الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 19 / مارس 11:02

التآكل في مكانة المربي

بقلم د. نجيب صعب

د. نجيب صعب
نُشر: 25/11/20 15:47,  حُتلن: 21:50

كان يوم الأول من أيلول من عام 1966 بداية عملي في سلك التعليم وذلك في منطقة النقب في الجنوب وبالذات في بلدة حورا الأفينش الواقعة على بعد 17 كم بين مدينة بئرالسبع وعراد, لا أنسى بدون شك تلك الايام الاولى في قلب الصحراء حيث دبت في نفسي روح الإرادة الذاتية الأمانة, والإخلاص لأولئك الأخوة والأهل في مضا رب العقبة وحقاً أنها أيام لا تغيب عن البال ابداً ورغم شظافة العيش والقر الشديد تغلبنا على الظروف الجديدة بعزيمة صادقة وتعودنا عليها أولا بأول حيث اكتسبنا كثيرا من العادات المتبعة هناك والتي ترتبط بجذور الاصالة البدوية العربية الحقة.

ومع كل الظروف القاسية عملت هناك 13 شهرا، وخلال هذه الفترة تعلمت الكثير الكثير في نوعية العمل وفي نمط المعيشة التي نمت وتجسدت فيها الأمانة والإخلاص والصدق في التعامل والوفاء بين جمهور المربين والأهالي في ظل الاحترام المتبادل والعمل الدؤوب للعطاء بلا حدود، وخاصة عندما يشعر المرء بالمسؤولية الحقيقية في موضوع التربية والتعليم بالذات.
وتابعت عملي مربياً من بلدة حورا في الجنوب الى قرية راس علي والخوالد في الشمال ومن ثم الى مدينة شفاعمرو ومنها عدت الى مسقط رأسي قريتي الوادعة أبوسنان لمتابعة المسيرة التربوية فيها حتى عام 1982 حيث ترقيت بموجب عطاء في وزارة المعارف لوظيفة مفتش قطري لتعليم الكبار في الوسطين العربي والدرزي وتابعت نشاطي بعد خروجي للتقاعد
في مجال تعليم الكبار حيث انتخبت مؤخرا نائبا لرئاسة اتحاد تعليم الكبار الإسرائيلي.

ونحن هنا بصدد وظيفة المربي كمعلم ومعلمة على حد سواء ومنذ ذلك الحين وحتى هذه الأيام طرأت تراجعات وتآكلات في مكانة المربي من نواح عدة في حياته المهنية والاقتصادية مما أدى بدون شك الى تآكل في مكانته في ظل تأثيرات ومؤثرات عديدة ومتنوعة، منها سلبية وأخرى إيجابية على مر نحو أربعة عقود ونيف.

موضوع عمل المربي حقيقة هو من المهن المقدسة والتي تتطلب الكثير من الأمانة، الإخلاص، الوفاء، والمصداقية والمسؤولية الحقيقية بشكل عام شخصية كانت ام جماعية، والآن المربي تتجاذبه أينما كان إيجابيات وسلبيات وتؤثر كثيرا على مهنته وعلى نهجه كمعلم.
فعلى سبيل المثال من مقومات العمل في هذه المهنة ان يكون المربي مركزاً كل التركيز ومتفرغاً في جل وقته للعطاء في مهنته ومداومته وموقعه قبل كل شيء في عيون التلاميذ والطلاب الذين ينتظرون للنهل من ينابيع العلم عن طريق المربي رغم انه تحت مؤثرات كثيرة أهمها: احتياجاته الاجتماعية اليومية، متابعة دراسته والتطورات في مجال التدريس، واحواله العائلية وما يتطلبه عمله كمربي لمواكبة التطورات في مجالات هذه المهنة السامية التي تتطلب الكثير الكثير من العطاء.

هذه الأمور وغيرها قد وضعت المربي تحت ضغوط نفسية وشخصية ألزمته ان يعمل بأشغال إضافية كي يجاري الزمن والاحتياجات، وأكثر امر هو المجال الاقتصادي المحدود واجوره المحدودة التي هي دائما بحاجة الى تحسين.
فالعمل بأمور أخرى لا علاقة له بالتربية والتعليم بدون شك سيأتي على حساب مهنة التدريس وبشكل قاطع قد يتراجع عطاء المعلم في هذه الظروف نوعاً ما ليس بقصد وأنّما نتيجة للظروف المعيشية التي أدت الى تآكل في نوعية العمل وجوهره.

والأمر الاقتصادي وخاصة المادي لدى هذه الشريحة في المجتمع أثر تأثيراً سلبيا على عمله حتى لو كان بدون رغبة منه، وهنا يقع المد والجزر بين الضمير والعمل، وكذلك كثرة المرشحين للعمل في سلك التعليم لها تأتي على استيعاب خريجين بوظائف جزئية، الأمر الذي يلزمه بدون شك ان يبحث عن مصدر اخر للمعيشة.
هنا يجب الإشارة الى التخطيط من قبل الوزارة المسؤولة والجامعات والكليات وتعميق التنسيق في تخريج النسبة المطلوبة سنوياً من الخريجين، وعلى سبيل المثال لو أجرينا بحثا في هذا المجال لوجدنا ما يتخرج من أكاديميين ومربين من الجامعات والكليات يفوق بكثير ما تحتاجه المؤسسات التعليمية سنويا، الأمر الذي يضع الخريجين في مأزق معين في كثير من الأحيان، هذا بدون شك ساعد على تآكل مهنة التدريس وربما الإقلاع عنها في بعض الأحيان من قبل الراغبين والتفتيش عن مسار اخر.
ومكانة المعلم في الأربعين عاما الأخيرة او قبلها تختلف كثيراً، حيث كانت للمعلم مكانة ولمهنته أهمية في نوعية العطاء والمواظبة والولاء للوظيفة من ناحية مهنية والتجديد سنة بعد أخرى، اما اليوم فالأمر في هذا السياق بدون شك تراجع نوعاً ما نتيجة لمؤثرات كثيرة واعتبارات تكمن في جوهر المهنة ورغبة وقبول المرشح!!! ناهيك عن العلاقات غير المألوفة التي واكبت في بعض الأحيان تطاولات على نفر من المربين داخل المؤسسة التربوية، وكذلك التقصير من أطر لجان الإباء واولياء الأمور في تأدية واجبها تجاه الأبناء والهيئات التدريسية، ولا يغيب عن الخاطر أيضا دور الإدارات وجهاز التفتيش في هذا المجال!!

ورغم التطور العلمي وكثرة الملاكات والتضخم في عدد الخريجين والخريجات يترتب تعميق المواكبة وإعطاء مهنة التدريس حقها الكامل وخاصة في تعزيز مكانته من جوانب عدة.
للأنصاف شبه التام في حق التلاميذ من ناحية والحفاظ على مكانة المعلم وصيانتها الاجتماعية والتربوية من ناحية أخرى، يجب أن نغرس في نفس المعلم والطالب معاً وربما الأهالي نوعاً ما، شيئاً من التعاون المباشر والحيوي والموضوعي من اجل الحفاظ على هذه المهنة ومكانتها من التآكل، بدون شك هذا الأمر سياتي ثمارا إيجابية أكثر وأكثر في حياتنا جميعاً وفي ثنايا المجتمع لنحافظ معاً على هذه الرسالة السامية وتدعيمها بكل الوسائل منعاً لتراجعها وتآكلها.

وأخيرا لا بد من توجيه بعض الكلمات لجميع ذوي الشأن في هذا المجال مطالباً بالنظر بكل جدية لهذه المهنة بتظافر عمل المسؤولين محلياً وقطرياً وجميع الأطر الفاعلة في مجال التربية والتعليم, لأن هناك العديد من هذه الأطر والمؤسسات تحتاج الى مراجعة في مصداقيتها نزولاً عند مصلحة الأبناء وصيانة لهذه المهنة من تآكلها اكثر وأكثر قبل فوات الأوان لتتبلور خطة مدروسة من قبل اولي الامر لتحبيب المهنة وتقريب وتعميق أهميتها في صفوف الناشئة من الخريجين والنهوض معا وبكل القوى لوضع حد للتدهور والتراجع والتآكل في مكانة المربي والحد من الإقلاع الملحوظ عن هذه المهنة المقدسة والتي ربما تكون النتيجة سلبية لا سمح الله.
وخلاصة القول انه يترتب التعاون والتنسيق الموضوعي والمهني بين مركّبات العاملين والمسؤولين في هذا المجال ابتداءً من: وزارة المعارف, السلطات المحلية, نقابة المعلمين, منظمة المعلمين, لجان الآباء المحلية والقطرية والكليات والجامعات, في نظري وبدون تأخير تنظيم اطار شامل لكل هذه المركبات ترافقه لجنة عليا لمواكبة عمل هذا الاطار الشامل لتكون له مصداقية في ظل تعاون بنّاء قولا وفعلا على ان يجدي ذلك نفعا ليصب في مصلحة فلذات الاكباد لمختلف الأجيال ورفع مكانة المربي ليجاري المستجدات وصيانة جهاز التربية والتعليم ليتمكن هذا الجهاز من القيام بواجبه كما يجب والله من وراء القصد.

* د. نجيب صعب - نائب رئاسة اتحاد تعليم الكبار في اسرائيل 

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة