الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 11:01

أمة تعيش على النصوص/ بقلم: حازم القواسمي

حازم القواسمي
نُشر: 20/05/20 15:12,  حُتلن: 20:33

لا تتحدث مع أحد هذه الأيام إلا ويأتيك بنص من الماضي حتى يؤكد لك أن كلامه صحيح مائة بالمائة وأن كلامك خطأ. وكل ما يحتاجه الفرد من النص أن يجد كلمة واحد فقط تتقاطع مع الكلمات التي يتفوه بها، سواء كان النص من الكتب الدينية أو من كلام الأنبياء أو الفلاسفة أو السلف الصالحين. وكأن التراث كله مقدس، بكل ما فيه من نصوص، حتى لو تناقضت فيما بينها، وحتى لو لم يفهمها الكبار والصغار والعلماء والحكماء، فيكفيها أنها نصوص قديمة لينطبق عليها القداسة. والتاريخ مليء بالنصوص المقدسة وغير المقدسة، الصادقة والكاذبة، الصحيحة والضعيفة والملفقة. فليس من المنطق أن نستحضر أي نص تراثي فقط لأنه تراثي ونطبقه على واقعنا الحاضر دون أن نبذل أي جهد لتحرّي النص ومدى إمكانية تطبيقه على حدث جديد في زمن جديد. 

ويستحضر الناس هذه النصوص التراثية لأنها تعطيهم الشعور بالقداسة ولذلك ممنوع الاعتراض على ما يقولون أو نقاش الفكرة التي يتحدثون عنها أو نقدها بحرية بل يجب على الجميع التسليم بها. وعند استحضار النصوص التراثية، ممنوع الفهم وممنوع النقد وممنوع إعمال العقل. والأسوأ أنّ بعض الناس ينصّبون أنفسهم ناطقون باسم الإله، وكل ما يحتاجه فقط هو ذكر آية من القرآن أو الانجيل أو التوراة. هذا يحدث يومياً مع الكاثوليكي والبروتستانتي والسني والشيعي واليهودي المتدين. فالناطقين باسم الإله أصبحوا كثر هذه الأيام، وإذا ناقشتهم أو اختلفت معهم لا يترددوا بنعتك بالألفاظ الغير محترمة وفوراً يبدؤون بتحقيرك وتكفيرك وشييطنتك والتحريض عليك. فإما أن تُسلّم بما يقولون لأنهم يتحدثون بنصوص، وإما تصبح عدوا للأمة يجب محاربتك بكل قوة. فأنت ضد النصوص وضد التراث وضد التاريخ ولذلك أنت خارج عن المِلّة.

وتكمن المصيبة في استحضار النصوص التراثية والتاريخية على أنها لا تقوم على أي قاعدة من قواعد المنطق والعقل. وكأن الحديث في التاريخ والتراث في جهة، واستخدام المنطق والعقل في جهة أخرى. وحتى إذا كانت النصوص التراثية تخالف أبسط قواعد المنطلق والحقائق العلمية، فلا يجب التشكيك بها او انتقادها أو حتى الإيحاء بذلك. فعلى سبيل المثال، يخرج علينا مفتي السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء السابق عبد العزيز بن باز بكل جرأة ووقاحة ليقول لنا أن الكرة الأرضية مسطحة وليست كروية وأنها لا تدور بل الشمس هي التي تدور حول الأرض. وحجته في ذلك النص القرآني الذي يقول "والأرض بعد ذلك دحاها"، والآية التي تقول "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم". ولم يكتف مفتي السعودية بهذا التصريح بل قام بتكفير كل من يخالف رأيه. فقال: " "فمن زعم خلاف ذلك وقال إن الشمس ثابتة لا جارية فقد كذّب الله وكذّب كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد". هذا مفتي السعودية، وليس أي شخص عادي بسيط، والمفروض أنه يعرف أبسط المعلومات عن كروية الأرض التي يشاهدها حالياً كل العالم في بث مباشر من المركبات الفضائية التي تغادر الأرض إلى الفضاء وتصورها بأحدث الكاميرات التكنولوجية. هذه فضيحة كبرى لا يمكن المرور عليها دون التوقف على أسبابها وعلى آثارها المدمرة على مجتمعاتنا العربية. إذا كان هؤلاء "علماء" الأمة، فكيف بجهلائها. للأسف هؤلاء، الذي يسمون أنفسهم علماء، هم سبب بلاء الأمة وجهلها وتجهيلها المستمر. وهم أذناب السلاطين ولا يرتقوا لأن يكونوا حتى علماء السلاطين. ومفتي السعودية هو واحد من أمثلة كثيرة جدا لا نتوقف عن عدّها في العالم العربي ممن يستخدمون النص القرآني والأحاديث لتبرير فتاويهم التي لا تمت للعقل والعقلانية بصلة. ولا يختلف ذلك في العالم المسيحي واليهودي. ولمن يعتقد أن الغرب قد حجّم دور رجال الدين في تأثيرهم على حياة الأوروبيين والأمريكان المسيحيين، فليستمع إلى الدروس الدينية التي يتم نشرها على الفضائيات الأمريكية أسبوعيا بشكل محزن. فحتى بعد كل الحروب الدموية وسيطرة رجال الكنيسة في العصور الوسطى على حياة الناس والحكم، ما زال تأثيرهم السلبي موجودا في كثير من الدول. فعلى سبيل المثال، لم يتردد بعض رجال الدين المسيحي في عصرنا الحالي في استحضار النصوص الإنجيلية لتجنيد الشباب المسيحي وحثه على الحروب كما حصل في الحرب الأمريكية على العراق حيث دأبت إدارة بوش على صياغة سياستها الحربية بلغة دينية لكسب التأييد الشعبي المتدين. أما بالنسبة لرجال الدين اليهودي، فحدث ولا حرج، وهم احتلوا فلسطين وما زالوا يقتلون ويسفكون الدماء بدعم الحاخامات المتشددين وباستحضار النصوص من التوراة. ولا ننسى كتاب "توراة الملك" الذي ألفه الحاخام اليهودي يتسحاق شابيرا والذي ينص صراحة على قتل كل من هو ليس يهودياً ممن قد يشكل خطرا على دولة إسرائيل حتى لو كانوا أطفالا أو رُضّع.

هذا ما أوصلنا إليه التمسك الحرفي بالنصوص التراثية والتاريخية والدينية دون محاولة فهمها بشكل موضوعي وعقلاني وتحليلها وتحديد الظرف التي ارتبطت به ومدى انطباقها على واقعنا في القرن الواحد والعشرين. لذلك بات من الملح اليوم أن نستخدم العقل والمنطق والحكمة حتى نتمكن من الخروج من سجن النصوص المبهمة إلى فهم واقعنا الحالي. وما أروع التشبيه الذي قام به الفيلسوف الإنجليزي الشهير فرانسيس بيكون، حيث قسّم المجتمع في تعاطيهم مع فهم الكون والحياة إلى ثلاثة أقسام: النملة والعنكبوت والنحلة. النملة تلتقط كل ما هو أمامها دون وعي وبذلك تُمثل جمع الأحداث كما هي دون إضافة أو تحليل أو تغيير. والعنكبوت تنسج شبكتها من دماغها دون الاستعانة بما هو موجود في محيطها وبذلك تمثّل العقلانية الانعزالية الناجمة عن الفكر الفردي المحض. أما النحلة فتنتقل من زهرة إلى زهرة أخرى وتمتص الرحيق المتنوع وتهضمه وتنتج العسل بنكهة جديدة فريدة ومميزة. إذن، فلنكن كالنحل، نجول في هذا الكون الفسيح، نتأمل ونجمع المعلومات والتجارب ونقيمها ونفحصها ونربطها بواقعنا حتى ننتج العِلم ونحسن العمل ونخرج بكل جديد وإبداع مميز.

القدس- 20 أيار 2020

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة