الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 22:02

أمين دراوشة: في رواية نسيم الشوق لجميل السلحوت

أمين دراوشة
نُشر: 01/05/19 02:46,  حُتلن: 02:47

أمين دراوشة:
الآخر وتأثيرة على صورة المكان والشخصيات
في رواية نسيم الشوق لجميل السلحوت

سهيل مواطن فلسطيني أمضى سنتين في سجن سجن شطّة غربيّ مدينة بيسان، والعائلة من قرية بيت حنينا في القدس. وعمره واحد وعشرين سنة بعد خروجه من السجن، انهى الثانوية العامة عام 1967 وفي الذكرى الأولى للنكسة تم سجنه. الأب كهل ويعمل مزارعا، والأم امرأة كبيرة تدعى صفية، ولا همّ لها طوال الرواية إلا زواج ابنها سهيل قبل أن يأتي قدرها. بعد خروجه من السجن سجل للدراسة في معهد بيرزيت لدراسة الرياضيات.
سجن لمشاركته في مظاهرة ضد الاحتلال بعد مرور سنة على نكسة 1967م، بعد ضربه بعصا غليظة على رأسه.
وهناك أكثر من إشارة تحدد الزمن بدقة، فوفاة أبو عطا كانت في عام 1970م ولأنه مواليد 1900م، فإن عمره كان سبعين سنة.
الشخصيات متعددة ومتنوعة، ولعبت أدوارها بطريقة متقنة، الرواية حكاية عائلة أبو حاتم، وظهر منها الابن الأكبر حاتم، والذي يظهر إنه شخصية متزنة، ومثقفة رغم قلة تعليمه، ويعمل بجد، ويصرف على العائلة الكبيرة، والابنة فاطمة صاحبة الشخصية المرحة التي تضفي على الرواية بعض الفرح في خضم البؤس الذي يحوم في سمائها.
الشخصية الرئيسية والمحورية الشاب سهيل ومعه حبيبته وزميلته في معهد بيرزيت ناريمان، وابن خالته مديحة وحبيبها سامي.
وتطرق الروائي في ثنايا الرواية إلى السجن وأحوال الأسرى القابعين فيه، وأحلامهم المنكسرة.

القضية الاجتماعية الطاغية على الرواية

تعيش مديحة المعلمة عذاباتها وحدها، تتظاهر بالقوّة أمام الآخرين، لكنّها هشّة في قلبها حزن عميق، تحتفظ بسرها الخطير، الذي قد يؤدي إلى قتلها. تتذكر رحلتها مع طالباتها إلى بحيرة طبرية، حاولت السباحة، ولكنها كادت أن تغرق لولا تدخل المعلم سامي متري، الذي سحبها إلى الشاطى، وقام بعملية تنفس اصطناعي لها وهي في حالة غيبوبة.
"سحب نفسا عميقا وهو يجثو على ركبتيه، وضع شفتيه على شفتيها ونفخ في جوفها، كان يسحب شهيقا من أنفه وينفخ في فمها، حتىّ عادت إلى وعيها". (1)
هو يُدرّس في المدرسة الإبراهيميةّ في القدس، ويسكن حارة النصّارى. عندما حدثت والدتها، قال لها: أتعرفي ما هو متعارف عليه في هذه الحالة، "العادة يا بنتي أنّها تكون من نصيبه...
بقولوا أنهّ لولاه لماتت، وعلشان هيك، بقدموها عروس له بدون مهر!...لأنّها انكشفت عليه وانكشف عليها". (ص 156)
وأوضح الكاتب صفات سامي الجسدية، مديحة رأته: "وسيم، طو يل القامة، مفتول العضلات، قمحيّ البشرة، فيه شهامة الفرسان القدامى، لكنّها لن تكون من نصيبه
لاختلاف الدّيانة. (ص 158)
تناقش الرواية قضية اجتماعية خطيرة وهي الزواج بين اثنين ديانتهما مختلفة، وارتكزت الرواية على الموضوع وتناولته بشكل مفصل.
وفي حوار شيماء ومديحة تم تناول الموضوع، فإذا كان هناك كثير من الزيجات المختلطة نتيجة هجرة الكثير من الفلسطينيين والعرب إلى أمريكا والغرب، إلا أن ذلك ناتج عن ثقافات الشّعوب الغربيّة، التي تختلف جذريا عن ثقافتنا في الشرّق. أمّا زواج العربي من اليهودية فلم يصبح إشكالية إلا بعد نكبة 1948م وما رافقها من مذابح يهودية ضد الفلسطينيين وضد العرب.
أمّا في مجتمعنا فالزّواج المختلط بين المسلمين والمسيحييّن، قد يصل إلى القتل، فالإسلام يحرم زواج المسلمة من غير دينها. كما إن الكنيسة ورجال الدّين المسيحيّ لا يسمحون بالزوّاج المختلط. والعادات والتقّاليد لا تسمح بهكذا زواج أيضا.

وكذالك في حوار مديحة وناريمان الفتاة المسيحية التي تطمح في الزواج من سهيل.
تقول ناريمان: الزوّاج المختلط له أبعاده الخطيرة في بلداننا العربيّة، فالمسيحيّ إذا تزوّج مسلمة قد يتعرضّان للقتل، إذا لم يعتنق المسيحيّ الإسلام قبل الزوّاج. والمسيحيةّ إذا تزوّجت
مسلما، ربمّا تتعرضّ للقتل هي الأخرى، وتغضب عليها الكنيسة وأسرتها، وقد تتعرض للمقاطعة وللبراءة من أسرتها ومن الكنيسة وأتباعها". (ص 183) ويورد الروائي العديد من الآيات القرآنية التي تحرم زواج المسلمة من آخر صاحب ديانة مختلفة على لسان مديحة.
إلا أن كلتيهما تؤكدان على وحدة الشعب الفلسطيني، فالأصل واحد وكذلك التاريخ والمصير المشترك.
وكذلك دارت حوارات كثيرة حول فكرة الزواج المختلط، فحاتم يرى أنّ هناك الكثير من أقاربه المغتربين في أمريكا تزوّجوا مسيحياّت ويهوديّات، ولم يعترض عليهم أحد.
فترد مديحة: إن مشكلة الزوّاج المختلط في مجتمعنا وليست في أمريكا، والتفّريق في مجتمعنا أيضا يتضمن وضع العراقيل أمام الزوّاج إذا كان هناك فوارق طبقية.
ومن نتائج قبول خطبة سهيل وناريمان، يقول المؤلف:
"صباح اليوم التاّلي استيقظت أسرة خالد جريس حنّا؛ لتجد سياّرته وسياّرة ابنه جمال قد تحطّم زجاجهما الأماميّ، في حين كان زجاج سياّرة ناريمان جميعه محطّما، وإشارة
صليب مرسومة على مقدّمتها". (ص 259- 260)
وعندها هدّد الابن جمال بمعاقبة الجناة، وسط صراخ الأمّ، قال لهم أبو جمال:
"اهدأوا ولا تتكلمّوا في الموضوع مع أيّ انسان، استمعوا لما يقال فقط، وأكثر ما أخشاه أنّ هناك أيادي تلعب في الخفاء لإشعال نار الفتنة، ولا بدّ أن يظهر الجاني يوما". (ص 260)
فالاحتلال من مهماته الرئيسية إحداث الشرخ الكبير بين أبناء الشعب الفلسطيني، وأكثر ما يسيئه حالة الوئام بين المسلمين والمسيحين.
في النهاية ورغم كل شيء يتزوج سهيل من ناريمان، وتتزوج مديحة من سامي، وكأن المؤلف أراد القول: إن الفلسطينيين واعين لما يحاك ضدهم، وإن الحب مشاعر إنسانية لا يقف في طريقها إختلاف الديانة ولا حتى الاحتلال.

الأنا وأنماط شخصية الآخر

لا تعي الذات نفسها إلا عبر الآخر، بالاتصال والتفاعل والتشابك معه. والأمر سيّان، كما يقول تودوروف، بين" أن تعرف الآخرين أو تعرف ذاتك، فهما شيء واحد. يجوز إذن للآخرين وللذات أن يكونا في المرآة عينها". (2) وهذا التلازم بين صورتي الذات والآخر بان واضحا في أعمال مفكري علم النفس الاجتماعي وعلمائه، الذين اهتموا بالمواضيع المتصلة بالذات والآخر.
والذات هي "مجموع الأفكار والمعتقدات والأداء، وكلّ ما يمتّ إلى الفرد بصله في مجال حياته". (3)
ومفهوم الذات عند ربر "هو تكوين معرفي منظم ومتعلم للمدركات الشعورية والتصورات والتقييمات الخاصة بالذات، يبلوره الفرد، ويعتبره تعريفا نفسيا لذاته. ويتكون مفهوم الذات من أفكار الفرد الذاتية المحددة الأبعاد، من العناصر المختلفة لكينونته الداخلية أو الخارجية". (4)
ويعرف ويليام جيمس الذات أو الأنا في معناها العام بـ "أنها المجموع الكلي لكل ما يستطيع الإنسان أن يرى أنه له جسده، وسماته، وقدراته، وممتلكاته المادية، وأسرته، وأصدقاءه، وأعداءه، ومهنته، وهواياته" (5).
وتعتقد آنا أندرينكوفا أن من الشروط الأساسية لبناء وحدة سيكولوجية اجتماعية اختراع صورة للآخر، فبواسطة هذه الصورة" تتحقق نزعة الفرد إلى خلق انشطار بين "النحن" و "الهم"، وإلى تثمين الفروق القائمة بين هؤلاء وأولئك. تلك هي النزعة التوّاقة إلى إنشاء "نحن" ذاتية تقرن بكل ما هو آخر ؛لكي يصلح فصلها عنه لاحقا. وقد تكون للآخر أولوية على الأنا في هذه الحالة" (6). إن مفهوم العدو لدى الاحتلال الإسرائيلي، يتسبب في التماسك الداخلي، وتأمين المصالح المتضاربة في الداخل. وتكاتف أطياف الشعب كافة وتعاونها، في مواجهة الآخر البرّاني. ويقول سمنير: "كلما قويت الجماعة التي ينتمي إليها الآخر، وصارت على مقربة كبيرة من الجماعة التي ينتمي إليها الأنا، قوي معها الشعور بالعدوانية الخارجية، وقوي التماسك داخل مجموعة الأنا" (7).
هكذا يتضح أن الأنا الفردية أو الجماعية تتبدى عبر الشخصية، وتنمو من الخبرات والتجارب التي يتعرّض لها الإنسان، وبالتالي يؤثر عليها الواقع، وما تحمله من مميزات نفسية واجتماعية. إن عملية إدراك الذات عملية ليست سهلة، وهي عملية مستمرة، ويمكن التوصل لفهم الذات عبر الخبرة والنضج. ولا شك في أن صورة الآخر، لا توجد إلا مقابل صورة الذات، فهما مفهومان غير منفصلين، ومتعلقان بعضهما ببعض، ولا يمكن الحديث عن أحدهما دون ذكر الآخر.
وقد طوّر العالم جيمس بالدوين "رؤية تفاعلية اهتمّ فيها بعلاقة الذات بالآخر، حيث شدد على أن "الأنا والآخر" مولودان معا. (8) إن الوعي وإدراك الذات يستلزم بالتأكيد الوعي بالآخر، ويقول الباحث الفرنسي جان فارّو: "الشرط الرئيسي الذي لا بد منه لكي يوجد "آخر"، حتى ولو لم يكن الشرط الوحيد، هو وجود "أنا" )ضمير المتكلم المفرد)". (9)
وتعبر صورة الآخر، في غالبية الحالات، حسب قول الباحث عبد الجليل حليم "عن موازين قوى وعن علائق تراتبية، وعن علاقات نزاعية، ولذلك قلما يكون المهيمن والأقوى والأعلى في موقف من يعاين الآخر، فإن الصورة التي سيحملها أو يقدمها عن الآخر لا يمكنها سوى أن تعبّر عن الشعور بالتفوق عليه وعلى الازدراء والاحتقار، بل والكراهية إزاءه. وعادة ما يكون هذا الآخر شعبا مجاورا أو شعبا لنا احتكاكات به على مرّ التاريخ ... فتعبر الصورة التي ننحتها عن قوالب جاهزة ثقافية ودينية واجتماعية، ربما تكون موغلة بجذورها في التاريخ". (10)
وهنا لا بد من التأكيد على أن صورة الذات وصورة الآخر معرضتان للتغير والتعديل، وأن نظرتنا إلى ذواتنا وإلى الآخرين لا تكون عادة سليمة وصحيحة، بل يختلط فيها الواقعي مع المثالي، فنحن لا نظهر للآخرين حقيقة أنفسنا، بل ما نرغب في إطلاع الآخرين عليه. أمّا بالنسبة لصورة الآخر، فقد نشكل عنه صورة انتقائية، من عناصر نختارها، لترسخ في أذهاننا، ونتجاهل عن قصد أو من دون قصد عناصر لا نريد الاعتراف بها.
والباحثة دلال البزري، تتناول قضية الوعي بالآخر، من كونها تقوم على مفارقة قائمة على معطيين بديهيين؛ الأول: "أنه لا يوجد "آخر" من دون الوعي بوجوده. يمكن لهذا "الآخر" أن يعيش طويلا، في بقعة ما، في زمن ما، ولا نشك لحظة في أننا قد نلقاه يوما فيصير آخر". (11) هذا ما حصل للعرب، الذين صدموا بالآخر الغربي، بعد حملة نابليون العام1798 ، وفي البداية أعجبوا بالآخر وحاولوا التشبه به، ثم حاربوه.
أمّا المعطى الثاني، فيقوم على أن العلاقة بالآخر مبنية "على قاعدة غالب ومغلوب، ومن دون هذه القاعدة، يضمحل الآخر ويصبح عدماً .. مندمجا تمام الاندماج، بحيث يصبح الأنا. كل الحملات التي تخاض ضد الآخر ترمي إلى التشبه والتماثل". (12)
ظهر الآخر الإسرائيلي في الرواية كسارق وقاتل وهادم الفرح، فسهيل يتساءل:
أين تذهب مياه النّهر؟ ويجيبه أخيه حاتم:
"تسحب إسرائيل مياه النّهر إلى النقّب". (ص 8)
وفي احتفال أهل الحي بخروج سهيل:
"فاجأتهم دوريّة عسكريّة، توقفّت في الشّارع، نزل منها الجنود، اعتلوا السّلسلة الحجريّة القريبة التي تعلو الشارع من الجهة الشّماليّة، أسلحتهم مشرعة وجاهزة للإطلاق". (ص 28-29)
وهم السبب المباشر في قتل أبو عطا، فأمّ عطا تشتم الاحتلال القاتل:
" يلعن أبو اليوم اللي شفناهم فيه، خرج من البيت سالما معافى، قتلوه قبل أن تتحقّق أمنيته برؤ ية أبنائه المغتربين ورؤ ية سهيل حرّا طليقا". (ص 31)
أمّا أبو محمدّ فقد أكد أنّ سبب موته هو الغاز السّام الذي ألقاه جنود الاحتلال دون داع علي الحشد الفلسطيني المحتفل بإطلاح سراح سهيل من السجن. دفن أبو عطا في الساعة التاسعة ليلا بناء على تعيلمات ضابط الاحتلال، ولم ينس الجنود الذين يحيطون بالقرية من كلّ الاتّجاهات، إطلاق صليات رصاص غير منتظمة من أماكن مختلفة لارهاب المشيعين.
وفي مشهد لافت، في منتزة في أريحا، وهو المكان التي اجتمع فيه أصدقاء سهيل والعائلة لتناول طعام الغذاء، لاحظ سهيل أنّ غالبية زبائنه من اليهود، أطفالهم يلعبون داخل المنتزه، الشّارع أيضا يعجّ بالسّيّاح اليهود، تنهدّ وقال لنفسه: هؤلاء" الغرباء شرّدوا شعبنا، احتلوّا بلادنا ويتجوّلون فيها كيفما يشاؤون". (ص 15)
إنّ الأنا هي فكرة الإنسان عن نفسه، أو هي "مجموعة من العمليات السيكولوجية النفسية التي تحكم السلوك والتكيف كالتفكير والإدراك والتذكر والإرادة". (13)
فرغم تصرفات الاحتلال الهمجية إلا إن ذلك لم يستطع اغتيال إنسانية الشعب الفلسطيني، فيظهر سهيل وهو يلاعب طفلا يهوديا ويحتضنه. وعندما يتناقش مسعود صديق سهيل مع والدة الطفل اليهودي، تخبره أن لا علاقة لها بالسياسة، وكل ما نريده هو أن نعيش ونربيّ أبناءنا بسلام. يتدخل سهيل قائلا: " دعك يا مسعود من هذا النقّاش السّفسطائيّ، فقد يكونون هم أنفسهم ضحايا للأكاذيب. (ص 16) وهنا إشارة إن الكثير من اليهود في العالم الذين غرر بهم وجلبوا إلى فلسطين على أساس إنها بلا شعب، وهي البلاد العامرة بأهلها الطيبيين.
إذن الأنا لا تحسّ بوجودها إلا إذا وجد الآخر، وهما يرتبطان بعلاقة مع بعضهما؛ سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة، ويمكن أن يكون الآخر صديقا أو عدوا أو قومية أو دولة أو حتى ديانة. كما أن صورة الآخر تتشكل وتتحدد وفقا للعلاقة مع الأنا سلبا أو إيجابا. وصورة الآخر في حالة الحرب تختلف عنها في حالة السلم.
إن نكران الآخر، ساكن البلاد الأصلي، المتخلف والمتوحش والقذر، ومحاولة سلبه "كلّ حق في التثقف وفي التحضر، وحتى في الانتماء للإنسانية، يسلب منه الحق في أن تكون له نفس، فكل هذه الحقوق حكر على الإنسان الأبيض والمتحضر الذي منحته ثقافته استعدادا لسيادة باقي الشعوب، فعليه أن يساعدها على بلوغ طور الحضارة، أي أن يساعدها على التنكر لثقافتها الخاصة لتتبنى ثقافته المهيمن. والأمر هذا منعوت في اللغة الأنثروبولوجية الشائعة بالتثاقف. (14)
وحرمان الآخر من ثقافته واغتصاب ملكيته، "أفضل الطرق لبتر جذوره وتشييئه"، (15) وبالتالي السيطرة عليه ودمجه في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الجديد المفروض عليه، وذلك بالتأكيد أبشع أنواع الاستلاب. وهنا علينا أن لا نغفل المرامي الاستعمارية من وراء، حرمان الآخر من أرضه وثقافته وجزّه من جذوره وتربته، من أجل ضمّه ودمجه في النظام الجديد، المراد فرضه عليه، فالمستعمر الذي يؤمن بأنه أصل الحضارة، وصاحب منهاج العلمية والتطور، وأنه الوحيد الذي يملك العقلانية، لن يرى في الآخر سوى موجود متخلف وبدائي وإرهابي.

الأرض والتاريخ
إنَّ المكان في العمل الروائي إحدى أعمدة الرواية، الذي يوحِّد عناصر العمل الأخرى، فالمكان لا أهمية له إِنْ لم يتوحد ويتصل مع عنصر الشخصية، فالمكان الذي تعيش فيه الشخوص، وتجري فيه الأحداث، هو من يساهم في تشكل الأحداث وبلورة الشخصية التي تتأثر بالحيز المكاني ويؤثر فيها، والشخصيّة تكون أَكثر "منطقيّة وقبولا من حيث ارتباطها أو انفصالها عن المكان باعتباره أحد العوامل التي يرتكز الكاتب عليها لتحديد هويّة أحداثه وفكرته". (16) وكما يقول الناقد حسن بحراوي فالمكان لا يكون منفصلا عن عناصر العمل الروائي، بل يدخل ويمتزج في علاقات مع المكونات الحكائيّة الأخرى للسرد. فالمكان يتشكل من خلال تفاعل الشخصيات ونمو الأحداث "فالمكان لا يتشكّل إلّا باختراق الأبطال له، وليس هناك أيّ مكان مُحدَّد مُسبقا، وإنّما تتشكّل الأمكنة من خلال الأحداث التي تقوم بها الشخصيات". (17)
فلا يوجد دراما حقيقية دون التقاء الشخصيات في الحيز المكاني وتفاعلها مع بعضها البعض.
يحاول الكاتب المحافظة على الأمكنة من خلال أسمائها وسرد تاريخها أحيانا، فسهيل أثارة منظر دير قرنطل الذي يقع في حضن جبل التجّربة، "أنّ المسيح -عليه السّلام- قضى 40 يوما وليلة صائما متعبدّا في هذا المكان، حيث اعتكف في هذا الجبل، ولحقه الشّيطان - كما ذكر إنجيل لوقا- وفي هذا المكان قال المسيح للشّيطان: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". تمَّ بناء الدّير فوق الكهف الذي أقام فيه المسيح –عليه السّلام-، واوّْل من فكّر في المحافظة على قدسية المكان الملكة هيلانة، حيث أقامت عليه تشييدا قديما منذ عام 325 للميلاد. تأسّس هذا الدّير على يد الأرشمندريت افراميوس سنة 1892 م، ثم جدُّد عدّة مرّات، لتصعد إلى هذا الدّير هناك طر يق واحد، وهو ممر شديد الانحدار وصعب تسلقّه، و يوجد حوالي (30-40) كهفا على المنحدرات الشرّقيةّ للجبل سبق أن سكنها الرهّبان والنسّاك في سنوات الاضطهاد، التي تعرضّ لها المسيحيوّن، وأمّا الدّير فيبدو وكأنة معُلقّ بالهواء". (ص18- 19)
أبدع السلحوت بطله الفلسطيني، المتسلح بالعلم والثقافة، البطل الذي مدّته الأرض المقدسة بصلابتها وقوتها. "فالحق منتصر لأنه حق، وصاحب الحق منتصر لأنه جزء من الحق، وفي الحق وصاحبه ما يحيل على "مهد المسيح"، الذي نصر الخير ونصره الخير منذ زمن طويل" (18)
وتحكي أمّ حنّا خالة ناريمان عن جفنا: هي إحدى القرى الفلسطينيةّ القديمة، "عدد سكّانها حوالي ألفي شخص، غالبيتّهم من المسيحييّن، أهلها يهتمّون بالزرّاعة، وكما تلاحظ فيها أشجار زيتون معمّرة، لكنّ جفنا تشتهر بزراعة المشمش أكثر من غيرها، وإلى الجنوب من هنا تلك البيوت التي تراها جزء من مخيّم الجلزون، حيث يسكن لاجئون ممنّ هجرّوا من ديارهم في نكبة العام 1948. أمّا إلى الشرّق من هنا فتلك قر ية عين سينيا". (ص 135)
أما القدس فركّز الكاتب على بلدة بيت حنينا كون أجزاء من أحداث الرواية تجري فيها، يقول سهيل: هي بلدة فلسطينيةّ "تقع شمال مدينة القدس، تبعد عنها حوالي 8 كم، تحدّها شعفاط من الجنوب والراّم وبيرنبالا من الشّمال، وتصل أراضيها إلى مطار قلنديا، بعد الاحتلال تمتّ مصادرة أغلبيةّ أراضيها، حيث يجري الآن بناء منطقة صناعيةّ على أراضي "عطروت" كما يجري التخّطيط لبناء مستوطنة في أراضي "النبّي يعقوب "، وفي قريتي معهد معلمّين كمعهد بيرزيت، لكنهّ مغلق منذ حرب حزيران. وتتميزّ بيت حنينا بأراضيها الزراعية الخصبة المشهورة بزراعة القمح والتيّن والزيّتون." (ص 136)
وهي البلدة التي اضطر الكثير من سكانها للهجرة إلى أمريكا تحت ضغط إجراءات الاحتلال القمعية.
ناريمان ولد أبيها في حارة النصّارى في القدس، وأمّها ولدت في رام الله هي وخالتها ليلى وبقيةّ أخوالها، تزوّجا في القدس، وسكنا في الشّيخ جراح، حيث ولدت وأشقاؤها في ذلك البيت المحاط بحديقة ورود، وشجرة زيتون معمّرة،ويملك والدها بقّالة في باب خان الزيّت في القدس القديمة. أمّا الدكتور الياس فعائلته جميعها من القدس باستثناء جدّته لأبيه فهي لبنانيةّ من بيروت، تزوّجها جدّه الذي كان يعمل تاجرا.
وتقول أمّ حناّ ردا على كلام الدكتور: رحم الله أيّام زمان يا ابني، فلم تكن هناك حدود، كان الشخص يسافر من القدس ويشرب قهوته في عمّان، يتناول فطوره في الشّام، وغداءه في بيروت، يرجع ليتناول العشاء وينام في القدس، ولكن هذه الأيام التنقل أصبح مخيفا بسبب الاحتلال.
وعن خط سير الرحلة المدرسية لمدرسة مديحة، يقول الرواي "وفي شمال مدينة طبريّا مررن بالجامع الكبير، وهو جامع عظيم بناه ظاهر العمر الزيّداني في القرن الثاّمن عشر الميلاديّ، و يعرف بالجامع الزيّدانيّ والجامع الفوقانيّ، وكذلك مررن بجامع الجسر الذي يقع في الحارة الغربيةّ على ساحل البحيرة، وهما مهجوران منذ نكبة العام1948 ، عندما وصلن أطلال قر ية سمخ جنوب المدينة والبحيرة، والتي لم يبق منها سوى بقايا من مشروع "روتنبرغ " للكهرباء...". (ص 155)
ولا شَكَّ إِنَّ الآخر المحتل الاستعماري قد فرض حقائق كثيرة على الأرض سواء أكانت عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكن الشعب يواجه هذه الاجراءات القمعية في فضاء المكان. ومقاومة الناس نابعة أساساً من محاولة الاحتلال طمس هويتهم، وتشويه الأرض ومحاولته تهويدها بتغيير شكلها وأسمائها. فالأمكنة ليس من السهل نزعها من قلوب أصحابها، ففيها ذكرياتهم وأحلامهم، وفيها بنوا تصوراتهم ورؤاهم عن الحياة. إِنَّ العمل الروائي سيكون ذو أهمية هامشية "إنْ لم يتحدّد مفهوم المكان ولم ترتسم أهمّ ركائزه خاصّة وهو من أدق ما عرفه الفكر البشري من المفاهيم وأكثرها تعقدا وتشعبّا وأدعاها إلى الاحتياط والاحتراز والتثبّت". (19)
فالمكان الذي نعيش فيه يحتوي "كُلّ ما مارسناه مباشرة ورصدنا فيه بعضا من تصوّراتنا ومشاعرنا الذّاتيّة الشّخصيّة، وتعلقنا به حبّا فيه لا في وظيفته وارتبط ارتباطا وثيقا ببعض تجاربنا العميقة أو بالجانب الحميم من ذواتنا". (20) ومن أكثر من البيت الذي ولدنا ونشأنا فيه ومزارعنا وحقولنا وشوارعنا والقرية...يمثله.
تستذكرمديحة الرحّلة المدرسيةّ التي شاركت فيها مع تلميذاتها، وجلسن في مكان خالٍ على الضّفّة الشرّقيّة لبحيرة طبريّا، البحيرة أمامهنّ، مدينة طبريّا على شاطئها الغربيّ، تتسلقّ المرتفعات الغربيةّ، إلى شمال البحيرة حيث الحولة التي جرى تجفيفها، تعلوها بلدة الخالصة، التي باتت تعرف باسم "كريات شمونه...". (ص 147)
إِنَّ الاهتمام بالمكان بدأ نتيجة النهوض الفكري والاجتماعي، ونتيجة محاولات الاحتلال طمس الأماكن والأسماء العربية الفلسطينية.
"فأصبح الإحساس بالمواطنة متأت من الإحساس بالتاريخ، وبالمجتمع وبالعائلة. وقد ألبس ذلك كله لبوسا اجتماعيا تغيريا". (21)
كان للتغيرات في الأمكنة في الرواية دور في تغيير حياة الشخوص وأسلوبهم وسلوكياتهم في الحياة، وفي ملاحقة أحلامهم صعبة التحقق رغم بساطتها.
يقول الناقد وليد أبو بكر، إنَّ كُتّاب الرواية الفلسطينية، يخلقون تجاوزا، يخلقون ظواهر كتابية تمثل الوجه الجميل والعذب للأدب الفلسطيني، الذي لا يهمُّه التباهي والاستعراض، لأنه يفعل. فهم "لا يخترعون مكانا، ولا يستبدلونه، لأنهم يعيشون المكان في المكان، فلا يكون مجرّد حلم، أو اجترارا لذكرى، كما صوره أدباء الشتات، وبعضهم أحسن التصوير. إِنَّه ملموس، فيه تراب وفيه عرق، وفيه دماء كثيرة، وفيه فوق كل ذلك آلام كثيرة، لا تسمح للصدق الفني بأَنْ يظلّ عاطلا". (22)
فالمكان في حياة الفلسطيني وإِنْ تغيَّر إلا أنه ليس بقعة جغرافية وحسب، يعيش عليها ويستقر فوقها، "وإنّما هو جزء من جسد كلّ فلسطينيّ. هو جزء من لحمه ودمه وشرايينه، أو هو بعض من جملة من الوظائف المركّبة للجسم. إِنّ المكان ليتربّع، وفقا لهذا التصوّر، في صميم الذّات على أنّه أحد مركّباتها. فهو يداخلها ويمازجها. ويعني بعض ما تعنيه. وإِنْ قبلت اقتطاعه منها فمُكرهة، مُرغمة. لأنها تدرك أنّها بدونه كيان مشوّه مختلّ، ومن الطّبيعيِّ أَنْ تتوق إلى استرجاعه. فبه تكتمل من جديد. وتستعيد أهمّ طاقاتها ووظائفها وكلّ صحّتها وجمالها". (23)
والفلسطيني متعلق بأرضه، ومفتون بها، بل هو مسحور لا يعرف لها بديلا، لذا نراه يتخلى عن كل شيء ليبقى على أرضه. فالأرض غاية في ذاتها ولا شيء يغني عنها.
فعندما يقول المختار إنه باع أرضه بسعر مليح، وبنى بيت كبير وفتح دكّانا.
وقيل إن أبو عطا باع أرضه كي يشتري تذاكر لأولاده ليسافروا لأمريكا. يتدخل سهيل في الحوار قائلا:
"يا حجّاج، الأرض كنز متجدّد، من باع أرضه سيأتي يوم يندم فيه على ذلك. والسّفر إلى أمريكا أو غيرها خطيئة، لأن البلاد بحاجة إلى أبنائها. و" بيع الأرض لليهود حرام ومرفوض تماما". (ص 43)

اللغة والتفاعل التراثي
امتازت اللغة بسهولتها ووضوحها، واستخدم الكاتب اللغة العامية بكثرة، ومن خلال الحوار، الذي كان ملائما لمستوى الشخصيات، ومن هذه الحوارات:
"- كيف حالك يمهّ؟
- الله يرضى عليك يا سهيل يمهّ، كيفك يا حبيبي؟
- أنا بخير يمهّ، أريد رضاك ورضا الوالد..." (ص 6)
وكما لعب المكان دورا مهما في الرواية، فإنّ حوار الشخصيات لا يقل أهمية، فهو "يحقق تصورا متكاملا لظواهر الواقع تصورا يعتمد على التنوع في الرؤية والشمول في آفاق التفكير ومدى قربها وصلتها بالقراء.. والشخصية في الأدب تؤخذ من الواقع، فالروائي حين يخلق شخصياته من الواقع إِنما يستعين بتجاربه التي عاشها أو عاناها أو لاحظها". (24) ويمكن اعتبار الرواية رواية الشخصيات الفاعلة، التي استطاعت خداع ألم الحياة، وتحقيق الحد الأدنى من تطلعاتها، فحوادث الرواية كلها تدور حول الشخصيات همومها وانكساراتها وآمالها.
ويرى ميخائيل باختين إن النص "لا يمكن أن يكون مستقلا بذاته، وإنما هو امتداد طبيعي لما هو خارج عنه، إنه رهين النصوص الأخرى، ففي أيّ نص، أو أي ّعمل أدبي يمكننا أن نكشف عن علاقات خارجية واضحة". (25)
ويعتبر أن الحوارية في الرواية تهبها الصدق والفاعلية. واعتبر الرواية جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، وتتضمنها الذاكرة الجماعية، فالرواية ليست براعة في استخدام التقنيات الرواية وحسب، بل هي حوارية قائمة على تنوع اللغات والتراث المشترك للشعب سواء المكتوب أو الشفوي، وصياغة للحوار بين الذات الساعية للمعرفة وبين العالم الخارجي(26)
تشكل الأمثال الشعبية في مجتمعنا الفلسطيني أفكار الإنسان ومواقفه اتجاه الحياة، وتكشف عن بيئته، ومدى ارتباطه بالأرض، ومواقفه من الآخر، ولها سلطتها النابعة من إيمان الناس بها إذ تؤثر في سلوكياتهم في الحياة، وتستخدم من قبل قائلها ليدعم أقواله ومواقفه، وتنتشر بكثرة في القرى الفلسطينية، ففي القرى سلطان الأمثال أقوى منها في المدن، كما يقول الباحث محمد الجوهري. (27)
فالإنسان يحفظها لكثرة ما تذكر أمامه منذ الصغر، ويستخدمها فيما بعد للاستشهاد وتأكيد مواقفه. ومن خلال الامثال نستطيع معرفة البنية الثقافية للمكان.
والأمثال لها قدرة على تمثيل العلاقات الاجتماعية المتشابكة، وتعبر عن تناقضات المعيشة، وتعبر عن وعي قائلها المستمد من التجربة المعاشة

مقالات متعلقة