الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 10:02

لغز الاختفاء/ ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 30/11/20 13:09,  حُتلن: 13:34

وتسالونني لماذا اختفيت.. لماذا ابتعدت عنكم؟ سؤالكم يتسبب لي بالكثير من الالم، ويفتح جرحًا ما زال نازفًا رغم مضي الوقت الكافي. جرحًا ترك ندبة لا تمحوها الايام وكلما نظرت اليها عدت الى الم ممضّ نغّص علي ايامي وليالي.. المٍ اردت دائما ان انساه او اتناساه، ان اتجاهله عندما يلحّ عليّ في اوساط الليالي الطويلة. كم كنت اود الا توجهوا الي هذا السؤال، اما وقد وجهتموه وابيتم الا ان تعودوا الى الماضي فإنني سأجيبكم عليه، وسوف افتح دفتر ذكرياتي خلال وجودي معكم وبينكم، يا من اردتهم ان يجبروا خاطري فكسروا قلبي.
اعتقد انكم ما زلتم تتذكرون ايام جئت اليكم وقد سدت الدنيا منافذها كلها بوجهي، املا في ان تفتحوا انتم ابوابكم امامي، يومها دخلت بيتكم ومنذ اللحظة الاولى لوضع قدمي على ارض بيتكم شعرت انني بين اهلي واحبابي المنشودين، زاد في شعوري هذا تلكما العينان اللتان ارسلتا نظرة وحيدة تشبه نظرتي واختفت اختفاء برقة في يوم عاصف، يومها جلست اليكم، وجرت بيني وبينكم احاديث واحاديث، فهمت منها كل شيء عنكم، كنتم اناسًا بسطاء من مهجّري قرية " هندباء". كنتم باختصار تشبهونني.. انا المهجر الابدي،. وكنتم، وانا لا انكر فضلكم رغم كل ما فعلتموه بي واحدثتموه لي من الام، تستقبلونني بابتسامة وتودعونني بأفضل منها. اما انا فمنذ لمعت تلكما العينان من وراء احد ابواب بيتكم، وانا احلم بان اراها مرة اخرى.. الى ان كان يوم ربيعي مشمس.
في ذلك اليوم قمت بزيارتكم كما كنت افعل في العادة، لأجد باب بيتكم مشرعًا في وجهي، دخلت إلى هناك وسط صمت قال لي انكم لستم هنا، واخذت اتمعّن البيت واغراضه، في انتظار عودتكم من الخارج، ولفتت نظري صورة معلّقة على جدار خفي لرجل يعتمر الحطة والعقال، كان رجلًا معمّرًا، شعرت على الفور انه شخصٌ مهمٌ بالنسبة لكم، كانت ملامحه تدل على طيبة اصيلة ومتأصلة فيه، وقد اثارني ما لمست في وجهه من حزن، فعزوت ذلك الحزن الشفاف الى تهجيره من هندبائه، وقذفه لان يتشرد في طول البلاد وعرضها، باحثًا عن طعام يقريه وملبس من البرد يحميه وسقف يؤويه. تمعنت في ذلك الوجه وطال تمعني، الى ان شعرت بحركة تخترق السكون المهيمن على المكان حوالي، يومها لم التفت الى الوراء، قلبي قال لي انني امام بوابة سرّية بحثت عنها طويلا اقف. وانتظرت ان تكشف لي تلك الحركة عن نفسها، لا فاجأ بعد لحظة من الترقّب والانتظار، كادت تكون دهرًا، بصوت نسوي ناعم يأتيني من خلفي كأنما هو مطرٌ ناعمٌ في خريفٍ بعيد بعيد:
-الا تعرفه؟
بقت صامتًا، فعاد الصوت يُعرّفني:
-انه جدي الهندبائي.
التفت باتجاه الصوت، لتحط عيناي في غابة نخيلِ اجمل عينين في الوجود.. مثل طائر ارهقه الطيران بحثًا عن شجرة يرتاح فيها، ووجد تلك الشجرة الوارفة فجأة امامه وقبالة عينيه. كانت تلكما هما العينان اللتان رايتهما في اول عهدي بكم، توقفت مكاني، انعم النظر في تلكم العينين. كنت اشعر بنفسي في عالم آخر اتجوّل بين الاشجار والانهار، كأنما انا الابن الاول وكأنما هي البنت الاولى. غبت عن الوجود.. طائرا مُحوّمًا في عالمٍ هلاميٍّ حالم. ما اجمل ان تجد نفسك فيما تمنيته ونشدته. بقيت على تلك الحال الى ان جاءني صوتها:
-جدي كان رجلًا حقيقيًا بسيطًا.. لكنه لم يكن متساهلًا.
-اشعر بهذا. قلت وانا في غيابي عن الوجدان.
-حقًا ما تقول؟ قالت بانفعال شديد، واضافت: كلامك يشبه كثيرًا ما سمعته عنه. لكن كيف عرفت صفاته؟
-وجهه قال لي كل شيء. قلت.
وفاجأتني ببراءة غير متناهية:
-وماذا يقول لك وجهي؟
بقيت صامتًا. خشيت ان اضايق اميرتي بأي كلمة، فعادت تكرّر سؤالها، وعدت اتابع صمتي. وعندما شعرت بالفراغ الرهيب يحطُّ بيني وبينها، مثل طائر اسود، قلت لها فيما بعد اخبرك. عندها اضاء وجهُها بابتسامة ابرزت عمق عينيها، والحّت علي، فاغتنمت الفرصة وتجرأت سائلًا اياها عمّا اذا كان بإمكاني ان اراها في مكان آخر، لأنني لا استطيع ان اراها في بيتها، وفوجئت بها توافق على اللقاء بي.
اقترحت عليها من فوري ان نغتنم الفرصة للقاء الان الان وليس غدًا، وتمكّنا من اللقاء، وفي اول فرصة سانحة سألتني عمّا اراه في عينيها، فقلت لها بسرعة من يريد ان يكسب العالم كله بضربة حظ واحدة.. انني ارى فيهما الدنيا.
وحدث كما عرفت فيما بعد انها عند عودتها إلى البيت، وجدتكم هناك، فشرع كلٌ منكم بالتحقيق معها، مَن سمح لك بالخروج من البيت، اين كنتِ وماذا فعلت؟ وقد بقيتْ صامتةً لم تصرّح بما يدل على انها كانت معي، ما زاد في شككم انها فعلت امرًا عظيمًا.. ادًا. وارتكبت جرمًا سيمرغ رؤوسكم في تراب البلد، اما انا فقد هيأتُ نفسي لأن ازوركم في اقرب وقت ممكن، لطلب يدها، كي اضمها إلى عشي الوحيد الدافئ، ولا اخفي عليكم انني بتُّ اشعر، بعد ذلك اللقاء اليتيم بها ان الحياة بدونها لن تكون وانها تربّعت على عرش قلبي وعيني.. وملكت قياد حياتي ووجودي.
انني اشعر الآن وانا اكتب لكم هذه الكلمات، بحسرة في قلبي ودمعة في عيني، لقد فقدت بفقدها كلَّ شيء، وبتّ اشبه ما اكون بشجيرة عارية منكمشة على ذاتها قرب الطريق.. لقد تاهت باختفائها حياتي.. فبات من الصعب علي ان اعود اليكم.. إلى هناك حيث اختفى قلبي.
ملاحظة: عندما تصلكم رسالتي هذه سأكون هناك لغز الاختفاء
في عالمي الآخر.. معها وإلى جانبها.

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

مقالات متعلقة