الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 10:01

الحث على عودة الوعي -حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 12/05/20 22:00

الحث على عودة الوعي
قراءة في قصيدة "من وحي العارفين"
للدكتور المفكر صادق السامرائي

حسين فاعور الساعدي

الدكتور الطبيب صادق السامرائي في هذه القصيدة الطويلة، بالمقارنة مع مقالاته الفكرية الشيقة والقصيرة، يتناول قضية العقل أو المعرفة أو العرفان لأنها هي التي توحدنا أو من المفروض أن توحدنا وتجمعنا وهي سبيلنا الوحيد لإرساء العدل والمساواة:
تَجَلّتْ وحدةٌ فينا وبانَتْ
بأنوارٍ مُشعشعةٍ تنامَتْ

فأغْرَتْنا بروح الحقّ شوْقا
لصادقةٍ مقاعِدُها تساوَتْ
لقد تطرق شعراء كبار لقضية العقل أو المعرفة في الشعر العربي كابن العربي وأبي العلاء المعري وأبو نواس وبشار ابن برد وغيرهم. لكن التطرق لها في هذا الزمن الرديء الذي نعيشه له أكثر من معني وينطوي على أكثر من دلالة. فأمتنا العربية تتعرض لعملية إلغاء ممنهجة للعقل ولكل ما يتعلق به واستبداله بالغرائز والنعرات التي تجرد الإنسان من إنسانيته وتحوله إلى حيوان سيء يقتل أخاه وجاره ويأكل لحمهما. والأبعد من ذلك يسهل توجيهه وتجنيده حتى ضد نفسه.
قوى الشر لتحكم سيطرتها على شعوبنا عمدت إلى تجريدها من أغلى ما تملك وهي جوهرة العقل التي لا تُقدّر بثمن. العقل الجمعي لهذه الأمة تم تغييبه تماماً لتحل محله الغرائز والنزوات التي قادت إلى صراعات دامية ومذابح لا يقبلها العقل:
صِفاتُ الذاتِ جَوْهرُها جُمانٌ
أحاطتْ كلَّ موجودٍ ودامَتْ

رأى نورا بهِ الأنوارُ تُسْقى
فما بَصَرَ الغيوبَ وما أجادَتْ

أ يُعْقلُ عَقلنا والنفسُ تهْوى
ودونَ العَقلِ أهْوالٌ توالتْ

وأوْهامٌ على وَهَمٍ سَتُلقى
بأفكارٍ مُألّسةٍ أغارَتْ

وكيفَ الوعيُ مُرتَهنٌ بحَدٍ
فوَعْيُ وجودِنا حُجُبٌ تسامَتْ
عندما يذهب العقل تبرز الأهواء والرغبات. وعندما يذهب العقل تتوالى الأهوال وتعم الأوهام وتضيع الأهداف ويسهل الاستهداف والاستهبال. والأصعب من كل ذلك تتحول الأمة إلى قطيع يسهل التحكم به والسيطرة عليه. فالعقل هو الذي يستفسر ويسأل ويناقش:
وإنّ الأيْنَ مِفتاحٌ لكشفٍ
بباصرةٍ أحاطتْ واسْتنارَت
التغريب واضح وجلي في هذا البيت وهو الأسلوب الذي اختاره الشاعر لهذه القصيدة التي أراد بواسطتها أن يهز النائمين الخاملين ويحثهم على النهوض.
فهلْ تدري وكونُ الكونِ يَفْنى
خلائِقُها بأخْلاقٍ أطاحَتْ
في هذا البيت يلجأ الشاعر إلى الانزياح ليزيد من جماله وليمرن المتلقي على التفكير وتشغيل عقله. في الحقيقة كل القصيدة مزركشة بالتغريب والانزياح والعدول مما زاد من جمالها وفي نفس الوقت من وقعها الصادم على المتلقي.
تَلاقى كلُّ مَوْجودٍ بآتٍ
كساطعةٍ مِنَ الأقْمارِ عانَتْ

أ يَذْهبُ خَلقها هَدْرا هَباءً
بكارثةٍ على أمَمٍ تداعَتْ
العقل هو الذي يسأل وكلما سأل كلما ازداد توهجاً. والعقل هو الذي يضع الضوابط أو الأخلاق فإذا ذهب العقل ذهبت الضوابط وضاعت الأخلاق. والأمة التي تفقد أخلاقها تفقد ذاتها، تضيع وتتوالى عليها الكوارث والنوائب.
الأبيات المقتبسة أعلاه جميلة جداً لما فيها من تكثيف وحث على تفعيل العقل وشحذه بشكل متواصل ليظل منيراً وملماً. كما أن الانزياح في هذه الأبيات ناعم سلس ورائع وجاء ملائما لموسيقى القصيدة الهادئة الراقصة. الموضوع فلسفي عميق يطرع السؤال الكبير: هل تدري هذه الخلائق وهي تطيح بأخلاقها أن هذا الكون فانٍ وزائل؟ لو درت لما أطاحت بأخلاقها وهي أعز ما تملك.
ليس المستعمر والأجنبي لوحده من يعمل على مصادرة العقول وتجفيفها بل هنالك ذوي القربى من الملوك والسلاطين والحكام الذين يخافون العقل فيجهدون في كبته وتغييبه:
وطغيانُ العروش بها تمادى
ودائرةٌ بنا رَحُبَتْ وضاقَتْ
العقل أو المعرفة هو السبيل إلى معرفة الله. ومعرفة الله إذا حصلت بالعقل والمعرفة فهي الطريق إلى الاستقامة والمحبة والعدالة أما معرفة الله بالغريزة والنزوة فهي الفئوية والطائفية التي تنجب الضلالة والخطأ والظلم. وما كل هذه الحركات التكفيرية والطائفية والفئوية إلا نتاج هذه العلاقة الغريزية مع الله والبعيدة كل البعد عن سلطان ومنطق العقل والمعرفة:
هو الله الذي عَظمتْ عُلاهُ
كأنّ الروحَ إنْ تلقاهُ آبَتْ

تقاسَمتِ البرايا كدْحَ طوْعٍ
بإنصافٍ وإجْحافٍ توارَتْ

أ مَقهورٌ بقاهرةٍ لفَحْوى
كأنّ القهرَ أقدارٌ أصابَتْ

وقهّارٌ بأقْهَرها شديدٌ
عظيمُ العزّ في سُتُرٍ تعالتْ

لطيفٌ صانعٌ خَلقا وخَلقا
لطائفُ صُنعِها وَهَجا أثارَتْ

عليمٌ إذْ يَراها في دُجاها
كأنملةٍ بأقبيةٍ تخافَتْ

وينظرُها ويُطْعِمُها فرادا
ويُحْصيها وإنْ كثرتْ وزادَتْ

وإنّ الأرضَ مِعيارُ اكْتيالٍ
وكائنةٍ بأكوانٍ تصادتْ
اللقاء بين الله والروح يؤدي إلى التوبة والاستقامة. والعقل يلغي الظلم ولا يقبل به. وبالعقل تتم المساواة والعدالة ويتم إرساء النظم والضوابط أو الدساتير. وتنشأ العادات والتقاليد الحميدة التي توطد الأخلاق والقيم "فالأمم الأخلاق" وعندما تذهب الأخلاق تضيع الأمم ويصير حتى الأديب والشاعر يضرب بسيف السلطان الظالم والجائر ويتغاضى عن جرائمه بل ويدافع عنها.
الطباق والجناس قي هذه الفقرة جاء بارعاً وموفقاً. زادته جمالاً موسيقى القصيدة. كما أن التكثيف الموفق زاد من عمق الطرح لقضايا فلسفية كبرى: كخلق الله للإنسان وعلمه بظاهره وباطنه، وخلقه للكون بما فيه من اختلاف وتنوع.
هذا الإيمان بقدرة الله وعدالة رعايته وقسمته يمنح الإنسان الطمأنينة والاستنارة بسلطان العقل المقر بقدرة الله وسلطانه. فيبتعد عن الجشع ويأنس بالقناعة.
قلوبُ العارفينَ لها شروقٌ
بها الأنوارُ قد حفّتْ وطافَتْ
"ويخشى اللهَ من عباده العلماءُ" لأن العالم او العارف قلبه مضاءٌ بالأنوار التي تشع لتنير ما حوله أيضاً. والعلم أو العقل هو الطريق إلى معرفة الله والاستنارة بنوره.
فهُمْ رَعَدٌ وبَرقٌ مُستهامٌ
يريدُ بزوغَها أنّى تزاغَتْ
العارفون هم البرق والرعد الذي يبشر بالمطر ويريد بزوغ الشمس مهما كان ميلانها.
لنَسْعى نحوَ ستّارٍ حَليمٍ
يُبشّرُنا بخالدةٍ أكالتْ
دعوة خالصة ومخلصة إلى العودة إلى الله، الذي يبشرنا بالخلود لحلمه ورحمته بنا.
ونقرعُ بابَ غفّارٍ كريمٍ
يبرِّؤنا لأنّ النفسَ ساءَتْ
عودة حقيقية إلى الله بقرع بابه ليغفر لنا كل السيئات التي اقترفتها نفوسنا الأمّارة بالسوء.
حَوائبنا بميزانٍ قَسوطٍ
فما خَسِرتْ ولا كيلٌ تطاغتْ
ذنوبنا وخطايانا ستوزن بالقسطاس المستقيم الذي لا يظلم أحداً.
يُسَبّحُ كلُّ مَوْجودٍ بإلاّ
وذرّاتٌ بمَحْمودٍ تبارتْ

دموعُ غيومِها هَطلتْ فأحْيَتْ
كوامِنَ بذرةٍ سألتْ وتاقَتْ
كل ما في الكون يسبح بحمده ويتبارى في ذكره لتنهمر الدموع كدموع الغيوم التي إذا هطلت ربت وتحركت البذور التي كانت تنتظر وتتوق للنمو. حتى مع البذرة الكامنة في التراب يستعمل الشاعر فعل التساؤل كبداية للحياة وهذا يرمز إلى أهمية السؤال في تشغيل العقل وحثه على العمل وهو ما تحتاجه امتنا الخاملة.
تعشّبَ تُربُها والزرعُ يَسعى
بمثمرة لمَسْغبهٍ أجابتْ
بعد المطر تنبت الأعشاب. الفعل "تعشّب" جاء موفقاً ومعبراً. وتثمر الأشجار لتسد رمق الجائعين.
تجاوَبتِ الأيائكُ في نُواسٍ
تغرّد لحنَ أطيارٍ تشادَتْ
ومِنْ نفحاتها عَبقٌ عَذيبٌ
يُخلّع كنهَها وبهِ اسْتعانَتْ
وتتحرك الأيائك لتسبح وتغرد في ذكر الله كالطيور وتبث نفحات استعانتها بالله. في هذه الأبيات يذلل الشاعر اللغة ويصوغها من جديد لتتحمل ما أراد التعبير عنه من مفاهيم فلسفية صوفية روحانية عميقة.
تباركَ ربّنا بعَجيبِ كوْنٍ
تُسيّرهُ مَقاديرٌ أحاطتْ
تبارك الله أحسن الخالقين الذي أبدع هذا الكون العجيب الذي تسيره القوانين والأحكام والمقادير التي تشمل وتحيط كل شيء.
فهلْ عُدنا إلى الإحسان فيها
بصالحةٍ لإعثارٍ أقالتْ

ورغْمَ الحبّ فرّقنا لحبٍّ
يوجّعنا بداهيةٍ أغارتْ

تهجّرَتِ البرايا واسْتهامتْ
فلا وطنٌ بهِ الأقطارُ فازتْ

وإنّ القلبَ مكلومٌ بتيمٍ
ونبضُ وجودهِ جدواهُ خابتْ
في هذه الأبيات المقتبسة أعلاه يدعو الشاعر إلى الإحسان وفعل الخيرات. إنها دعوة الفيلسوف المؤمن بالله من خلال سلطان العقل وليس من خلال كونه ممثل الله على هذه الأرض كما يفعل المتسترون وراء الدين. فغياب العقل أبعدنا عن الله وأدى إلى العثرات وتهجير الملايين وبينهم العلماء من أوطاننا العربية. وهكذا خسرنا الأوطان وجرحت القلوب المتيمة بالمعرفة وحب الله.
أذِقْني يا إلهي بعض عَفوٍ
فإنّ نفوسَنا ولعَتْ وشانَتْ
إنه اعتراف المتصوف المؤمن بذنبه، كاعتراف النبي يونس وهو في بطن الحوت "...سبحانك إني كنت من الظالمين".الآية 87 سورة الأنبياء. ما أعظم هذا الإيمان.
أنيسُ الروحِ مَحفوفٌ بنورٍ
وإنَّ الروحَ مِنْ رَمَضٍ تساقتْ
التورية في هذا البيت أعطته أبعاداً مختلفة ودلالات تشحذ ذهن القارئ وتحفزه على التفكير والتأمل. من يسامر الروح تحفه الأنوار. الروح التي "من رمض تساقت". فالرمض قد يكون الحر الشديد وقد يكون المطر الذي يسبق الخريف. وتساقت قد يكون شربت أو تبادلت السقي وقد تكون تبادلت الحرب أيضاً. إمكانية التأويل هي أحدى ميزات الشعر التي تجعله يختلف عن الكلام العادي.
ومِنْ سُلاّفة الوْجد ارْتَوَيْنا
فكمْ أعْطتْ إذا عُصِرَتْ وسالتْ
الوجد والشوق إلى المعرفة التي هي العقل الذي هو الله هي التي تروي النفوس الظامئة إلى المزيد من المعرفة أي إلى المزيد من العقل أي إلى المزيد من معرفة الله والتقرب إليه. "سُلّافة" في اللغة البدوية هي الحكاية او القصة أو الرواية...لا أدري!
بتقصيري وجَهلي وافْتِقاري
كبوْتُ مُغفّلا فدَجتْ وخابَتْ
إنه اعتراف الناسك المتصوف الذي يرى الله نوراً ويرى المعرفة نوراً والجهل دجى وظلاماً وخيبة.
غفورٌ أنتَ رحمانٌ رحيمٌ
فكنهُ سلوكنا رُغَبٌ أعالتْ
الرب غفور رحيم رغم تصرفاتنا النابعة من الرغبات والنزوات.
تعالى الله عن رفدِ الرزايا
تُصنّعها مُؤمّرةٌ أشارَتْ

كأنَّ العقلَ موؤدٌ بغيبٍ
فما عَقلتْ ولا يوما أثابتْ

فكيفَ عِقابُنا والعَقلُ مُلغى
وكيفَ ثوابُنا وبنا تهاوَتْ؟!!
هي مناجاة المتصوف العالم المفكر الذي يؤمن أن الله لا يحث ولا يبارك الأخطاء والجرائم. ويتساءل كيف سيعاقب الله من عطل عقله وألغاه ومن ناحية ثانية كيف سيجزي من هوى في ظلمات المعصية والجريمة.
الطبيب صادق السامرائي في هذه القصيدة المناجاة يغوص عميقاً في النفس البشرية المريضة ليشخص الداء لإعطاء الدواء. وقد نجح في وضع يده اللطيفة الحانية على مواطن الوجع. الجسد العربي مريض بداء الجهل ودواؤه هو المعرفة. الجسد العربي مسلوب الروح مشلول العقل والدواء هو التساؤل والمزيد من التساؤل في كل شيء وتحريض العقل على العمل. العقل العربي الذي صودر وألغي واستُبدل بالغرائز المتوحشة التي تسترت بالدين السمح والحنيف لتنقض على كل ما هو جميل في وطننا. تركنا الإيمان بالله الذي هو الأصل وتبعنا المذاهب والطوائف التي هي فروع، فأفسدنا كل شيء. تجاهلنا قوله سبحانه: "فقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..." الآية 29 سورة الكهف. ونصبنا أنفسنا قضاة نقرر ذبح هذا ونفتي بقتل ذاك.
حسين فاعور الساعدي




 

مقالات متعلقة