الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 02:01

جغرافية الضيق والساحل خارج المتاح- أمير مخول

أمير مخول
نُشر: 04/01/21 12:51,  حُتلن: 13:17

في العام الاعتقالي الثامن في سجن الجلبوع كنت ادرّس موضوعي الجغرافيا السياسية والمجتمع العربي ضمن مساق جامعة القدس المفتوحة المخصص للاسرى. أضافة الى دورة في التثقيف السياسي للشبان ما بين جيل الثامنة عشرة والعشرين. كان ذلك فيما يطلق عليه ضمن هندسة الهويات والافاق "قسم نابلس" (وهناك اقسام اخرى وعلى سبيل المثال "قسم جنين" و"قسم طولكرم" بعد ان ألغت مصلحة السجون "قسم القدس وال48").

بايحاء من أسرى نابلس الشبّان الذين تراوحت اعمار معظمهم ما بين الثامنة عشرة والعشرين, علّمتهم عن جغرافية فلسطين وتعلمت منهم عن جغرافية الضيق وكيف تعيد انتاج نفسها على شكل تاريخ ومجتمع وذهنية وثقافة. انها تتسلل من المساحات الشاسعة غير المتاحة ومن المدى البعيد لتجتمع في النفوس وعياً وانصياعا. حدّثوني أنهم لم يلمسوا البحر في حياتهم سوى بعضهم لمرة او مرتين وهم أطفال، والاخرين لم يروا بحرا سوى البحر الميت. اما مصير اليابسة فلم يكن بأفضل بكثير، ولم تطأ ارجلهم لا الخليل ولا الجليل ولا القدس ولا الساحل ولا النقب، وبالطبع لم تطأ أرض غزة فهي أيضا من ساحلنا تتقاسمه كما يافا وحيفا وعكا وجسر الزرقاء ومع عشرات مدننا وقرانا المهدومة على حافته وذاكرتها الباقية فينا حلماً بالعودة.

في العام 1948 كان المخطط الصهيوني هو اخلاء الساحل من الحضور العربي الفلسطيني وتهويد المكان، كما كل المكان. بينما المخططات الآنية كما ارتسمت في هؤلاء الشبان الاسرى هي اخلاء الذهنية الفلسطينية من فلسطين وساحلها، وتذكية نار الذهنية المقطعة المتصارعة مع ذاتها، او التي لا ترى إلا المتاح لها ضمن هندسة المستعمر.
دون ان نلتفت ونحن نعيش على فكرة ان الجدار الاحتلالي الى زوال كما الاحتلال، ولا بأس في هذا الحلم ومشروع الشعب فهو حلم باكمله او قطعةً من حلم، لكن فاتنا انه نشأ وترعرع وتبلور جيل فلسطيني كامل في واقع الجدار، وبات الجدار مفروغا منه. انه جيل لا يعرف ما كان قبل الجدار، ومفهوم المدى الذي سبقه حتى وان كان مدىً منقوصا حددته نتاىج الاحتلال الثاني 1967 والمكمل للاول عام 1948.

للحقيقة انه جيل نشأ وترعرع في ظل جدارين، واحد بناه الاحتلال والاخر بنته الايادي الفلسطينية في الانقسام الكبير والانقسامات الصغيرة. لم يخفق هؤلاء في الجغرافيا بل الفشل كما قال السكاكيني يعود للمدرسة، المدرسة التي كانت تتعلم من ثورة شعبها حين كان الكتاب ثورة. انهم نتاج واقع وضحاياه الى ان يصبحوا من صناعه..
منهم تعلمت الكثير.

إلى الذين لا يعرفون بلادَ ما خلف الجدار

لا بحرَ خارج الساحل
ولا ساحلَ يحاذيه ليبشّر الارض بالبحر، والبحر بالارض
لا بحر غير بعضٍ من "الميّت".. وفيه .. لا حياة لمن تنادي
لم يهدأ البحر..
غاب خارج الخيال
محجوز داخل الصورة وخارج المتاح. والسّحرُ شتّت المعادلة وقال:
لا بحر لنا .. كلّ البحر لنا ولا بحر لنا..
البحر المتوسط لا يتوسط شيئا.. خارج كل مكان.. قد تحمله القصص.. ثم تلقي به..الى ان تتعب القصص.
احتلته خارطة اسرائيل، وامّحي من خارطة فلسطين
مسكين بحرنا مسكين..
***
قال الشبان إن البحر الميت هو البحر.. هو المحيط.. الهاديء جدا..
إنه كل المحيطات والبحار المتاحة..
إنه الجَلَدُ الذي احتضنته الخليقة ، يفصل مياهَه عن مياهِهِ
إنه الطوفان من دون نوح وبشرى الحمامة.. وهو التراجع حتى خارطة القفر.. وفي قعر الدنيا
***
لم تطأ الأقدام البحرَ ولا معنى لمداعبة مياهه.. ولا اصغاء للحن امواجه..
لم تمش على الرملَ ولم تلاعبه، ولم تبنِ أيادي الاطفال أحلاما ولاِ أبراجاً..
لم يَصِلوا الساحل وسهله
ولا سهولاً داخلية وجبل
ولا المثلث الذي اقتطعوه وأعادوه..ولم ينته به المطاف بعد..
ولا حتى ما بين خطٍّ أخضرَ وجدارٍ رماديّ
***
شمال اليابسة جنين.. وجنوبها الخليل .. ولا مكان للجليل
هكذا تتحدث كتب التجهيل..لتحاصر كل وطن جميل
كتب مكتوبة لنا ..وهي ليست لنا، بل كما الزنزانة لا نريد ان نشعر بها مكانا لنا.
ومن كُتبت عليه كتبٌ مشاها.. أو بلّها بِمَيِّة البحر الميت..

المسافات القصيرة تطول.. وغدت ألف ميل .. في عصر الحاجز والمحاسيم
الحياة ركضٌ موضعيٌّ
في غزة ..في نابلس.. في القدس وفي سجون اسرائيل
ومهما مشت أرجلنا نبقى مكاننا.. جيلٌ بعد جيل
حتى نحرر ما نحنُ.. والسبيل يفتح سبيل
***
جيلٌ كاملٌ.. أجيال.. لا تعرف البحر ولا .. طعم البحر..ولا شكل السمك فيه ولا اسماء الشواطيء وقصص الصيد والعاشقات والعاشقين
وفي غزة أجيال لا تعرف غير البحر.. حيث لا بحر.. ولا برّ ولا سماء تضيء بدل الكهرباء التي يقطعها الحصار

فلسطين الأرضية غابت خلف خطٍّ أخضر انحفر في ذهن الفلسطيني لا غيره
فلسطين العليا كما سماؤها، وراء جدار عالٍ يستعين بأسلاك وشبك..
يفصلها عن أرضها والفضاء.. يحجبها عن ذاتها.. يغطي العين الفلسطينية .. لا غيرها
غدت مسافات البلاد افتراضية
مبتور هو البلد، جزّؤوه أوطانا وأسماء وأوصالا
والان جزؤوه اجيالا .. لكل منها فلسطين
لا تلتقي الاوطان.. ولا كيان
لا أعرف وطنا فيه .. بل لا وطن إلا فيه
لا بحر لنا... كل البحر لنا.. لا بحر لنا .. كل البحر..
جيل بعد جيل.. والسبيل يفتح السبيل
 

مقالات متعلقة