الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 02:01

منتصف الجرح/بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 01/05/20 16:00,  حُتلن: 18:13

هذه القراءة لقصيدة الشاعر الجزائري قدور رحماني غير مبنية على قاعدة نقدية مدعمة بنظريات تحليلية أكاديمية، وإنما هي ملاحظات قارئ عادي مبنية على ما فعلته به هذه القصيدة من ترددات وهزات جعلت قلبه يخفق، وعقله ينهض في جولة استطلاع ومشاهدة لركام ما نحن فيه.


منتصف الجرح هي المنطقة الأشد إيلاماً ما دام الجرح مفتوحاً وحتى بعد شفائه، وقد تكون مرحلة بعد البداية وقبل النهاية وأعتقد أن الشاعر قصد المعنى الأول والله اعلم.


أَحْرَقْـتُـمْ
قاموسَ الأفعال وقاموسَ الأسماء على شفتــي ..
وغَزَلْتُــمْ كم ســوطٍ مَسْمُـومٍ
يجلدنــي
ما بين غشاء النبض ومِحْبـَـرَتي ..
كلُّ الأطيار البِيضِ تُوَدِّعني ..
تتزاحم في ميناء الدمــع وتطعنني
بِرِمَـاحِ الشَّــدْوِ
فَـأَنْــثُــرُ ياقوتا ونجوما من عينيَّ وأوردتي ..
في ريش خوافيها وقوادمها
تبكي مدنٌ وقُــرًى
وجميعُ الألفاظ الـمَطْوِيَّــةِ في لغتــي ..


في هذه البداية التي لا لف ولا دوران فيها يخاطب الشاعر فاقدي الضمير الذين أحرقوا على شفتيه ما في اللغة من أسماء وأفعال وهو كل ما في اللغة بحيث لم يبق فيها شيء له دلالة.
في هذا الجزء من القصيدة يبدو جلياً أن الشاعر لا يحقد على طاعنيه ولا يكرههم لأنه مؤمن والمؤمن لا يكره، فقد خلط بين سهام الظالمين المسمومة وسياطهم المسمومة أيضاً وسهام الشدو المنبعثة من أجنحة الطيور البيضاء التي تحلق في ميناء دموعه...خلطها ونثر عليها لؤلؤاً من دموعه ودمه. لقد شعر بالتضامن مع هذه الطيور لأنها مثله تبكي ذات القرى وذات المدن والمطوي من لغته. الصور متزاحمة وكثيرة ومتشابكة كتشابك ألمه وشدو الطيور الذي حوّله الظالمون إلى بكاء.


أحرقتم في صدري كم قُــبَّــرَةٍ
كانت تتهيَّأ للطيرانْ ..
وسحبتم من دِيَـمِــي
كم ساقيةٍ كانت تتعــرَّى في نَهَــمِي
للــتَّــدْرُجِ والكَــرَوَانْ ..
أحرقتم جبة قلبي ..
يا قلبي تبكي وتوزع أدمعكَ الحـَـرَّى
مابين الإبـْـرَة والـخِيطانْ ..
أحرقتم رُمَّانا
يتكوَّر بين تنهد أوردتي الـمَسْكُوبَةِ والـخَفَقَانْ ..
وزرعتم كم من أغنيةٍ للـشُّــؤْمِ
تَـحُــومُ ، صباحَ مساءَ ، مع الغربانْ ..

الظالمون وقوى الشر لم يحرقوا اللغة، بأفعالها وأسمائها فقط وإنما حرقوا القُبّرة الساكنة قلب الشاعر. لماذا اختار القُبّرة لتسكن قلبه؟ القُبّرة طائر هادئ كما أعرفه وهو يفضل العيش في حقول القمح التي توفر له أفضل الظروف لبناء أعشاشه وللتكاثر. الشاعر لم يقل "تتأهب للطيران" من باب الصدفة أو لمقتضيات الوزن أو القافية أو ما شابه، وإنما لأنه فلاح، كما يبدو، ويعرف ككل ريفي يعيش في الطبيعة أن القبُّرة بطيئة الطيران إما للخداع أو لأنها لا تخاف من الإنسان فهي تطير في آخر لحظة وبعد أن نقترب منها كثيراً...هي فعلاً تتأهب للطيران ولا تطير مباشرة. والقبرة في رأيي هي رمز للحقول وبالذات لحقول القمح ونسميها في بلادنا "الزرعي". وهي طائر جميل وقريب للألفة.
القبرات التي في صدر الشاعر عندما احرقوها كانت تتأهب للطيران والقبرة عندما تطير تغرد وتغريدها جميل جداً وأقرب ما يكون للكلام. والشاعر هنا بواسطة التصوير الرائع يريد إبراز كبر الضرر الذي سببه له الأشرار. القُبّرة لم تكن ضحية الشر الوحيدة وإنما التَّدْرُج والكروان وهي من أجمل الطيور. هذا التحريض البارع على قوى الشر نجح لأن هذه القوى أحرقت أجمل ما يكون في حياة الشاعر.
الظالمون احرقوا "جبة قلب" أي قلب قلبه أو ما أحاط بقلبه من غطاء. هذه الصورة البارعة أضعفها البيتان اللذان جاءا بعد ذلك وكان بالإمكان الاستغناء عنهما في رأيي المتواضع:

(يا قلبي تبكي وتوزع أدمعكَ الحـَـرَّى
مابين الإبـْـرَة والـخِيطانْ ..)


هذان البيتان جميلان لوحدهما أما في سياق هذه القصيدة الغاضبة المنتفضة ذات الحشد والتركيز العالي فلا... وليت الشاعر استغنى عنهما.
الظالمون لعنهم الله وقبّحهم أحرقوا أيضاً ما تكور من رمان بين انسكاب شرايينه وخفقان قلبه. والله إن لطف الشاعر ورقته وإنسانيته لم تسمح له بالقول أنهم سفكوا دمائه وأحرقوها...يخجل عنهم وهم لا يخجلون. وليتهم اكتفوا بكل هذه الحرائق فقد زرعوا كم أغنية للشؤم لتظل كالنحس تحوم مع الغربان صباحَ مساء.

حولتم أضلاعي سفنا للغربة والمنفى
وسَلَالِـمَ للأحزانْ ..
وحضنتم بَيـْـضَ الدمـع وفيـضَ القمـع
وأعشاش الشيطانْ ..
جَفَّفْتُمْ كم نهــدٍ
بالشهد يُنَمِّــقُ خارطة الدنيا
ويـُـزَوِّقُ بيتَ الحب بنُــوَّار الـمَرجانْ ..
أحرقتم كم حقلٍ
يَتَطَاوَسُ فوق دمي .. يتحاور بالألوانْ ..
أحرقتم كل نِيَــاقِ حنيني .. كل رياحيني
ومَجَــرَّةَ أشواق تتزاحم في وَهَجِــي
كالنخل الـمُثمر في واحاتِ القِبلــة والغفــرانْ ..


في هذا المقطع الجميل والرائع كما في كل القصيدة تتوالى الصور التي يرسمها الشاعر بمهنية عالية وبألوان متناسقة وتتزاحم لتشكل لوحة صارخة ومدوية بما فيها من ظلال وأبعاد أو أعماق. الظالمون واصلوا حرائقهم اللئيمة فأحرقوا الحقل الجميل كالطاووس وأحرقوا الحنين الشديد في قلب الشاعر الذي يشبه حنين النوق وهو أشد أنواع الحنين. وأحرقوا، أحرقهم الله، كل الرياحين ومجرة أحلام الشاعر.


من بين هذا الركام ووسط هذه النيران يتبين لنا أن الشاعر بفطرته الثورية لم ينتظر طويلاً وإنما رد على هؤلاء الظالمين وفي سياق القصيدة ذاتها مثبتاً لهم بالفعل لا بالقول أن قصدهم خاب وفشل فها هو ليس لم يكتف بالموجود من الأسماء والأفعال التي لم ينجح الظالمون في حرقها على شفتيه وإنما أقدم بجرأة وإبداع عل إثراء قاموس اللغة العربية بأفعال لم تستعمل من قبل اشتقها من أسماء متداولة وردت في القصيدة ( يتطاوس من طاووس، تتعوسج من عوسج ويشرشفه من شرشف) هذه الأفعال السلسة وغير النابية لم أسمعها من قبل وقد دشن وروَّضَ قدور رحماني استعمالها لأول مرة في لغتنا العربية وهو في أتون ظلم الظالمين.


ما أجمل الصور في هذه الفقرة: أضلاعه سفينة وسلالم تحمل قلبه وما فيه من غربة ومنافي وأحزان. والحقول جميلة مزركشة كريش الطاووس. والدموع أعشاش مليئة بالبيض. وأشواقه مجرّات وحنينه حنين نوق حزينة.


في منتصف الجرح المفتوح أشمُّ بذورك ياوطني
تَتَفَتَّـقُ بين جذور النارِ ..
تُفَــرِّخُ أجراسا فوق الأحجارِ
وتنفخ في نبضي أغصانا داميةً
تتقاطر لاهثــةً
كشرايين الشفق المذبوح على الشطآنْ ..
تَتَعَوْسَجُ في حلقي..
تتعوسج في كتبي .. في أروقة النسيانْ ..
إني بجميع عروق القلبِ
أَسُــحُّ على هضباتك ياوطني
وأُقَـبِّل فوق سواحلك العطشى مُدُنا وأناملَ دامعــةً
كَبَقَايَا من عسلٍ تَتَلَعْثَمُ في الحيطانْ ..
أتذوَّق سُكَّرَ أمِّي
وَهْيَ تُـمَشِّطُ شَعري تحت ضفائــر داليــةٍ
وتـمد سواقيَ من ألحــان أصابعها
وصبايا أعمقَ في قلبي
من در الأنجــم في مــاء الأزمــانْ ..


في منتصف الجرح، وهي أشد المناطق إيلاماً، وفي وسط النيران المشتعلة يشم الشاعر ليس رائحة الحريق إنما بذور الوطن المتفتقة رغم كل المعيقات. هذه البذور تفرّخ فوق الصخور وتنفخ في العروق وتتعوسج في الحلق، وفي الكتب لتجعل الشاعر يذوب على هضبات الوطن ويقبّل مدنه الساحلية وكأنه يلعق العسل الذي يذكره بسكّر أمه وهي تمشطه تحت الدالية. مرة أخرى تزدحم اللوحات لتحول هذه القصيدة الرائعة إلى متحف يضاهي اللوفر بل ويتفوق عليه.


أستنشق في زهر الرمَّان حنينا
يَرْعُفُ داخلَ أوردتي كمصابيح الرُّهبانْ ..
وأقبِّل كم من داليةٍ في مئذنةٍ
تتدثّــر بالذكرى
وحنين القمرِ الـمُغْــرَوْرِقِ في الأحضانْ ..
تبكي وتعانقني
وتـمد جدائلها المبحوحةَ فوق ظلال الوشم
زوابعَ من أَرَج وَدَمٍ ..
تتسلَّق كالعُلَّيْـق أنين الأضلع والأجفــانْ ..
وطني ألقاك وتلقاني في منحدر المنفى
نتطاير مثلَ فَــرَاش النَّـزْفِ
يُشَرْشِفُه
بـرقٌ ودمــوعٌ بين الخنجـر والشِّريانْ...


في هذه الفقرة الأخيرة وجدت ما يؤكد حدسي أن الشاعر القدير قدّور رحماني في هذه القصيدة لا ينطق عن هوى، وإنما يختار كلماته بقصد وعن سابق إصرار وترصّد وبعناية ودراية كاملة: فكلمة رمان مثلا لم ترد صدفه فللرمان دم يشبه دمنا والدليل على ذلك استعمال الشاعر لكلمة "يَرْعُف" التي تستعمل مع الإنسان عندما يسيل الدم من أنفه. ومتى يسيل الدم من الأنف؟ عادة في الحر الشديد أو في حالات الضغط المرتفع. ما هذا التكثيف؟ وما هذا الإبداع؟! كم هو جميل.
بعد كل هذه المعاناة وبعد كل هذه الحرائق التي يعيشها الشاعر، والتي أبى إلا أن يصفها بصور جميلة وعبارات تنقّط سمواً وأخلاقاً وذوقاً...وبعيداً عن الشتائم، ها هو الشاعر يلتقي بوطنه رغم أنف هؤلاء السفلة ولكن في منحدر المنفى في لقاء كلقاء الفراشات المشتاقة يشرشفه، أي يغطيه، برق اللقاء بين خنجر الحاقدين وشرايين الشاعر.
هذه القصيدة هي متحف من اللوحات المنسجمة والمتناسقة من يدخله يحتاج إلى ساعات طويلة ليستمتع وليشحن نفسه بالرغبة الجامحة لمحاربة الظلم والظالمين وليهب لنصرة المظلومين الشرفاء من ذوي القامات الشامخة كقامة قدور رحماني. تحية لهذا الشاعر الكبير أينما وجد وطالما وجد وبانتظار المزيد من درره.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة