الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 22:01

النكسة، اعتقالي واعتقال والدي

بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 06/04/21 10:24,  حُتلن: 17:40

أنهيت المرحلة الابتدائية بتفوق ونجحت في امتحانات الصف الثامن الحكومية التي أهلتني لدخول المدرسة الثانوية التي كانت بالنسبة لي عالما آخر فتح عيني على أشياء كثيرة لم اعرفها من قبل. في هذه المدرسة بدأ حبي للغة الضاد والفضل في ذلك يعود لمدرس هذه اللغة الذي زرع فينا حبها وكشف لنا ما فيها من عظمة وكبرياء. عشق المتنبي فجعلنا نعشقه وفهم عمق وعظمة القرآن فجعلنا نفهمه. حبب إلينا القراءة والكتابة ونمى فينا الانتماء وحب الوطن. كان ناقدا فذا شديد الملاحظة قوي البصيرة ثاقب الرؤيا .

في هذه المدرسة عرفت جريدة الاتحاد الحيفاوية وتعلقت بها فكنت أقرؤها كلمة كلمة. وفيها كتبت أول مقالاتي الأدبية حيث هاجمت بشدة كاتبا سوريا كان قد تطاول في رأيي على أحد شعرائنا الكبار. كتبت المقال ليس دفاعاً عن الشاعر وإنما حباً في الظهور. النشر في الاتحاد كان يعد عملا بطوليا تلك الأيام لأن من يقرأها كان يعرض نفسه للملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية فما بالك بمن يكتب فيها.
في تلك الفترة انضممت إلى الشبيبة الشيوعية. لبست لباسها الموحد وطوقت كتفيّ وصدري بمنديلها الأحمر. بدأت بتوزيع الاتحاد، صحيفة الشيوعيين، في القرية التي تعلمت في مدرستها في المرحلة الابتدائية. وبعد فترة قصيرة أقمت فرعا للشبيبة في هذه القرية. وعدت شاباً بإرساله إلى الدول الاشتراكية لدراسة الطب على نفقة الحزب فساعدني في إقامة الفرع. هذا الشاب كان يائساً وعلى وشك الانحراف والضياع بسبب ملاحقة الأجهزة الأمنية له. وقد نفذت وعدي وأصبح طبيباً.
في فترة الدراسة في المدرسة الثانوية اضطررت للسكن في نفس القرية حيث المدرسة مع بعض الزملاء بسبب بعد المسافة وصعوبة المواصلات العامة. الحياة خارج البيت بعيدا عن الأسرة كانت صعبة وغير مريحة وقد احتجت للكثير من الوقت والجهد للتأقلم لحياة القرية .تقاسمت السكن مع ابن عمي الذي دخل المدرسة الثانوية بفضلي. فوالده قرر ألا يرسله للمدرسة بسبب وضعه الاقتصادي ولأن له ثلاثة أبناء غيره. إلا أنه عدل عن رأيه بعد أن فشل في إقناع والدي ألا يرسلني إلى المدرسة الثانوية. أصعب ما واجهته أنا وابن عمي هو استعمال المراحيض التي كانت عبارة عن فتحة بئر دون ماء. في القبيلة لا توجد مراحيض والناس تقضي حاجتها في الطبيعة بين الأشجار. أمضينا أكثر من سنة ونحن نخرج خارج القرية إلى الغابة مرة في اليوم لنقضي حاجتنا كي لا نضطر للدخول إلى المرحاض وشم رائحته الكريهة.
في نهاية السنة الأولى في الثانوية وفي فترة الامتحانات حدثت حرب الأيام الستة. وبسبب خوفنا وفرحنا الشديدين تركنا المدرسة وعدنا إلى بيوتنا مشيا على الأقدام في الجبال والوديان ظنا منا أن كل شيء قد انتهى.
كانت الطائرات تمر فوق رؤوسنا متجهة شرقا. لم نتصور أن الجيوش العربية ستُهزم بهذا الشكل وبهذه السرعة وبقينا حتى آخر لحظة نصدق ما تبثه إذاعات العواصم العربية من بيانات وشعارات وأغاني حماسية.
عدت إلى القبيلة وخلال أيام الحرب ساعدت أخواتي على حصاد القمح. كانت الطائرات تمر من فوق رؤوسنا متجهة شرقا لتفرغ حمولتها على هضبة الجولان. رأينا كتل الدخان الأبيض والأسود تشب من الأرض كالفطر.
بعد أيام اضطررنا للعودة إلى المدرسة مذهولين وغير مستوعبين ما حدث. الصدمة كانت قاسية والمفاجأة لا يمكن تصديقها. الإذاعات كانت تكذب وحتى تعليقات أحمد سعيد من صوت العرب كانت مجرد شعارات عاطفية فالعرب لم يقتربوا وإنما ابتعدوا.
كتبت الشعر وأرسلته للاتحاد فرفضوا نشره لأن الاتحاد يومها كانت تحترم نفسها وتحترم قراءها. كنت أحب كتابة المقالة والقصة وملكت الكثير من القدرات التي لو تم رعايتها لأنتجت ثمارا جيدة جدا. إلا أنني اتجهت إلى الشعر.
حكايتي مع الشعر بدأت بعد أن استدعيت إلى شرطة عكا للتحقيق . المحقق أبرز لي ورقة بخط يدي. سألني عن قصيدة اتهمني أنني ألفتها وكتبتها فأنكرت الأمرين. والحقيقة أنني نقلت هذه القصيدة عن صوت العرب عندما غنتها المطربة فايده كامل أثناء الحرب. لم أجرؤ على مصارحة المحقق بالحقيقة فلجأت إلى الإنكار التام فتلقيت لكمة قاسية منه سال على إثرها الدم من أنفي وفمي وبقيت رهن الاعتقال دون شراب أو طعام من الصباح حتى المساء. قبل أن يطلقوا سراحي جروني إلى سيارة الشرطة التي انطلقت بنا إلى قرية مدرستي الثانوية، إلى بيت مدير المدرسة. المدير استقبلنا بترحاب وكان يبتسم على غير عادته. جلسنا في الصالون وبعد لحظات دخل هو والمحقق إلى غرفة مجاورة وعادا بعد لحظات. فكرت بالهرب ولكنني كنت مقيد اليدين والقدمين. طلب مني المدير بلطف شديد أن ندخل إلى الغرفة المجاورة. قال لي أن التهمة ثابتة علي لأنهم يستطيعون تحليل خطي. لذلك من الأفضل لي أن أعترف. رفضت وأكدت للمدير أنني بريء. فأظهر لي أنه يعرف من الخط أنني من كتبت القصيدة وإن اعترفت أمامه فسيقنع المحقق بإخلاء سبيلي. لم أصدق وعده وواصلت الإنكار. تجهم وجه المحقق الذي كان يبتسم منذ وصلنا بيت المدير وجرني إلى عربة الشرطة التي اتجهت بنا إلى عكا. تمنيت في داخلي لو يطلق سبيلي في القرية لأوفر أجرة السفر عندما يطلقون سبيلي. أعادني إلى عكا فتأكدت أنه سيطول اعتقالي إلا انه عند مدخل مركز الشرطة فك قيودي وأمرني بالانصراف.
بعد هذا اليوم الطويل والمؤلم، وكنت طالبا في الصف العاشر، عرفت أن الشعر مهم إلى هذا الحد فقررت التعامل معه وبدأت أسأل أستاذ اللغة العربية عن عروض الخليل بن أحمد فشجعني كثيرا وبدأ بمواكبة ما أكتب.
القصيدة – التهمة وجدها رجال الشرطة بين دفاتري وكتبي المدرسية عندما فتشوا بيتنا واعتقلوا والدي بتهمة أمنية في أعقاب نكسة حزيران.
بقي والدي رهن الاعتقال أكثر من سبعين يوما أطلق بعدها سراحه فعاد إلينا ملتحياً وشاحب الوجه لكنه قوي العزيمة. أرسلوا له بلاغاً يطلبون منه الحضور لمركز الشرطة. ذهب في الصباح ولكنه لم يعد. لم أجرؤ على الذهاب في أعقابه إلى الشرطة والاستفسار عن مصيره خوفاً من أن يعتقلونني أنا أيضاً. والدتي وأخواتي ألحوا في الطلب مني أن أستفسر عن والدي فأنا الرجل الوحيد في البيت. خجلت أن أخبرهن أنني خائف. ذهبت إلى صديقه العزيز صاحب أحد المحلات التجارية في القرية المجاورة وكان يعرف بعض أفراد الشرطة الذين يترددون على دكانه. أخبرته بما جرى لوالدي فوعدني خيراً. عدت إلى أمي وأخواتي وأخبرتهن أن والدي سيعود إلى البيت قريباً.
مر يومان كأنهما سنتان ولم يعد والدي. ولأسكت أمي وأخواتي ذهبت إلى التاجر صديق والدي فأخبرني أنه فحص الأمر ولا يستطيع المساعدة ونصحني أن أذهب إلى أحد الوجهاء الذين تربطهم علاقة جيدة مع الشرطة. دلني على بيت وجيه يعرف أبي. ذهبت إليه في ساعات الصباح فوجدت زوجته المتجهمة تجلس في مدخل البيت وعندما سألتها عنه قالت لي انه في الداخل ويمكنني الدخول إليه. قرعت الباب فسمعت صوتاً يقول لي: من؟ ففتحت الباب ودخلت. كان مستلقياً على فراشه بلباس أبيض ناصع البياض فصرخ في وجهي بصوت مرتفع: كيف تدخل بهذا الشكل؟
ارتبكت وتمنيت لو تنشق الأرض وتبلعني. كنت يجب أن أقول له من في الباب قبل أن أدخل. ولكنني حتى لو قلت له من أنا فهو لن يعرفني لذلك دخلت متسلحاً بالإذن الذي منحته لي زوجته قبل لحظات. تجمدت مكاني وقلت وصوتي يرتعد: زوجتك سمحت لي بالدخول!. فشتمها وشتم أباها. فازددت إحراجاً. .
نهض من فراشة. فرك عينيه وسألني بعصبية: ماذا تريد؟
قلت له ابن من أنا ولماذا جئت إليه فانفرجت أساريره وتغير حاله ورحب بي. صب لي فنجان سادة فقلت له أنني لا أشرب القهوة. فقال: "بدوي ولا يشرب القهوة؟" كدت أقول له "قهوتك لا تُشرب" ولكنني خفت على والدي.
لم يساعدني هذا الوجيه ابن الوجيه رغم أن عمي ذهب إليه في اليوم التالي وأخذ له بعض الهدايا ورجاه أن يفعل شيئاً. قضى والدي أكثر من سبعين يومأ في الاعتقال والتحقيق.
نكسة حزيران خربطت عقولنا وشربكت الكثير من المسلمات والطموحات. فتحت عيوننا على هوة سحيقة بين الخيال والواقع. فبعد أن كنا نتسمر حول المذياع لنستمع إلى خطابات جمال عبد الناصر من صوت العرب ونبني عليها أحلامنا، وإذا بنا أمام واقع لا يمكن تصديقه. انكسرت من الداخل لكن حبي لعبد الناصر زاد رغم الهزيمة.
وفي إحدى المحاضرات التثقيفية لأحد المحترفين من الحزب قام الرجل بمهاجمة وشتم عبد الناصر على اثر توتر في العلاقات بين الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفييتي كما يبدو فتصديت له، وحاولت إقناعه أنه مخطئ. فكان تصرفي هجينا على بقية الرفاق الذين لا يعرفون غير الطاعة وأظن أنهم وضعوا حولي علامة استفهام كبيرة أثرت كثيرا على مستقبلي في الحزب وفي الحياة. كنت من الرفاق النشيطين، أوزع الاتحاد وأشارك في كل اللقاءات والنشاطات الحزبية وقد نجحت في افتتاح فرع للشبيبة في تلك القرية بعد فشل الكثير من المحاولات التي قام بها رفاق آخرون. هذه الحادثة نسفت ما بنيت لأن من يفكر خارج النمط يحاصر دون أن يدري، ويدفع الثمن. الطاعة العمياء تتطلب تعطيل مساحات واسعة من الدماغ واستبدالها بمساحات أوسع من غريزة القطيع .
أخلصت في نشاطي في الشبيبة وفي توزيع جريدة الإتحاد فاختاروني لاستلام كأس المنطقة في احد مهرجانات الشبيبة.
لكن رفضي العفوي أن أكون واحدا من القطيع ظل العقبة التي منعتني من التقدم وأبقتني في الظل . الأحزاب عندنا كالحمولة أو القبيلة، لها بناؤها الخاص غير القابل للتغيير والبعيد عن المرونة. في رأس هذا البناء يتربع فرد بعقلية راع يسوق قطيعا ويوجهه كيفما يشاء رغم وجود لجان مركزية ومكاتب سياسية. المشكلة ليست في هذا الفرد وإنما في جوقة المنافقين والدجالين الذين يحيطونه دائما ويمنعون المخلصين والشرفاء حتى من إبداء رأيهم ويمنعونه هو من رؤية الواقع من حوله. يحبطون أي محاولة للتغير لأن ذلك سيمس بهم.
هذا الوضع يسود ليس في الأحزاب فقط وإنما في كل مؤسساتنا العامة والخاصة وفي سلطاتنا المحلية. إن تعطيل المؤسسات وتغييب دورها أو تزييفه من قبل جوقات المنتفعين المنافقين أوصلت رعاة القطعان، سواء كانوا رؤساء أحزاب أو رؤساء سلطات محلية أو رؤساء دول، إلى الأخطاء الفاحشة واخفت عنهم ما حل بالقطعان من معاناة وعذاب. وستظل جوقة المنتفعين المنافقين تنقل لهم الصورة الوردية وتحجب عنهم الواقع التعيس .
وجودي في إطار حزبي أعطاني الكثير من الدعم المعنوي والتثقيفي لكن أهلي كانوا مكشوفين للكثير من الضغوط النفسية خوفا علي وعلى مستقبلي لكوني ابنهم الوحيد . خوفهم هذا منعني من المشاركة في كل الرحل المدرسية وفي الكثير من الفعاليات الحزبية. فالوالدة كانت تتوسل إلي يومياً ألا اذهب إلى أي رحلة خوفا من أن يصيبني أي مكروه وكنت ألبي طلبها على مضض.
هذا الخوف منعني من السفر إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الطب بعد أن قرر فرع الشبيبة الذي انتميت إليه إعطائي هذه المنحة التي نلتها لنشاطي الحزبي، وبسبب الظروف الخاصة لقريتي والمعاناة القاسية لسكانها. لكنني خسرت الفرصة وأضعتها. وقد كان لأختي الأصغر مني سنا رحمها الله الدور البارز في تخويف والدتي علي وإثارة معارضتها لسفري رغم أن حلمها كان أن أصير طبيبا. كانت سامحها الله مرة تصور لوالدتي كيف سأعود مع زوجة روسية لا تفهمنا ولا نفهمها فإذا تقبلت الوالدة هذا الوضع تروي لها كيف رأت في الحلم أن الطائرة قد سقطت في البحر ليأكل السمك جثث راكبيها، فتجهش أمي في البكاء والعويل وكأن الأمر قد حدث فعلا .
لم أسافر إلى الاتحاد السوفييتي لكنني سافرت إلى حيفا هاربا من دوي القذائف وأزيز الرصاص ومن خوف وحب أهلي وكيد أختي الذي بدأ يضايقني .

***المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة