الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 16 / أبريل 23:02

ماكنة الاحلام

بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 07/05/20 13:22,  حُتلن: 13:24

كنت في السادسة او السابعة او بينهما، عندما لمع وجه امي وهي تقول لأختي الكبرى.. يللا حضري حالك.. بدنا ننزل على السوق نشتري ماكنة خياطة.. بكرة بتتعلمي عليها وبتصيري تخيطيلنا الاواعي، بدل ما ندفع عليها مصاري كثير لام هشام.
بما انني كنت اعرف كل شيء عما يدور في بيتنا، نحن ابناء العائلة المهجرة للتو من قريتها سيرين، اللاجئة في الناصرة، قلت لأمي: بدي اجي معك.
خلال دقائق هيأنا انفسنا، امي، اختي الكبرى وانا، وانطلقنا باتجاه السوق. تلك واحدة من المرات القليلة التي كان حلمنا يمشي امامنا وليس وراءنا.. نحن الثلاثة كنا نحلم بأيام افضل تُصلح فيها ماكنة الخياطة ما افسده الدهر من اوضاعنا المعيشية. انا كنت احلم بشراء كتاب يضمُّ قصة عن البطولة من الف ليلة وليلة، أعدّها للأطفال الكاتب العربي المصري كامل كيلاني. اختي.. كما ظهر على وجهها.. كانت تريد ان تتعلم الخياطة بأسرع وقت لمساعدة ابناء العائلة وجعل حياتهم افضل.. اما امي فقد بدا من كل واحدة من حركاتها انها اتخذت قرارا مصيريًا.. فقد قالت اكثر من مرة ان ام هشام تجرُمها جرمًا.. وتأخذ مقابل تخييطها لثوب لها مبالغ طائلة.
توقف موكبُنا العائلي في اول السوق.. استوقفت امي عابرة طريق وسالتها عن دكان يبيع ماكنات الخياطة.. فأشارت عليها من سالتها ان تمضي في الطريق دغري.. وانها سترى الماكنات تطل من فاترينة احد المحلات.. خلال دقائق كنا جميعا نتوقف امام محل بيع ماكنات الخياطة.. وراحت امي تسال أختي عن اي الماكنات اعجبتها اكثر.. دون ان تستمع لرأيها.. ربما كانت تفكر في المبلغ الذي ادخرته لهذه الساعة العصيبة.. وهل يكفي لشراء ماكنة خياطة؟.. حاولت امي فتح باب الدكان الزجاجي، الا انها لم تفلح.. وبينما هي تستدير لتشكو امرها الينا، اختي الكبرى وانا صغيرها الفطن النبيه، واذا بشخص يجري باتجاه الفاترينة.. وسرعان ما تبينا انه صاحب المحل.. دخلنا المحل وسط ترحيبه واعتذاره لنا لأنه ترك دكانه لأمر ضروري.. غير اننا جميعا كنا منشغليبن بأمر آخر.. ترى أي الماكنات ستكون من نصيبنا؟
لم يطل الانتظار، توجهت امي الى صاحب المحل، وهي تطلب منه ان يقترح عليها ماكنة رخيصة وكويسة وبنت ناس.. صاحب المحل شرع بعرض ما لديه من ماكنات خياطة.. وبعد نقاش طويل اقنع الوالدة بان تشتري ماكنة قدم وليس يد. واضاف يقول لها لدي ماكنة جديدة في السوق اسمها سنجر.. ما ان نطق هذه الكلمة الاخيرة حتى لمع وجه امي.. وقالت بس هذه ماكنة غالية الثمن.. فقال لها فعلا هي غالية.. لكنها عملية.. عندما نطق البائع بثمن الماكنة رأيت الحيرة على وجه امي. وقبل ان تنطق باي كلمة رأيت البائع يقول لها بإمكانك دفع المتوفر لديك وسوف اقسط لك المتبقي من المبلغ، بأقساط شهرية مريحة. بدا ان الفكرة راقت لأمي فتقدمت اليه قائلة انت لا تعرفنا.. خلّ الماكنة عندك.. وعندما نسدد لك كل ثمنها نأتي اليك لأخذها.. تناول صاحب الدكان المبلغ من يد امي الفرحة بما انجزته، وخرجنا من الدكان والفرح الغامر يطل علينا من كل جانب..
بعد قرابة السنتين توجهت الينا امي مبشّرةً إيانا.. اليوم دفعت اخر كمبيالة من ثمن ماكنة الخياطة.. الله يطول عمر سنجر.. كثير ساعدنا.. سألتها اختي الكبرى اين الماكنة؟ فأخبرتها انها في الطريق الينا في بيتنا القائم في اعماق الجبل. وان سنجر سيحضرها في ساعات فرصة الغداء.
في الساعات المحدّدة.. دخلت ماكنة الخياطة الى بيتنا مثل عروس في ذروة زهوتها.. فأنزلتها الوالدة افضل محل في البيت.. وقامت بتغطيتها بكساء كي لا تتسخ.. وكانت عندما يزورنا اناس تحبهم وتقدرهم.. تصطحبهم الى حيث تسترخي ضيفتنا الغالية العزيزة لتريهم اطلالتها الجميلة البهية.. ولتتحدث اليهم عما ستؤديه هذه الماكنة من دور في رفاهنا العائلي.
بعدها مضت الايام.. لا اتذكر ان اختي تعلّمت الخياطة.. وجاء من يطلب يدها وهي لمّا تزل صبية غضة الاهاب، فتزوجت. ومما اذكره ان امي حاولت اكثر من مرة وعلى فترات متباعدة ان تستعين بماكنة سنجر في اصلاح ما تمزق من ملابسنا.. الا انها لم تنجح.. وكانت تعود الى ابرتها وخيطها قائلة.. الخياطة في الابرة اسهل.. بكرة بتعلّم الخياطة وبصلح كل ما تمزق من ثيابنا..
مضى الوقت مسرعا مثل بساط الريح.. ووصلنا اخيرا إلى النهاية.. كان ذلك قبل عقد من الزمن.. توفيت امي.. وغادرت لأقيم في بيت بعيد.. في اول زيارة لي الى بيتنا القديم.. كان اول ما احببت الاطمئنان عليه.. الماكنة.. ذهبت اليها في مكانها.. كان الصدأ قد علاها.. وكانت خزانتها قد تهاوت بفعل الزمن.. تمعنت فيها جيدا.. فرايتها بقية حلم.

مقالات متعلقة