الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 05:02

د. سامي الكيلاني: المظاهرة الأولى-قصة قصيرة

د. سامي الكيلاني
نُشر: 13/12/20 02:26

الاحتلال الحزيراني قد أتم سنته الأولى وبدأ سنته الثانية. أصبح الاستماع لساعات بث صوت فلسطين واجباً يومياً. أخبار الفدائيين تملأ عليه السمع والفؤاد، تتوالد قصصاً يرويها لأصدقائه مع شيء من المبالغات عن قدرة "الفدائي"، ويرسم الخيال النشط صورهم لتملأ فؤاده مختلطة مع صور ومشاعر حب المراهقة الذي بدأ ينمو لديه. تلقف اقتراح صديقه عمر بأن من الواجب أن تكون هناك مظاهرات وبيانات في القرية أسوة بالمدن بالموافقة، ولام نفسه لأنه لم يكن صاحب الشرف في هذا الاقتراح.

مع بداية الحصة الثالثة أطلق صديقه صرخة البدء فاستجابت لها في الصف مجموعة الموثوق بهم الذين تم إخبارهم قبل يوم، ثم انطلقت صرخات أخرى من الغرف الدراسية المجاور وخرج آخرون، ثم خرجت صرخات أقل من مجموعة الغرف في وسط المدرسة وخرج منها عدد أقل. تحركت كتلة بشرية لا بأس بها نحو البوابة متحدية تحذيرات مدير المدرسة والمعلمين وضاربة بعرض الحائط نصائحهم التيئيسية "الدول العربية لم تفعل شيئاً، أنتم ستفعلون؟". كانت النتيجة خسارة عدد المشاركين، حيث تراجع عدد قليل من الطلاب الذين خشوا تهديدات المدير وأولئك الذين لم يستطيعوا كسر كلام أقاربهم من المعلمين. قريبه المعلم استطاع سحب اثنين من أبناء العائلة وحين لم يستطع "إقناعه" شتمه شتيمة سيئة لأنه سيقضي على مستقبله بهذه الأفعال، مهدداً بنقل الخبر إلى والده.

تشاورت قيادة المظاهرة حول الخطوة التالية بعد الابتعاد عن بوابة المدرسة، اقترح أن يتم التوجه بهدوء إلى مدرسة البنات، حيث سينضم عدد منهن إلى المظاهرة وحينها يتم التوجه إلى وسط القرية بالهتافات، لأن البدء بالمظاهرة حالاً سيعرضها لهجوم للجنود المحتلين الذين اتخذوا من مخفر القرية القريب من المدرسة مقراً لهم، وتم الأخذ باقتراحه.

بدأت الهتافات عند بوابة مدرسة البنات فهاجت المدرسة، عدد جيد من الطالبات تحدى المديرة والمعلمات. المشهد الصباحي في مدرسة البنين يكرر نفسه. توجهت المظاهرة إلى وسط القرية، منظر الأولاد والبنات فاجأ الرجال الجالسين على كراسي المقاهي في وسط القرية وجعلتهم الهتافات المشتركة يقفون محملقين، وبدأت تعليقاتهم المسموعة بين مؤيد ومهاجم. اقترح وصديقه على المتظاهرين والمتظاهرات عدم الرد على التعليقات العدائية، خاصة ذلك التعليق الوقح على البنات من أحد المعروفين بسوء السمعة، والاكتفاء بالبصقة التي وجهتها عبلة نحوه. قال لصديقه الثقة "يجب ألّا ننشغل بأمور غير المظاهرة الآن".

اقترح أن يعودوا إلى مدرسة البنين ليخرج عدد أكبر من الطلاب، "المترددون سيخجلون من أنفسهم وهم يرون البنات في المظاهرة" قال. عند المنعطف المواجه لطريق المدرسة والمخفر ظهرت سيارتا جيب تهبطان الشارع بسرعة جنونية. هتفت إحدى الطالبات بعالي الصوت "الصمود، الصمود". مع كل متر كان العدد يتناقص. فجأة كانوا أربعة، هو وصديقه والطالبة التي هتفت مع طالبة أخرى. هدير محرك السيارات يقترب. قالا للطالبتين أنتما اهربا ونحن سنصمد، فردّتا بالعكس أنهما ستبقيان وعليهما هما حماية نفسيهما من الاعتقال. مع اقتراب هدير السيارتين، لمحا مقدمة السيارة الأولى، أصبحا وحيدين ولا يمكنهما المواجهة، فلاذا بالفرار. ركضا في الزقاق القريب ومن ثم دخلا باب بيت مفتوحاً وخرجا من الباب المقابل، أرسلهما الباب المقابل إلى ساحة مغلقة، شعرا بأنهما وقعا في مصيدة. حشرا نفسيهما في سقيفة صغيرة يستعملها أصحاب البيت للحطب والطبخ على النار. وصلتهما أصوات الجنود وهم يدخلون البيت وصوت خطواتهم وهم يخرجون إلى الساحة، وصوت سيدة البيت تقول لهم "لا يوجد أحد عندنا". أحد الجنود توقف وينظر في أرجاء الساحة وهما يريانه من ثقب في حائط السقيفة، الخوف يجعلهما يكتمان الأنفاس ويتمنيان أن يسكت القلب عن الدق كالطبل خشية أن يسمع الجندي هذه الدقات. انسحب الجندي من الساحة. بقيا جامدين دون حراك إلى أن أتت سيدة البيت لتقول إن الجنود قد ذهبوا. وضعت لهما سلماً ليصعدا الحائط الذي يؤدي إلى زقاق باتجاه وسط القرية. سارا على أسطح عدد من البيوت حتى وصلوا إلى الطرف الآخر، كان ارتفاع البيت من جهة الزقاق الآخر منخفضاً، قفزا. كان الزقاق موحلاً من الأمطار التي سقطت أمس، حذائه غرق بالوحل ووصل الوحل المتناثر إلى ثيابه.

استقبله الوالد في ساحة البيت بعد أن رفع ظهره ووضع الفأس الذي كان يعمل به جانباً ونظر إلى حالته وسأله "وين كاين؟"، أجاب "أكيد حكى لك الأستاذ سليم، نعم كنت في المظاهرة، وأنا أتحمل مسؤولية نفسي إن مسكوني". ضحك الوالد، "صرت كبير، خلينا نشوف، إن مسكوك مش راح أسأل عنك". رغم التهديد رأى في عينيه ضحكة مستترة. ونظر إلى والدته التي كانت تراقب الموقف فرأى في عينيها الضحكة المستترة نفسها، عقبت على حديثهما "دير بالك يمّا".

تركهما ودخل البيت ليغير ملابسه، تدور في ذهنه تفاصيل ما حصل وكلمات الطالبة التي صمدت حتى آخر لحظة ووجهها الذي كان اكتسى حمرة زائدة من الركض والتوتر.

مقالات متعلقة