذي لا نعهده كثيراً بما يسمى الشعر السياسي، حيث يسيطر الخطاب التاريخي/ الشعار/ الحماسة النضالية، على فنية القصيدة وعمقها الإنساني.
أبو خضرة يثبت أن الوطنية أو الموقف السياسي لا يعني شعرياً، الشعاراتية والخطابية او المنبرية والصراخ... مع فهد بحرارة كلماته، تشعر نفسك تلقائياً تعيد قراءة القصيدة مرة أخرى، ليس فقط بقناعة فكرية، إنما بطرب يكاد يبلغ درجة الطرب الصوفي.
"بقدرة هذا الذي فيك كان
تظلين مولد كل الهدى
وموعد كل الرضا والأمان".

إلى أن يقول، وفي قوله الكثير من التأمل والرؤية:
"وأنت تظلين سيدة الأرض
فوق النوايا،
تردين كل الحراب التي توجه نحو العيون،
وتخترقين الحصار،
وتعطين للعاشقين وللساهرين
خلود الرضا والأمان،
بقدرة هذا الذي فيك كان".
فهد يستعير صلابة صاحب الزنج وإصراره على العطاء. غير أن صلابة فهد هي صلابة تأملية. ولا أخطئ إذا قالت أن لها جوانب فلسفية.
يمثل د. فهد أبو خضرة في شعرنا المحلي تياراً مميزاً، ليس صوفياً تماماً، ولو أنه يحمل أشكالاً صوفية، انما أقرب للشعر الفلسفي. فهو يطرح رؤية ولا يتحدث عن موقف او إستراتيجية.
حينما تخترق الساحة
لا يبقى سواك
هدفاً يرمى.
هذه هي رؤيته في قصيدته المتميزة بالشفافية والتأمل، والرؤية الفلسفية، قصيدة "مسارات عبر الزوايا الحادة":
حينما تحترق الساحة
ترقى
لابتهالاتك في ظل جدار
تحمد الله بأن ظلّ لأبنائك
في عصر التداعي والنفاق
ويصل مع مسار قصيدته، مع مسار رؤيته إلى حالة تأمل/ قاعدة عمومية/ منطلق استراتيجي:
وإذا ما اُطلع الفجر
فقُل: لا!
(لا يغرنك فجر
خفيت شمسك فيه)
إنها ليست غلطة صوفية تماماً، إنما اعتماد للصلابة الصوفية. غير أن الصوفية ليست منهجه الفكري، إنما هي أداة (أسلوب) لتعمق الصور الشعرية، وتفجير الموقف من داخله من ذاته، من قلب التأمل.
وإذا ما
أعلن النصر
فلن يعلنه فيها سواك.
أما قصيدته "ابتداء" فهي "غزلية وطنية" تشد إلى حب صوفي:
"على شفتيها تباشير ضوء
وميلاد نبع"
ولكنه لا يعني امرأة معينة... هذه من خصائص شعرنا الفلسطيني، الدمج ين المرأة والوطن، فهداً يلجأ في نصه هذا إلى الصياغات الرمزية الموحية:
- ونغفر للتيه؟
- كان انتهاء وكان ابتداء
- ونغفر للبحر؟
- كان الرحيل وكان اللقاء.
هل يقصد باللقاء، ذلك اللقاء المشوه ونصفنا الثاني تحت حراب الاحتلال؟
ويتساءل بحق:
"إلى كم سنغفر؟"
حقاً مللنا دور الغافرين التاريخي وحان الوقت لنغير ما فينا:
"ونفرش درب البدايات بالأغنيات،
ونلقي إلى الشرق نظرة حب،
ونرصد رايتنا للعطاء".
إذن الحل الذي يطرحه فهد أبو خضرة، ليس استبدال الغفران بالعقاب، إنما بالعطاء لنغير ما في نفوس "الذين استباحوا لغة الورد والعيون الندية"، كما يقول في مكان آخر من القصيدة.
بصراحة، هذه الإنسانية تخيفني، ليس لعلة فيها، إنما لأن الذين من المفترض أن نغرقهم فيها فقدوا منذ زمن صفاتهم الإنسانية، نظرتي إليهم هي نظرة إلى وحوش برية بجب أن تُلجم وتقيد، لا أريد لإنسانيتنا أن تتحول إلى نوع من الرفق والتناسي.
شدني ديوان "مسارات.." للدكتور فهد أو خضرة مع بداية قراءتي لقصائده، فانطلقت أكتب قبل أن أعرف القارئ على الديوان.
"مسارات عبر الزوايا الحادة" هو الديوان الخامس كما أعتقد. ولفهد أبو خضرة رواية وعدة كتب أبحاث ودراسات وكتب تعليمية بالاشتراك مع آخرين، إلى جانب اصدار أعماله الشعرية الكاملة.
فهد هو من جيل شعراء الرعيل الأول بعد النكبة، نجد أجواء المأساة تنسحب على معظم انتاجهم، بحيث بات الغزل أيضاً يحمل بعض ملامح التاريخ المأساوي لشعبنا وكأني بفهد وزملائه من شعرائنا، يقولون أن الغزل أيضاً أصيب بمأساة الشتات وحتى ينتهي الشتات سيبقى الغزل حلماً، تماما كحلم العودة، لأن المغني كما يقول في قصيدته "الساحات والدائرة الهوجاء" :
"والمغني لم يعد يقدر
أن يطبع فوق الشفتين
بسمة بلهاء".
وينهي هذه القصيدة، بسؤال، لكنه أقرب إلى الصفعة، والازدراء:
"أترى يبق لنا،
أيها السادة والقادة،
بعد يوم،
باب للرجاء؟".
حقاً تحولت قدرتنا على الحب والعشق إلى إضافة وطنية، إلى طاقة نبني فيها ذاتنا وموقفنا وكرامتنا، وصرنا نرى بمن نحب ملامح جيلنا وكرملنا، نوار الربيع في بلادنا، زرقة البحر وحمرة الغروب، تحولت قرانا المهدومة إلى عشيقاتنا اللواتي نتسرب ليلاً للقائهن، نضيء استمراريتنا من جيل إلى جيل، حتى نظل:
"خُطى تتحدى ورؤى تبتكر،
وحروف كلما داعبتها
عانق الآفاق منها شرر".
(قصيدة في البدء كانت الكلمة)
لاحظت أن فهد يعود بمعظم قصائده للبحر وما يرتبط به كرمز للتشرد والشتات، بحيث نرى البحر يمتد على عرض الديوان وطوله.
الدكتور فهد يعرف كيف يبني جملته الشعرية بانسياب وهدوء دون تكلف، بموسيقى هادئة غير هادرة، أقرب للسيمفونية الكلاسيكية، بعض قصائده مليئة بالغضب، لكنه غضب غير منفلت وبدون صراخ وزبد يتناثر، كأني به يكتفي بدور صاحب الرؤية، الذي يؤمن بمساره فلسفياً، يصوغ رؤيته شعراً، يترك للآخرين قرار الفعل وهو بذلك يثبت أن ليس كل من يضع يده على المحراث يصلح لملكوت الله، إنما من يعرف كيف يحرث/ يكتب الشعر.
قصائد فهد يجب أن تقرأ بوعي كامل. فالتماسك في القصيدة يجعلها سبيكة واحدة. نجد ذلك في ديوانه في القصائد العمودية المقفاة، المميز لهذه القصائد، هو خلوها من الحشو الذي يميز قارضي هذا الشعر، من القدماء والحديثين، بحيث كثيراً ما تتحول قصائدهم إلى مجرد نظم يقاس بالمسطرة، يخلو من العاطفة، من الفكرة ومن الحلم الشعري. هنا تبرز شاعرية فهد أبو خضرة وفي الواقع هذا هو الامتحان للشاعر.
هل تجاوز النظم إلى الشعر، أم بقي الشعر نظماً موزوناً لكن بلا روح شعرية، بلا معنى شعري؟
أعتقد أن فهد أبو خضرة أستطاع أن يعطينا حلماً شعرياً وإنسياباً شعرياَ، أيضاً في نظمه المقفى:
"ما للسماسرة الذين تعثروا
بدم الطرائد في الزمان الغابر
يتربعون على العروش رفيعة
ويشرفون بكل مجد باهر؟"

(من قصيدة تكريم)
د. فهد أبو خضرة، في ديوانه "مسارات عبر الزوايا الحادة"، يثبت وجوده في مسارات الشعر، نصه الشعري يميل إلى الرمزية دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان المتلقي للمناخ الشعري والفكرة. أحياناً يقترب من البساطة ليكشف الفكرة، يحافظ عبر قصائد الديوان كلها على رونق متميز ومليء بعطر شعري خاص به وبروح شعرية متوثبة.
ملاحظة: نشرت هذه المراجعة للديوان في صحيفة "الأهالي " التي عملت محررا فيها بين اعوام 2000 – 2005، تساءلت كثيرا عن سبب توقف فهد ابو خضرة عن كتابة الشعر، اذ لم اصادف أي قصيدة جديدة له منذ ذلك التاريخ.
ورب صدفة خير من الف ميعاد. التقيته صدفة في مكتبة وجرنا الحديث الى توقفه عن كتابة الشعر، تفاجأ وقال لم اتوقف وانه أصدر ديوانين جديدين، اخرهما في هذا العام – 2012 ("عائدون الى الورد") اهداني نسخة منه.
ليس غريبا ان الكتاب المحلي لا يصل للقراء، وان النشر يكاد يكون مهمة شخصية في التوزيع ايضا. وان نقدنا المحلي يعيش في نفق لا ضوء في آخره!!
قراءتي الأولى للديوان اعادتني الى المراجعة التي نشرتها قبل عشر سنين تقريبا. مفاجأتي كانت ان التجديد لدي فهد كان عبر تعميق مسيرته محافظا على نمط اسلوبي وفكري ميز ديوانه "مسارات..."
ما اشعرني بالراحة ان فهد يواصل الصلاة في معبد الشعر، فهو شاعر له طريقته الخاصة في تركيب القصيدة. وله رؤيته غير التقليدية، وأكثر ما يلفت الانتباه قدرته على طرح المواضيع بهدوء وتأمل فلسفي ، والحفاظ على ذاتية تعطي لشعره هويته الخاصة.

2 - ديوان "عائدون الى الورد"
يمكن اعتبار الديوان الجديد للشاعر والمحاضر الجامعي الدكتور فهد ابو خضرة تلخيصا لمسيرته الشعرية، او معلما ثقافيا شعريا لكل اصدارته الشعرية بين السنوات 1972 – 2012.
هذا الإنطباع هو بناء على ما سجله الشاعر نفسه في مقدمة ديوانه، بأن قصائد هذا الديوان كتبها في فترات مختلفة من حياته، ونشرها في مجموعاته الشعرية التي صدرت في السنوات المذكورة أعلاه.
اذن عودة الى الورد هي عودة الى ما يعتبره الشاعر أجمل القصائد (الورود) في مسيرته الشعرية.
ما يشدني لشعر فهد أبو خضرة هو الصوت الهادئ، المتأمل، الحالم والرقيق في تعابيره الذي يميز نصوصه، أحيانا نوع من العبادة والصلاة والتنسك الشعري، ورأيت دائما قوة الظاهرة الصوفية* في شعره.

الشرح الزائد يعيق الوصول الى أسباب في صياغة بعض القصائد. لا ضرورة احيانا للشرح لأن الصمت امام بعض الأفكار التي يطرحها الشاعر تزيد جمالية النص، خاصة القارئ المثقف المتميز بوعي فلسفي وانساني وشمولية ثقافية قادرة على ربط أطراف عديدة من الحلم الشعري بواقع الحياة، بوجعها وجمالها ، بحزنها وفرحها،بيأسها واصرارها وبفهم واع ان الظاهرة الشعرية، تخاطب العقل الباطني ، الأحاسيس، الأحلام،الأمنيات وصولا الى الإدراك الواعي للإنسان، الذي يربط بين الكلمة والصورة الشعرية، بين جمالية النص ، وعمق الرؤية.
رؤيتي في القراءات الشعرية انه من الأفضل اعطاء تفسير للظاهرة والإجتهاد للوصول الى الجوهر. بعد تفسير الظاهر يكاد يتوارى جهد تفسير الجوهر لأن الظاهرة هي شكل فلسفي لوجود الجوهر،الذي يسطع بقوة لا تحتاج الى مزيد من التفسير ، حتى لا يصير حالنا كمن فسر الماء بالماء، وتصبح الثقافة حسابات هندسية، وهو ما أكرهه في الكثير من النقد الذي يغرق بالشكل ويتجاهل الجوهر.
هذه الإشكالية بين الظاهر والجوهر،هي من الأشياء التي لا يستطع الإنسان ان يعبر عنها بالكلمات فقط، ولذلك ظهر الأدب عامة والشعر خاصة بالإيحاء والصور القلمية عن الفكرة والكلمة والجوهر الفلسفي للأفكار التي تحرك قلم ونشاط المبدع .
فهد ابو خضرة في قصائده يعلن ان العالم لا يدور حول مصادر الضجيج، رغم انها تلفت النظر ولكنها سرعان ما تتوارى، انما ما يشغل العالم ، وخاصة مفكريه وادبائه، ان يقدموا للإنسان قيم جديدة تأخذهم الى رحاب انسانية اجمل واوسع وتستحق ان نحيا من أجلها بعد ان يستتب العدل والحب بين البشر.
ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء
لم يحن وقتك بعد
(من قصيدة ايها القادم)
والآن اريدكم الإنتباه للمفارقة . الشاعر يخاطب القادم بأن وقته لم يحن بعد،هو قادم فلماذا ياتي قبل الوقت؟ الجواب في تتمة القصيدة:
ها هنا في قمة الأحقاد والويل المعاد
لم تزل تنتظر الأيام نيرون الجديد
علها تحرق في ذاكرة الحاضر روما ،
والرماد
يبرئ الأعين من داء طواها الف عام.

القادم في مركبة الشمس هو المسيح المنتظر، نيرون لم ينه مهمته بعد... ليحرق ما تبقى ، فحتى ينهي نيرون وظيفته، حتى يصل الشر الى اقصى حدود الويل والأحقاد ، بعدها سيكون ل "ألقادم" ان يجيئ ليبرى النفس البشرية من نيرون وأمثاله .
يمكن تأويل القصيدة في اتجاهات عديدة،من هنا جمالية الشعر الذي يدفعك للتفكير وليس للإسترخاء لحسن النظم فقط. يسطع بقوة في صوره الشعرية شكلا من الرؤية الصوفية، البعض قد يربط الفكرة الشعرية بالواقع السياسي، بالمأسي التي تواجه العديد من الشعوب وليس شعبنا فقط. انا اميل لفكرة ان فهد ابو خضرة اقرب للصوفية (بمفهومها الفلسفي) في ايماءاته الشعرية، الصوفية لا تعني التنسك عن واقع الإنسان ومعاناته، بل ظاهرة احتجاجية لغياب العدل الذي يحطم كمال الإنسان الأخلاقي.
ينهي قصيدته بتساؤلات يطرحها للقادم في مركبة الشمس اذا حان وقته – (التكنولوجيا جعلت الحمار الأبيض مركبة شمسية):
أترى ما كان بالأمس يعاد؟
اترى تورق في الصحراء اغصان؟
أترى يقتلع الوهم الذي ساد الزمان؟
اكاد اسمع فيروز تنشد "سنرجع يوما الى حينا". والأهم الا يكشف فهد في هذه القصيدة أكثر مما يخفي؟ في آخر جملتين تتضح الصورة:
ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء
أترى وقتك وقتي؟
هذا ما يقلقنا جميعا. نريد للقادم ان يعود في وقتنا حتى يتسنى لنا يوم نحياه بفرح بدون نيرون وشركاه، بدون الحرق والقتل ومعاناة بني البشر.
لا أظن ان اجتهادي في طرح رؤيتي الذاتية يخدم عرضي الثقافي، ولا اقول نقدي، فقد أسعفني الدكتور الأديب والمفكر والمحاضر في السوربون افنان القاسم بتعبير "عرض" بدل كلمة "نقد" التي لم أحبها يوما، في وصف مراجعاتي الثقافية، وانا شاكر له اعفائي من آفة تعبير النقد.
لا بد من شحذ ذهن القارئ الى ان موضوع القادم لا ينتهي مع القصيدة الأولى، الا يشير ذلك الى رؤية فلسفية ما يحاول الشاعر ان يطرحها ؟ مثلا هل يختلف جوهر كلمة "قادم" بمعناها العملي، عن كلمة "عائد"؟ اليس في القدوم عودة وفي العودة قدوم؟ اذن قصيدته الثانية هي استمرار لإنتظار القادم، الذي يصير هنا عائدا. هذا ما وجدته في قصيدته الثانية: " ايوب الجليلي يعود الى الورد":
عاد أيوب الجليلي الى الورد وطيبه
بعد ان جرعه الدهر العذابا
المسيح هو ابن الجليل حيث القى خطبته المشهورة باسم التطويبات وقام باول واهم عجائبه، وايوب الجليلي هو الفلسطيني الذي شرد وصودرت احلامه وايوب هو مثال الصبر والإصرار على العودة ولا بد للفلسطيني ان يكون ايوب في صبره أيضا.. حتى يعود الى "الورد وطيبه" حين ياتي "القادم" بمركبة الشمس.
الشاعر يكشف برمزيته، وايحاءات شعره، المزيد من المضامين بدون ان يجعل من قصائده وأفكاره ظواهر صوتية شعاراتية.
عاد أيوب الجليلي الى الورد وطيبه
واحتفى كل حبيب بحبيبه
العودة هي مسك الختام. فهد ابو خضرة ينشد العودة بطريقته الصوفية الحالمة، آخرون ينشدون العودة بقوة الصوت والمنابر،آخرون بوسائل قوة لم يترك لهم الزمن خيارات غيرها. لا افاضل بين الأساليب، انما ارى ان فهد اعطى للشعر، للرؤية الإنسانية، الدور الفاعل ، وهذا يذكرني بقول لماركس بان "الفكرة حين تتغلغل بالجمهور تصبح قوة هائلة".
القصيدة الثالثة هي عودة أخرى لنفس الأجواء: "اغنية للزمن الآتي"، ننتقل من القادم بمركبة الشمس الى أيوب الجليلي العائد وصولا الى الزمن الآتي ، سلسلة لا تنقطع متماسكة من حيث الفكرة والصورة الشعرية والفلسفية:
هي العودة البكر
كل الزمان الذي مر في النار
وهج من الحب،
بسر من الحكمة الخالدة.

طبعا الروح الصوفية تشتد حدة في هذه القصيدة. الزمان الذي مر في النار هو زمن الضياع ،زمن الشتات. فهد لا يتخلى عن كونه انسان اولا، مطلع قصائد فهد تكاد تبدو بدايات لصلوات فيها جمالية الرمز الشفاف ، قوة الطيبة البشرية التي ترفض ان تتخلى عن قيم البشر مهما جار الزمان، لأن الإنسان كما احاول ان أفهم فهد ابو خضرة هو ليس أداة ميكانيكية بل مشاعر طاهرة اذا فقدها فقد انسانيته، نجد هذه الثيمة عبر كل نصوصه الشعرية:
بقوة هذا الذي فيك كان،
وكنت به الحب والدفء للعاشقين
(من قصيدة اغنية للقدس)
حقول من الشمع
ترسل أنفاسها
صلاة
وأناتها
دعاء
الى واهب العفو والمغفرة
(من قصيدة شاعر في مغارة التجليات)
شامخا في الساحة الكبرى أمام النهر
عشرين ذراعا ، مرمرا أبيض
في يمناه سيف
وعلى يساره وحش بشري
(من قصيدة الفتى والوحش)
اكتفي بهذه المقاطع التي أخذتها تباعا من ثلاث قصائد. الصور توحي باجواء معبد مسيحي، في قصيدة "الفتى والوحش" مثلا يتابع:
حدث الراوون قالوا
ان هذا راس سفاح أثيم
انه الأخطبوط (الوحش) الذي يقتله "مار جرجس" حسب القصة المسيحية. هذه الصور تتماثل مع الواقع لمن يملك خيالا يتجاوز الصورة الشعرية، وهنا جماليتها الصياغية اولا، والرؤيوية ثانيا، مما يجعل القارئ يغرق متاملا، طبعا ليس اي قارئ، بل القارئ المتمرس خصب الخيال الواسع المعرفة.

ان مطلع قصائد فهد لها مميز هام انها تشكل تأكيدا على الرؤية المتوهجة التي يقود القارئ اليها دون عناء.
البعض يفهم ان فهد ابو خضرة هو شاعر وجداني، هذا لا ينفي وجدانيته القوية في نصوصه وهذه ميزة لكل مبدع ، ان تكون وجدانيته مطبوعة في نصوصه، ولكنها لا تنغلق على ذاتيته وتعزله عن واقع الحياة، بل تضيف الى نصوصه الشعرية الانطلاق الى آفاق واسعة حدودها السماء، يمكن القول ان نصوصه تحاكي الواقع عبر وجدانية الشاعر.
قصائده هي خطاب للعقلانية.

كلما تعمقت بقصائد اليوان أشعر باني يجب ان أضيف، ولكني اكتفي حتى لا اكرر نفسي. الشاعر نجح ببناء صرحه الشعري الخاص والمميز في شعرنا المحلي كله.
هذا يعيدني الى الفترة التي اكتشف فيها العالم العربي شعرنا الفلسطيني واطلقوا عليه تعبير "أدب المقاومة"، ربما لغياب أي مقاومة عربية حقيقية غير الشعر.. وخاصة شعرنا الفلسطيني المحلي.
سادت وقتها القصائد المهرجانية الخطابية والمباشرة، من ناحية أخرى لعبت الهيكلية الحزبية والإعلامية السائدة دورا كبيرا في التسويق.

لا ادعي ان الشعراء الذين برزوا لا يستحقون ما اكتسبوه من اعجاب، انما اسجل حقيقة ان شعرنا لم يكن يستحق ما حظى به من حماس مبالغ وصل حد التقديس ولم يكن كله على نمط واحد . هناك اسماء عديدة ظلت في الظل .
من هنا ارى ان مسيرتنا الشعرية تحتاج الى اعادة تقييم جذرية لا تغمط حق أحد.
******
*- الصوفية: تيار في الفكر العربي – الإسلامي ظهر في القرن الثامن الميلادي وتتميز بصهرها بين نظرية المعرفة حول وحدة الوجود ، أي اعتبار كل الموجودات تجليات للإله وبين مذهب يرى كمال الإنسان الأخلاقي.طبعا هناك بحر من التفسيرات والتقسيمات في تأويل هذه الظاهرة، لكني على قناعة ان جوهرالصوفية هو ما سجلته، من منطلق ان كل ظاهرة فكرية او دينية او فلسفية لا تظهر لتكرر ما هو موجود فقط.

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة