الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 13:02

الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة بـليغ النَّغم-سيمون عيلوطي

سيمون عيلوطي
نُشر: 02/04/21 18:40

الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة بـليغ النَّغم

بـليغ النَّغم:
قراءة جديدة في تجربة بليغ حمدي
الفنيَّة والانسانيَّة (15)
سيمون عيلوطي


محكمة الزُّور
القضاء المصريّ لم يعرف لجهله، أو لغياب العدالة عنه، أو لائتماره من جهات عليا، أو لجميع هذه الاعتبارات معًا، أنَّه حين حكم غيابيًا على بليغ حمدي بما عُرف بقضيَّة سميرة مليان، بحبسه سنة مع الشُّغل الشَّاق، بتهمة تسهيل الدَّعارة والفجور، إنَّما حكم أيضًا على مستقبل الموسيقى في مصر والعالم العربيّ بتعطيل مشروع الفنَّان المُدان ظلمًا، والذي كان يُعِدّ لتأليف موسيقى مصريَّة-عربيَّة كونيَّة، تُخاطب كافَّة شعوب العالم بدون اسْتِثْنَاء، موسيقى مرنة، إنسانيَّة، تُؤثِّر وتتأثَّر بفنون بالآخر المختلف، تقدِّمنا إليهم على أنَّنا أصحاب حضارة عريقة، ولسنا بذيول كما يُصوِّروننا في إعلامهم، ولم نزل فوق الجمال، نطوف في الصَّحراء بلا مَأْوى!!
الصَّحافة المغرضة
ما زاد الطين بلَّة في هذه القضيَّة المُلفَّقة هو: تجنيد الصَّحافة المغرضة لتخصيص صفحات كاملة تَعمَّد فيها أصحابها بإصرار وعزم على تشويه صورة الفنَّان حمدي، والنَّيل من سمعته وكرامته، حيث صوَّرته على أنَّه فتح بيته خمًّارة، وحوَّله إلى وكر للفاحشة، وملجأ للعاهرات، ما أتاح الفرصة (لللي بسوى واللي بسواش) أن يُنسج ما يصوِّر له خياله المريض من "تخاريف" تضع صاحب "ألف ليلة وليلة" في مرتبة الشَّيطان، وأدنى.
وقد جرت هذه الحملة المسعورة، المضلِّلة، والمدفوعة الأجر، رغم تأكيد جميع الشُّهود الَّذين تواجدوا في بيت بليغ حمدي في تلك الليلة المَشْؤُومة، وهم من الشَّخصيَّات الاعتباريَّة في المجتمع، والفنِّ، والأدب، أن المُضيف ليس له علاقة بما حدث لسميرة مليان، وأنَّه قبل أن تُقتَل، أو تنتحر، استأذن ضيوفه وذهب لينام.
سميرة مليان: ضحيَّة التَّقاليد والفن
قبل متابعة هذه القضيَّة المعدَّة سلفًا لإدانة صاحب "بعيد عنَّك"، العروفة باسم: "قضيَّة سميرة مليان"، والتي دمَّرت حياة بليغ حمدي، لا بُدَّ أن نتوقَّف عند أهم التَّفاصيل التي تدلُّنا على شخصيَّة سميرة مليان، وكيف وصلت إلى بيت الموسيقار الكبير ليلة وقوع مقتلها، أو انتحارها.
تفيد المصادر أنَّ سميرة مليان فتاة مغربيَّة، أقامت مع عائلتها في باريس، شأنها في ذلك شأن الكثير من العرب الَّذين يهاجرون من بلدانهم إلى أوروبا طلبًا لتحسين أحوالهم وظروف معيشتهم.
سميرة أبدت منذ الصّغر ميولها للغناء، وعندما لاحظت عائلتها أنَّ حبَّها للغناء يكبر معها، وإنَّها أخذت تفكِّر بجديَّة في التَّوجه نحو هذا المجال، رأت العائلة أنَّ أفضل السُّبل للتخلص من أفكار ابنتهم المغامرة هو أن يتم تزويجها، وبسرعة، قبل أن ترتكب (بمفهومهم) حماقة الغناء. وبالفعل، فقد تزوَّجت "مليان" من أحد شباب بلدها، وأنجبت منه طفلة وهي لم تزل في سن الثامنة عشر، واعتقد الجميع أنَّ انشغال سميرة بزوجها، وتربية ابنتها، والاهتمام بشؤون منزلها، سوف تُنسيها هوايتها. لكنَّ حبّها للغناء كان متأصِّلًا في أعماقها، ما دفعها إلى مواظبة تدريب صوتها سرًا، وقامت أيضًا بتسجيل بعض الأغاني بصوتها، وعندما علم زوجها بذلك جُنَّ جنونه، حيث كان لم يزل مصرًا على عدم توجُّه زوجته للغناء بأيِّ شكل. أمَّا هي فقد قرَّرت أن تتجنَّب التَّصادم مع زوجها وأهلها، والأفضل لها ولهم، هو: أن تترك كل شيء خلفها، وتهرب إلى حيث تُحقِّق أحلامها.
بعد أن حصلت على الطَّلاق من زوجها، أرادت أن تسافر إلى بلد عربيّ تستطيع فيه أن تجد المكان المناسب الذي يرعى موهبتها، وتنطلق منه إلى ما يُرضي هوايتها في فنِّ الطَّرب، فتوجَّهت إلى بلدها المغرب، وأخذت تحتكُّ بالمهتمين بالموسيقى والغناء الَّذين ساعدوها على أن تغنِّي في بعض الحفلات الصغيرة التي تقام في المنتديات. تعرَّفت هناك على رجل من أصل سعوديّ، اسمه "عبد المجيد تودري"، شخص ثري، قدَّم لها نفسه على أنَّه مُنتج حفلات، أقنعها بأنَّه سيوصلها إلى تحقيق حلمها، وأنَّه سيأخذها إلى الأوساط الفنيَّة في مصر التي ستفتح أمامها أبواب مسارح الغناء على مصراعيها، وذلك بفضل علاقاته والواسعة معهم، ودالَّته عليهم. تصوَّرت المسكينة أنَّها اقتربت من أن تضع قدمها على بداية طريق المجد والشُّهرة، ولم تكن تعلم وهي في سيرها نحو معانقة أحلامها، أنَّها تسير باتجاه حتفها للأسف الشديد.
المنتج الوهمي أوفى بوعده فأخذها إلى بيت بليغ حمدي، لتتعرف عليه، وتُسمعه صوتها. تصادف أنّ الملحن الكبير كان يقيم يومها في بيته حفلًا لأصدقائه من السُّفراء والدُّبلوماسيين المغاربة، ونخبة من أصدقائه المصريِّين. بليغ بدأ يقيم هذه الحفلات في بيته بين الحين والآخر، بعد طلاقه من وردة، لعلَّه يشغل نفسه عن التَّفكير بها. يفيد أصدقائه بهذا الخصوص أنَّ بيت بليغ حمدي كان مفتوحًا أمام الجميع، فكان بإمكان من يعرفه أو من لا يعرفه من المتطفِّلين أن يأتي إلى بيته ويشارك في الحفل، بما في ذلك المأكل والمشرب مثل أصدقائه من المدعوِّين تمامًا. من ضمن هؤلاء المتطفِّلين كان هذا المتعهِّد الوهميّ المدعو: عبد المجيد تودري الذي قدّم لبليغ المطربة النَّاشئة سميرة مليان. استقبلهما بليغ ووعد أن يسمعها في وقت لاحق، ثمَّ استأذن "مليان" والمنتج الوهميّ والحضور، ودخل غرفته لينام.
استيقظ على حالة من الصّخب والأصوات العالية، وعندما خرج من غرفته علم بحادث سقوط سميرة مليان عارية من شرفة منزله، وفسِّرت القضيَّة على أنها حادث انتحار، وظلَّت التَّحقيقات جارية إلى أن أغلِق ملف القضيَّة تمامًا، وذلك لعدم توفّر أدلَّة دامغة تدين صاحب البيت، أو غيرة من الحضور.
الغريب أن حملة تشويه الموسيقار لم تتوقَّف عند وسائل الإعلام فحسب، بل تجاوزتها إلى أصوات تنادي بإهدار دمه. كما تّمَّ إنتاج فيلم سينمائيّ طويل، بعنوان: "موت سميرة"، مدَّة عرضه ساعة وعشر دقائق، عُرِضَ في القاهرة يوم 26 "أغسطس" آب، 1985، تأليف وإخراج محمَّد بشير، سيناريو وحوار: نبيل غلام، شارك في تمثيل الفيلم مجموعة من وجوه السينما، منهم: كامل الشنَّاوي، رغدة، يوسف شعبان، إلهام شاهين، أسامة عبَّاس، وغيرهم. الفيلم ساهم هو أيضًا في الإساءة المقصودة لشخص بليغ حمدي، وتاريخه الفنِّي.
الممثلة القديرة إلهام شاهين أعربت عن ندمها على مشاركتها في فيلم "موت سميرة" الذي تناول حادث انتحار المطربة المغربيَّة الصَّاعدة سميرة مليان في منزل الموسيقار الرَّاحل بليغ حمدي، وقالت خلال لقاء مع الإعلاميَّة لميس الحديدي في برنامج "كلمة أخيرة"، على قناة "on": "ندمت فعلًا على مشاركتي فيه، لأنني بعشق بليغ حمدي وبعشق موسيقاه". وأوضحت "إلهام": "كانت غلطة كبيرة، إني شاركت في الفيلم، ومكانشي لازم أعمله، لمجرَّد إن فيه تمثيل، كان لازم أشوف وأدقِّق الرِّسالة اللي كان الفيلم بيحملها، والفيلم كان بيدين بليغ حمدي".
المقابلة على الرَّابط التالي:
https://www.facebook.com/watch/?v=2541831456114994
الفيلم "موت سميرة" توقَّف عن العرض بعد أن برَّأت محكمة النَّقض المصريَّة ساحة الموسيقار من التُّهمة المنسوبة ظلمًا إليه في المحكمة الأولى التي قضت غيابيًا بحبسه سنه مع الشغل، بتهمة تسهيل الدَّعارة والفجور كما تقدَّم سابقًا.
بليغ ربح أخيرًا القضيَّة، ولكن بعد أن ابتعد عن مصر ستّة أعوام، ذاق خلالها كل أصناف العذاب والقهر، وهاجمته جيوش من الأمراض، لم تمهله طويلًا، فغادر عالمنا في 12 "سبتمبر"، أيلول، 1993، عن عمر ناهز إحدى وستين عامًا.
والحقيقة أنَّ هناك أصابع خفيَّة، بعضها سياسيَّة، وبعضها الآخر فنيَّة، لعبت دورًا خبيثًا في إعادة فتح ملف "مليان" من جديد، وذلك بعد أن قامت النِّيابة بإغلاق ملف القضيَّة لعدم توفُّر أدلَّة تثبت تورُّط بليغ فيها على الإطلاق.
سأحاول في الحلقة القادمة أن ألامس تلك الأصابع الخفيَّة التي لعبت دورًا خبيثًا في إعادة فتح ملف قضيَّة سميرة مليان من جديد، وأبيِّن هدفهم من وراء هذه المؤامرة الدَّنيئة.
(يتبع)
 

مقالات متعلقة