الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 16:02

العائق الاكبر/ قصة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 09/12/19 12:10

صبية في عمر الورد تربط شعرها ذيل فرس، تسهر حتى ساعة متأخرة قبالة حاسوبها، تكتب وتكتب وتكتب. تبتسم حينا وترتسم علامات التفكير على وجهها الجميل اخر. تنتابها حالات حافلة بالشوق والمحبة. شاب لامع العينين ينسى تعب النهار، ينسى الهندسة وايامها، يسهر الليل ليكتب لفتاة احلامه كل ما عنّ له وخطر في باله من كلمات تُطيّر العقل. صور تتلاحق. تتعاقب الايام والليالي. يمضي الوقت بين البطء والسرعة.. تلتمع الالوان حينا وتخبو اخر. انتظار وترقب. قلق وتوتر، وجه صبية باسم، وجه شاب باسم. دموع فرح.. غموض بلا غموض.. شوارع واشجار.. احلام.. بلدان متباعدان.. تفصل بينهما جبال وديان وسهول.. سيارات وطائرات.. وشارع طويل.
***
عندما دخلت نهيلة عالم الفيسبوك، كانت تعرف ما تريده وتبغيه، وكانت واثقة من جمالها ودلالها، وقدرتها على التصور وتحقيق ما تتخيله. لم يكن يرضيها اي وضع وكانت تشعر انها قادرة محتكمة. كانت نهيلة صبية في مقتبل العمر، ذات شعر اسود كالليل وكانت تفضل ربطه ذيل فرس، وتزينه بدبوس على شاكلة قمر، كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، تحب الحياة وتُقبل عليها كلما سنحت لها الفرصة، فتعب منها بحذر. لم تكن نهيلة متسرعة، الامر الذي مكنها من احترام نفسها وعدم ابتذالها.
ذات ليلة في ساعة متأخرة، فوجئت بغريب يطرق باب فيسبوكها، بتعليق لطيف طريف، مفاده ان ما كتبته عما تتمتع به بنات هذه الايام من حرية، ما هو الا منحة الهية وهبها الله اليهن وان عليهن ان يصنها.. بمعناها الحقيقي. قرات نهيلة ذلك التعليق واعادت قراءته، مرة، ومرة ومرة، وهي تفكر فيما قصده كاتبه وتحاول التفكير فيما اراد ان يوصله اليها وفيما كمن وراءه من المعاني والالغاز الشابية.
في محاولة شخصية منها للإجابة على ما الح عليها من اسئلة، توجهت الى قراءة اسم الكاتب وفوجئت بالتشابه الشكلي الفظيع بين اسمها نهيلة واسمه: رهيل..، ولاستكناه المزيد دخلت الى صفحته الشخصية، لتكتشف انه من مواليد اقصى البلاد قبل ثلاثين عاما، (عمره قريب من عمرها)، ويقيم هناك. يعمل مهندسا الكترونييا.. هوايته العزف وركوب الخيل. يحب الشعر وتعجبه الكلمات الجميلة. اعجبت نهيلة بكل ما قراته ومرت عليه، كما مرت قبله على العديد من الاسماء، فقد علمتها الليالي ان تكون حذرة في الغابة الفيسبوكية المتشابكة. وكان لها عدد من التجارب غير المريحة مع متطفلين من كل الاعمار والديار، لكن ما ان نسيت نهيلة صاحب ذلك التعقيب حتى تذكرته، فقد دخل اليها على الخاص، وكتب لها كلمات ابرزت اللمعة في عينيها الدعجاوين، وبعثت فيها احساسا غير مألوف، لا سيما انه آت من مهندس الكترونيا وشابا ايضا.. وكما حدث لها كلما لفت نظرها امر.. يستأهل التفكير والخاطر يثير، راحت تقرأ ما كتبه على الخاص وتكرر دون ان تتوصل الى معناه المباشر ومعناه الاخطر غير المباشر، "اتمنى ان اتمكن من معرفة سبب عدم تفاعلك مع تعقيبي على كتابتك حول بنات اليوم". بدون تطويل في غير محله، دخلت نهيلة، خاص رهيل، وجرى بين الاثنين حديث تواصل ستا وثلاثين ساعة، وتتوج بأمرين، احدهما تبادل الصور والى جانبه الاعجاب.. الف.. والانبهار.. باء. والآخر وكان مضمرا، ان ما جمعه الله لن يفرقه بشر، وان هذه العلاقة لن تكون عابرة وسوف يكون لها ما بعدها.
بعد سنة من التواصل الليلي احيانا والنهاري اخرى، كان لا بد ان يُحضّر الاثنان امورهما ليجمعهما بيت واحد، وحب واحد وابن واحد ايضا، وللحقيقة نقول ان الاثنين برعا في التخطيط والترتيب لكل صغيرة وكبيرة .. للجمع بينهما، وان الامور جرت بالضبط كما خططا تخيلا ورتبا واقعا. في البداية وفد رهيل الى بلدة نهيلة، تاركا بلدته، اهله وعالمه، وبادر لشراء البيت التي اختارته نهيلة، واقام فيه، ريثما تجري بقية الامور، بعدها تعرف على اهلها، واعجب بهم ايما اعجاب، ثم طلب يدها فرحبوا به، بموافقة والحاح من ابنتهم. بعدها.. تحولت المحادثات الفيسبوكية الى لقاءات يومية، وكان الاثنان يغرقان في بحر من الضحك وهما يتذكران ايام الفيسبوك، ويقارنانها بما توصلا اليه في علاقتهما من حقيقية واقعية. اكثر من هذا لجآ احيانا.. للتواصل عبر الفيسبوك.. كسرا للملل. وكان هذا كله يجري وسط حذر رهيب من التواصل الجسدي بين الاثنين.. ولو حتى بقبلة على الطاير.
تتوجت اخيرا علاقة رهيل ونهيلة بالزواج وابتدأ الفصل الاكثر اهمية في حياة كل منهما.
في اول تواصل جسدي بين الاثنين، اكتشفت نهيلة ما لم تمكنها الليالي ولا الفيسبوك من اكتشافه. تم اكتشافها هذا، بشكل مفاجئ وغير متوقع، ولنطلعكم عليه اولا بأول.. بالضبط كما تقع الاحداث في القصص. ازال رهيل الطرحة من على وجه نهيلة. بعدها عصف الشوق بالاثنين فشرع كل منهما بمساعدة الآخر في انتزاع ملابسه، حتى باتا عاريين مثل جدهما الاول وجدتهما الاولى، في اول عهدهما على الارض. وبين الاشجار، نظر كل منهما الى جسد الآخر، فشعر انه انما يقف امام إلها تقمص روحا بشرية. نسي الاثنان كل ما احاط بهما وتذكرا امرا واحدا هو انهما معا وبإمكان كل منهما ان يرتوي من ماء الاخر السلسبيل الزلال. والتصق الفمان فالصدران فالجسدان، حتى انهما اصبحا، لمن يراهما او يتصورهما، جسدا واحدا بأربعة ايد واربعة ارجل.
منذ الليلة الاولى، شعرت نهيلة ان ريالة تدفقت من فم زوجها على جسدها، فاشمأزت منها قليلا، غير انها لم تعرها اهتماما خاصا، اعتقادا منها انها قد تكون لسبب نفسي وما اليها، بيد ان ما حدث في الليالي التالية، اكد لها ان امر حنفية الريالة دائمة التدفق على جسدها في اعماق الليالي، انما هي عادة عليها اما ان تتعايش معها او تطلب حلها، او.. ولم تكمل.
بين هذا السؤال الحائر والاجابة الطائرة كريشة في مهب الريح، قضت نهيلة السنة الاولى من زواجها. وكان ان انجبت مولودة ظهرت عليها ملامح النباهة والجمال جلية واضحة منذ خروجها من بطن امها الى سريرها، فاتفق الوالدان على تسميتها سهيلة، تناغما مع اسميهما، وتمت التسمية وسط اصرار مكتوم من والدها رهيل وموافقة مكظومة الغيظ من والدتها نهيلة.
بعد ولادة ابنتها توجهت نهيلة، ذات ليلة حالكة السواد الى رهيل، ملقية عليه خطبة مفادها، انه زوجٌ رائع ومضحٌ، وانها تُكبر هذا فيه، الا انها لا يمكن ان تقضي عمرها بركة لريالته. اخفض رهيل راسه امام نهيلة، كمن حسب الف حساب لتلك اللحظة وخشي منها طوال ايام حياته، وهمس كأنما هو يريد ان يسمعه انسان واحد في العالم، يدعى نهيلة، والحل؟ ما ان لمست نهيلة انكساره ذاك امامها، حتى انتابتها حالة من الرأمة الامومية، وهتفت به بصوت هامس كي لا توقظ صغيرتها ايضا: الحل ليس عندي.
توجه رهيل في صبيحة اليوم التالي الى طبيب مختص، كما فعل مرات ومرات في سنوات ماضية، في البداية برفقة امه، بعدها برفقة ابيه، ثم وحده، لتبتدئ رحلة شاقة من محاولات العلاج المتجددة، وغير الناجعة.
في هذه الفترة اتفق الزوجان على حل وسط، ان ينام كل منهما في غرفة، وقد تم تنفيذ اتفاقهما، الا في حالات نادرة في البداية، وكثيرا ما كانت هذه الحالات تحصل وسط خجل نهيلة من نفسها اولا ومن زوجها المهندس الالكتروني ثانيا، وكانت الزوجة المسكينة تسلمه جسدها وكأنما هي تسلمه الى مسرور السياف، او عشماوي قابض الارواح، الامر الذي ادخل الزوج رهيل في حالة من التساؤل عما يمكنه ان يفعله، وتوصل في ذروة تساؤلاته المتواصلة ليلا نهارا، الى انه ينبغي ان يتوقف عن لعب دور الزوج في تلك الصيغة المهينة له ولام سهيلة.
ومضت الايام بين عذاب وعذاب، وكانت نهيلة كثيرا ما تطلب الحل من كل من تأنس اليه رأفه نحوها ومحبة لها، غير ان احدا لم يقدم لها الحل المنشود، اما رهيل، فقد وجد نفسه مثل فرع قد من شجرة، فراح يتألم ليل نهار، دون ان يجد من يساعده او يمد لها يد العون.
عندما طفح كيل نهيلة، بعد معاناة تنوء بحملها الجبال الرواسي، كان لا بد لها من ان تخوض معركتها الاخيرة، دخلت غرفة رهيل، ذات ليلة بعد ان نامت ابنتها سهيلة، اثر الم وبكاء، فابتسم المسكين ظنا منه انها قررت التعايش مع مصيبتهما، سوى انها تجاهلت ابتسامته وقالت له بحدة من قرر امرًا لا رجعة عنه: طلقني.
بهت الزوج العاشق الحائر حبا، وقال: هل يوجد رجل آخر؟ فردت عليه بحزم، لا. فعاد يقول لها: وسهيلة. فقالت لها بإمكانك ان تراها متى تشاء.
همت دمعة حارة من عين رهيل، وخطر له ان يتقبل الوضع المستجد، فشرع بجمع ملابسه وسط نظرات زوجته العارفة، وصرخات ابنته في الغرفة القريبة جدا. وتوجه من فوره ليستقل اي وسيلة نقل سيارة او طيارة، لتعود به من حيث اتى. اما نهيلة فقد ربطت شعرها الاسود الطويل على شكل ذيل فرس. وضعت وسطه دبوسها القمري، توجهت نحو حاسوبها وفتحت فيسبوكها.. وهي زائغة العينين.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة