الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 08:01

قراءة لقصيدة قرن وثلاث دقائق لسامي العامري

بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 20/07/20 09:51,  حُتلن: 13:45

الفن خلقه الإنسان ليعبر به عما يدور في داخله من ردود وتفاعلات مع العالم الخارجي الذي يحيطه. هذه التفاعلات والردود تكون أحياناً مباشرة ووليدة اللحظة وأحياناً تكون بعد فترة طويلة من الحشد والتراكم والتخزين. يمكن أن تكون طازجة كالعصير ويمكن أن تكون معتقة كالنبيذ. أيهما ألذ وأشهى؟ الجواب الذي لا لبس فيه: لكل طعمه ونكهته ومذاقه.

قصيدة الشاعر سامي العامري"قرن وثلاث دقائق" هي نبيذ معتق. وهي وليدة تفاعلات معتقة ومخمرة لأكثر من خمس وثلاثين عاماً. هذه الأعوام مرت ولم يستطع الشاعر نسيان ما حدث له في أول تماس بينه وبين العالم المتحضر الذي ظنه جنة فوجده الجحيم بحاله فحثت له صدمة عنيفة أو مفاجأة قاتلة.
هذه المفاجأة التي أسقطت الأحلام وخيبت الآمال وجعلت الشاعر هو المستجير من الرمضاء بالنار أحدثت صدمة أو مأساة كمأساة الفقد. الصدمات أو المآسي تختزل في أعماق متلقيها بفعل أنظمة الدفاع في الجسم لمنع انهياره ولمساعدته على التعاطي مع الوقع المستجد والاستمرار في الحياة. هذا لا يعني ان الإنسان قد نسيها بل بالعكس تماما. هو خزنها أو ضغطها عميقاً ليتخلص من تأثرها المباشر والآني فظلت في الأعماق تتخمر وتنتظر لحظة الخروج أو الانفجار.
معروف لمعالجي الصدمات، سواء الصدمات الناتجة عن الفقد أو الموت، او الناتجة عن الحروب أن خير علاج وخير بداية للشفاء من هذه الصدمات هو جر المُعَالَج للتحدث عما حدث. فالجندي الذي يبدأ بالتحدث عن الصدمة التي حدثت له يكون قد اقترب من الشفاء وكلما تحدث أكثر في تفاصيل ما حدث يكون قد بدأ مشوار الشفاء الكامل مما أصابه.
سامي العامري الذي فر من وطنه بحثاً عن وطن بديل تلقى صدمة قاسية تفوق صدمة من فقد عزيزاً وتفوق صدمة الجندي الذي نجا بأعجوبة من موت مؤكد. وكمشرد من المشردين أو كفقير من الفقراء لم يعالجه أحد فقام هو بعلاج نفسه وبعد أكثر من خمس وثلاثين عاماً كانت كافية لاختمار نبيذ هذه القصيدة.
معاناة الشاعر الرهيبة كانت "سنة وثمانية أشهر" هي إيقاع القصيدة بكاملها إيقاع نشعر به ونستسيغه في أعماق أعماقنا ولا يستقيم عند اللفظ. "سنة وثمانية أشهر" كررها الشاعر في متن القصيدة لأنها هي القصيدة. لم يحاول إيجاد صيغة أخرى تتلاءم مع البحر المستعمل في القصيدة لفظياً لأنها منسجمة مع هذا البحر شرط أن نسد أفواهنا عندما نصلها ولا ننبس ببنت شفة إجلالاً وخشوعاً. لا أدري إن كان الشاعر قد قصد ذلك. ولكنها بالتأكيد هي العفوية التي لم تأت ب "سنة وثمانية أشهر" فقط وإنما بالقصيدة كلها.
الجرح الذي لا يُعالَج يُعالِج نفسه بنفسه. في جسم الإنسان وفي سيقان الأشجار وهذا ما حدث للشاعر. الانفجار حدث بشكل عفوي لأن الجرح أن له أن يلتئم فترك الشاعر كل شيء يخرج من هذا الجرح العميق بشكل عفوي.
لماذا ومن أين جاء عنوان القصيدة "قرن وثلاث دقائق" ؟ لا أدري.
فهذا العنوان لا علاقة له بالقصيدة كما أظن. علاقته الوحيدة هو العبثية. عبثية ما حدث قبل خمس وثلاثين عاماً ولمدة "سنة وثمانية أشهر". وقد تكون السخرية الحادة من هذا الزمن الذي إن كان لا يحترم أحداً فهو لا يستحق الاحترام.
الشاعر يقر من أول خطوة أن هذه ال "سنة وثمانية أشهر" هي العدم المخيف والمرعب. وهي الوجع الشديد الذي لا يحتمله إلا الأنبياء وقد تحمله هو أكثر من ثلاثة عقود ونصف: "هيَ العدمُ الكوكبيُّ هي الوجعُ المتدلي الذي لم يلامسه إلا نبي" عندما غادر الوطن وركب الطائرة حسده الكثيرون على هذه الرحلة لان حلم هؤلاء أن يسافروا في طائرة. هذا الحسد ذكره الشاعر ليظهر مدى الوجع الذي أصابه وقسوة الخيبة التي فاجأته فتمنى لو كانت رحلته على ظهر دابة أو بعير. وهذه إضاءة خلفية من إضاءات كثيرة استعملها الشاعر لإبراز قسوة الحدث.
"سنة وثمانية أشهر" تسير بك الأمور بسلاسة إلى الوسط: "سنة وثما..." بعدها يصبح السير قدماً مستحيلاً أو متعثراً فتضطر للصمت. الشاعر يفعل ذلك بأسلوب يشبه كثيراً ما حدث له. يقوم
بهز القارئ وكأنه يقول له "انتبه" أو "احذر" أو "تذكر" وكل ذلك ليبقيه في أجواء ال "سنة وثمانية أشهر" الرهيبة. لم يحاول إيجاد صيغة ثانية أكثر انسجاماً مع بحر القصيدة لأن هذه الصيغة لا يجب المس بها. ليس من باب الاحترام وإنما من باب التقيؤ والقرف.

يكون القارئ منساب ومنسجم مع بحر القصيدة الجميل المتموج فيأتي له الشاعر ب"سنة وثمانية أشهر" ويلقي بها عليه أو يلطمه بها لتنغيص كيفه ولكسر انسجامه وليحدث له ذات الارتجاج الذي أحدثته له هذه السنة وثمانية أشهر اللعينة قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف. لا أدري إذا ما كان الشاعر قد قصد هذه التقنية الجديدة المبتكرة أم أنها جاءت عفوية.
سامي العامري في هذه القصيدة التحفة يعالج نفسه بنفسه دون مساعدة عامل اجتماعي أو أخصائي نفسي. وقد وصلت به الحكمة أن يحرص على علاج القارئ أيضاً أو على الأصح حقنة وتطعيمه بجرعة تقيه الصدمات والمفاجآت. يطلب من القارئ أن يستفيد منمحنته ويضع كل الأمور تحت مجهر الفحص والتمحيص لمعرفة مدى صلاحها. يقول للقارئ لا تصدق أحداً وافحص كل شيء بنفسك كي لا تُخدع ويصيبك ما أصابني. "فكل الخلائق عاريةٌ في حسابي وما من إله يصلي له الناسُ إلا وضعت مفاتنه تحت مجهر" الشاعر معلم ناجح جداً. معلم يجيد الأسلوب الحديث في التعليم الذي يعتمد على الحوار والتثقف المتبادل بين المعلم والتلميذ وليس على التلقين الذي يجمد العقول ويشلها لذلك فهو يقول للتلميذ
ومباشرة بعد النصيحة أعلاه: "تورطتُ كالظبي حين تسللتُ خلف الحدودِ لألقى هنا بدل السلم والحلمِ ربَّ الجنودِ ترى هل لعبتُ قماراً لأخسر؟ "إنه تواضع المعلم المثقف الذي يشرك تلاميذه (القراء) في تخبطه وحيرته وحتى أخطائه. هو يقدم نفسه نموذجاً لتبادل المعرفة أو التجربه.
في هذه المرحلة من القصيدة يربط الشاعر بين ثيمة القصيدة وعنوانها بشكل ساخر حتى النخاع. سخرية من الزمن القذر الذي لم يرحمه. لذلك فإن القرن وثلاث دقائق لا تختلف عن السنة وثمانية أشهر. فبالنسبة للشاعر الثلاث دقائق هي كالقرن مع فارق وحيد أن الثلاث دقائق هي لتدخين سيجارته والقرن للحريق المشتعل ولا فرق بين الأمرين إلا بمدى ما يخص الشاعر. وهذه هي قمة الاحتقار لهذا الزمن الذي يمضي بحرائقه التي مهما كبرت لا تختلف عن حريق سيجارة الشاعر. إنه الغضب المقدس. غضب المظلومين الذين يدفعون الثمن باهظاً بتجاهل مطلق من الظالم الذي يتصنع الأخلاق والمبادئ
والإنسانية. "أدخن ثم تسير القرونُ مضمّخةً بشهي الحرائق" هل وصل الشاعر إلى ما وصل إليه شمشون الجبار عندما قال "علي وعلى أعدائي".؟ واضح أن هذا العالم قذر ومنافق. مزيف ومتلون لذلك من حق الشاعر أن ينفس من احتقانه وغضبه. لكنه لم يفقد إنسانيته رغم أن :
"ما خفي اليوم يدمي الفؤادَ وأكثر" الشاعر يرى الظلم ماثلاً أمامه. يرى النعيم قربه ولكنه ليغيره فلا يفقد الأمل لأنه يعرف انه هو الأصول وسيعود كل شيء لأصوله يوماً:
" قريةٌ مثل ليلة أنس تهادت بأنغام موزارتَ لكن لغيرك يا من ستحيا لتسهر! لا أبالي فعندي الذي هو أبقى وأسمى" 
هذه القصيدة هي تعبير صادق وعفوي عن معاناة المظلومين. وقد نجح الشاعر في طرح قضيتهم بأسلوب حواري إشراكي يجعل القارئ يخوض التجربة بنفسه ويعيش المعاناة التي عاشها الشاعر لحظة بلحظة. هذا الأسلوب في البوح يعتمد على الإشراك وليس التجنيد القسري للقارئ وشتان ما بين الأمرين. لا أدري لماذا زج الشاعر بهذا البيت النشاز في نهاية هذه القصيدة التحفة:
"ما أجمل الراحلين انتحاراً" من يكتب مثل هذه القصيدة لا ينتحر ولا يمدح المنتحرين فليت الشاعر يحذفه من قصيدته. لتظل هذه القصيدة: "كوابيس أعرضها في المزادِ لمن يشتريها ويرشفها في سريري من غير سكر"

هذه الكوابيس يجب ان تُعرف وتُعمم لإحداث التغيير ووقف الظلم ومواجهة الظالمين. وليس للشكوى وهذا هو دور ووظيفة الأدب الملتزم الهادف. آمل أن أكون قد نجحت في إضاءة جانب من جوانب هذه القصيدة العلاجية الهادفة الذي نجح فيها الشاعر نجاحاً باهراً في استخدام تقنية الإضاءة الخلفية وتقنية التكثيف والشوْك (الهز) بشكل عفوي غير متصنع. ساعده على ذلك صدقه الذي جعل القصيدة تنساب إلى قلب القارئ بسلاسة ومرونة.
النص الكامل للقصيدة موجود على صفحات صحيفة المثقف الغراء 

مقالات متعلقة