الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 07:02

تصفّون الكواكب والأوطان وتنحرونها كما قطعان المواشي

الدكتور نسيم الخوري
نُشر: 20/06/20 12:30,  حُتلن: 12:38

صحيح أنّ تلك الجرثومة تجتاحنا مذ ظهرت في الصين أواخرالعام الماضي، لكن الأصحَ والغريب، العجز عن تفسير تلك المناعة الهائلة والثابتة التي تتمتّع بها ملايين الكائنات الأخرى المقيمة معنا في هذا الكون وعدم فكّ شيفرتها ، مع العلم، وهذا هو الأهمّ، أنّ الكورونا يعود اكتشافها الأوّل إلى العام 1964 على يدّ العالمة السكوتلانديّة "جون ألميدا" في مختبر تابع لمستشفى سانت توماس بلندن حيث أنا مقيم بالإنتظار. لغرابة الصدف أنّه المستشفى نفسه الذي أدخل إليه رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، عندما كان مصاباً ب"الكورونا" بعدما أطلق فكرةً هزّت البشرية أعني "مناعة القطيع".

يمكننا فهم "القلق المتنوّع" الذي يأسر الإهتمام والسلوك البشري إذ يصعب علينا، حتّى الآن، فهم المتناقضات والإجتهادات الطبيّة والإعلاميّة الهاطلة في الكرة الأرضية بانتظار الجواب أو اللقاح لجرثومة تقض مضاجع البشرية.
قصدت استعمال مصطلح "القلق المتنوّع" ، لأنّ التنوّع أساس الحياة وقد أهمل وتصدّع وتمّ احتقار علمائه في سلوك "الحضارات البشرية" التدميرية الطويل التي تتزاحم وتسابق الضوء في مصّ أضلع الكون وخيراته عبر الكشوفات والمخترعات فتصفّ الكواكب وتخضعها للنحر والتفكيك من دون أيّ حسّ في احترام قداسة التوازن والتنوّع. نعم تقديس التنوّع الحيوي صلاة علماء البيولوجيا والبئة الذين يحرصون وينبّهون العالم في مؤتمراتهم إلى كوارث هذا العبث السخيف بهذا العالم.
أنقل سبباً علميّاً وحيداً مبرّراً استعمالي صفة "المقدّس" التي تلازم التنوّع الحيوي ، وهو أنّ أوّل جرثومة ولدت قبل 3,4 مليون سنة ، وبلغ عدد الأنواع أو الكائنات الحيّة وفقاً لشجرة تطوّر السلالات وتلاقحها إلى مليون و400 مليون نوع أو كائن حي. أمّا الأنواع الحيّة غير المكتشفة بعد أوالمعروفة تماماً فتتراوح بين خمسة ملايين وخمسين مليون نوع (2005champion, (.
ماذا يعني هذا؟
يعني، أوّلاً، أنّ هناك تنوّع آخر هائل يرافق التنوّع الطبيعي، يعود إلى انتقال البشرية الأخير من مجتمعات الإنتاج المتوحّش إلى مجتمعات المعرفة والمعرفة الذكيّة الإصطناعية التي تفلش أمامنا سجّادات لا يمكن اجتيازها من المعارف والمعلومات الهائلة المتنوّعة أيضاً. هناك أكثر من خمسين كلمة علمية جديدة في العام، وقد تجد في ميادين العلوم. نجد بنقرة سبابة اليوم أكثر من 3 ملايين مقالة علمية تطبع وتنشر في خمسين ألف مجلّة علمية في العالم كما في المواقع الإلكترونية التي يصعب إحصاؤها، أي بمعدّل مقالة علميّة كل ثلاث دقائق.

ويعني، ثانياً، أنّ المعلومات العلميّة الجديدة والحقائق المتدفّقة بهدوء وتواضع من المختبرات التي يجمعها العلماء دور وتأثير غير فعّال في لجم أو ضبط نهش الحضارات الصناعية لمقدسات الحفاظ على التنوّع الحيوي، بكونها تسهم في فكّ رموز العلاقات الشديدة التعقيد القائمة بين الكائنات، ولأنّ الحقيقة الكبرى هي الحفاظ على التنوّع لأنّه أساس الحياة. وما تدمير هذا التنوّع سوى التدمير المضاد للحياة أي للإنسان .

ويعني، ثالثاً، عدم التردّد العلمي، في تفسير البعد الروحي للتنوّع الذي يدمّره الإنسان لطالما اكتسبت صفة القداسة للتنوّع مفهوماً إنسانيّاً رائعاً في احترام الطبيعة وردع السلوك البشري التدميري بهدف الكشف. صحيح أنّ الحقائق الطبيعية العلميّة والثقافية والإجتماعية قد تخلخل توازنها عبر قرون من تسخير العلوم لتدمير الطبيعة، لكن نسيان جوانبها الميتافيزيقية والروحية أورث البشرية كوارث أكثر تعقيداً في تدمير البيئة والإنسان. تؤكّد الكتب المقدّسة كلّها، ضرورة الحفاظ على التنوع كعنصر جوهري لإستمرار صحة الخليقة إذ ورد مصطلح التنوّع في القرآن الكريم مثلاً 37 مرّة، وجاء فيه: "هو الذي أنشأ جنّاتٍ معروشات وغير معروشاتٍ، والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه. كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنّه لا يحب المسرفين"( سورة الأنعام، 141). لا يمكن نسيان المباديء الخلقية والثقافية التي تأخّرت كثيراً في مواكبة حضارة الإنتاج ولو بالإسراف في التدمير العام. ومهما حاولنا، فإنّ احترام أخلاقيات حفظ التنوع مع المتغيّرات الضخمة التي تلحق بالكون عن طريق الحروب والنزاعات والحرائق والأمراض والكشوفات التخريبية لم تعد يسيرة. إنّها كمن يلقي قصيدةً لوقف إنفجار نووي هائل. بات من الصعب إيجاد السبل الكفيلة بالسلامة البشرية واعتبار التقدّم المتحقّق بالبحوث العلمية البيولوجية كافياً للوعي العام بثقافة احترام النظم البيئية التي تتجاوز الإنسان.

وتعني رابعاً، أنّ التنوّع لم يعد شرطاً أساسيّاً للبقاء البيولوجي والبيئي وحسب، بل لتطوّر مجتمعات المعرفة التي قد أراها أفضل من التركيز على الإنتاج. لماذا؟ لأنّ التنوّع الصناعي والإلكتروني كثمارٍ لأوهام الإبتكار والإبداع تقتل المسألة العكسية أي الدور الأساسي والرئيس للتنوّع الثقافي والروحي والأخلاقي كمرتكزات جوهرية في الإتصال البشري وضمان السلم العالمي قبل أن تصبح البشرية تجربةً فارغة.

* د. نسيم الخوري: كاتب لبناني، وأستاذ في المعهد العالي اللبناني للدكتوراه.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة