الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 07:02

الدبة الشقية

بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 11/09/21 17:09,  حُتلن: 19:44

توقّفت قبالة الفاترينا الزجاجية تبحث عن شيء يليق بالمناسبة. ترى ماذا ستشتري له؟، الم تعرف بطرائقها الجهنمية.. ذات التجارب الوفيرة الغنية ان عيد ميلاده الخامس والاربعين يصادف اليوم التاسع من ايلول؟ انها الآن تتأمل بنظراتها ذات التاريخ العريق في والتمعن، تتأمل في المعروضات كلها، ترى باي هدية يمكنها أن تعبّر له عن حبها العابر للزمن؟ المتمتع بشباب لا يشيخ.. شباب ابدي.. لا يؤثر فيه لا مضي الايام ولا تعاقب السنين ولا حتى تتالي الاعوام. ترسل نظرة متفحّصة اخرى إلى الفاترينا.. هذه المرة يلفتها قوامها الاهيف المتناسق، انها ما زالت جميلة. تسوّي بنطالها التايبس على قدّها الممشوق، وتُميّل طاقية القش على راسها. آه هكذا انت سيدة الدنيا.

تبتسم رغم شعورها المراوغ بالتعب. تقنع نفسها بأن عليها ان ترتاح قليلًا ليس لأنها امرأة وحيدة ومسنّة وتحتاج الى راحة من نوع ما، ولا لأنها مريضة، فهي لا تعترف بهذا كله. وهي ما زالت قادرة على الحياة وتعرف كيف تعيشها. تتوجّه نحو مقعد قريب في الشارع العام. مبتعدة عن فاترينا الهدايا، تسترخي قليلًا على المقعد إلا أن قوة ما تدفعها لأن تعود إلى هناك.. إلى الفاترينا.. هذه المرة لن تقف مكتوفة اليدين، وانما هي ستدخل إلى الحانوت.. ستطلب من صاحبه أن يبحث لها عن اجمل دُبّة صنعتها يد بشرية مبدعة. هذه المرة لن تسأله كعادتها كم يكلفها ثمنها.. بل إنها ستبتسم مشجعةً صاحب المحل على أن يطلب ما يريده من ثمن لدُبته حلالًا زلالًا عليه الربح الصافي.

تدخل إلى المحل.. تتناول من صاحبه اجمل دُبّة خاطتها يد بشرية، ترسل نحوها ابتسامة اقوى من السنين، تهز راسها علامة الاعجاب والموافقة. صاحب المحل يبادر إلى لفّ الدبة المباركة بأجمل ما لديه من ورق مقوّى وبكل ما تعلمه واتقنه من مهارة.. ويقدّم لها دبته على طبق من ابتسامة.. تتناول الدبة وتخرج من المحل.

لقد تعمّدت منذ ثلاثة ايام.. بعد معرفتها يوم ميلاد حبيب القلب الشاب المهيوب.. أن تصطنع عدم المعرفة وأن تتغيّب عن شقتها.. لتجعل من مفاجأتها احلى مفاجأة غرامية تراها عين بشر. تحتضن دبّتَها الغالية، وتمضي في طريقها الطويل.. تمضي ويمضي حلمها المتجدّد معها وإلى جانبها. إنها تود الآن لو تتحول إلى فراشة لتطير إلى هناك.. إلى غرفتها وسريرها المستدير لتحط على جانبه الاجمل والاقرب ولترسل إليه نظرةً اتقنت ارسالها منذ شبابها الاول حتى هذه السنوات الخفيفة الزاحفة دون إرادة منها. ستقدّم إليه دُبتَها ممشوقة القوام. وسوف تطلب منه أن يزيل غلافها الثمين.. ليراها هي.. وليس غيرها في تلك الدبة خفيفة الدم.. الم يردّد أمامها اكثر من مرة انه يتمنّى لو انها تنجب له دُبةً تشبهها؟ ليأتنس بها في لحظات غيابها عنه؟.. في هذا العمر هي لا تريد أن تنجب دُبتها.. الكتكوتة الصغيرة.. خفيفة الدم، لذا ستقدّمها إليه على طبق من امل.. دبة رائعة تدفئ جسدَه الفوار، أما هو فانه كعادته قُبالة مفاجآتها الكثيرة له منذ تعرّفت إليه قبل نحو الستة شهور.. سيبادر إلى ضمّها ولثمها بكل ما لديه من شبق وشبابٍ شاربٍ ريّان.

تمضي في طريقها غير عابئة بتعب او مرض أو حتى شيخوخة. انها تود أن تصل اليه هناك في شقتها وعلى سريرها الساحر.. بأسرع ما يمكن.. لتريه أنها أجمل امرأة رأتها عيناه. وأنها اكثر اخلاصًا واشد حبًا من تلك الشابة التي ضبطتها وهي تتبادل وإياه النظرات الحافلة بالمعاني الغامضة. لا.. لا.. هو لا يمكن ان يُحبّ غيرها. صحيح أن هناك فرقًا في العمر بينهما.. صحيح أنها تكبره بسنوات ليست قليلة.. إلا أنها ما زالت قادرة على التحدي وكسب معركة المنافسة. قالت لنفسها ومضت تتقافز مثل دُبة حديثة عهد بالحياة.

الطريق إلى شقتها كانت قصيرة جدًا. توقّفت قُبالة باب شقتها سوّت ملابسها على جسدها الباهر وأعادت إمالة قبّعتَها القشية على رأسها.. بالضبط كما ارادها حبيبها دائمًا. فتحت حقيبتَها اليدوية.. تحسّست مِفتاح شقتها بكل ما في العالم وفي العين من لُطف ورقة.. القى المفتاح بنفسه بين أصابعها الغضة الطرية المتحدّية لكل شيخوخة ومرض. ادخلته في موقعه من اكرة الباب وفتحت الباب الخارجي رويدًا رويدًا.. مثل لص خبر أسرار مهنته وبرع فيها.. ما هذا إنها تشعر بحركة غريبة تخدش فضاء الشقة. أهي الُدبّة تريد أن تتحرّك بين يديها لتقفز إليه هناك في غرفة نومهما.. قائلة له ها انذي أتيت إليك لاحتفل بك في يوم ميلادك، أم هو شيء آخر.. لتتوقف ولتصخ السمع جيدًا.. تتسع عيناها من هول المفاجأة.. شيءٌ ما يشعل الضوءَ الاحمر في مخيّلتها.. لكنها تكذّب نفسها لا.. لا يمكن.. تصيخ السمع اكثر فاكثر.. تلصق اذنها بواجهة باب غرفة نومها.. لتستمع إلى صوت نسائي كارثي:
-انا خائفة... أشعر أنها ستأتي..
صوت رجالي.. يشبه صوت حبيبها:
-لا تخافي.. أنا متأكد من أنها لن تأتي.
-كيف لا اخاف ونحن هنا في بيتها.. إنها حيزبون وعاشقة.. لا يمكن أن تؤمّن لأحد.. هل أنت متأكد من أنها لن تأتي؟
تُبعد اذنها عن واجهة الباب.. الآن تبيّن لها ما خفي عليها وما لم تشأ ان تعرفه.. الآن اكتشفت سر تلك النظرات المتواطئة بين تلك الما تتسمى وبين حبيبها. شعور بالاختناق ينتابها.. انها تحاول أن تصرخ.. أن تضرب الباب بيدها المرهقة المتعبة.. إلا أن صوتها لا يخرج.. تشعر بانعقاد لسانها و.. تهوي قُبالة الباب الموصد.. تهوي هي ودُبتها المسكينة.. أسفًا وحسرةً..

ــــــــــــــــــــــــــــــ
*من مجموعة قصصية ماثلة للطباعة عنوانها "عمود البيت".

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة