الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 22:01

الحَكيـــم والقَنـــدول / بقلم: د. جودت عيد

د. جودت عيد
نُشر: 29/04/20 18:19,  حُتلن: 22:48

راحت الشّوارع في غيبوبة قسريّة وصمت كلّ شيء! لم يعد هناك أيّ أحد لينتهك سكون الكون، لم تعد هناك دوائر صخب ولا معارك لهاث مسروق من زمن يتهالك دون تريّث، لم تعد هناك قبلات تحترق في أفياء العتمة، ولا منصّات للتّرف أو للتّطرف وللغضب ولا منصّات للتّعالي وللسّخف ولا للفرح المؤقّت أو للصّور التي لا تعكس إلّا وجهًا يفصّله المصوّر. سقطت طقوس اليوم المجترّ من مدارات القهوة والّلقاءات واحتفالات الايجو وطقوس الأعياد، لتعود الصّلاة لتخشع أمام الرّوح دون وسيط.
قمتُ من عزلتي القسريّة الى حفل العصافير الصّباحيّ، لحقت رائحة قشّ محروق هبّت من بعيد، ليتيه كياني في رطوبة التّراب بعد مطر نيسان. لم تكن السّماء صادقة يومًا كتلك الآنيّة الّتي في السّماء، ولم تكن الأرض ساكنة يومًا كتلك الآنيّة التي في الأرض، مُذ هيمن الوباء على كلّ شيء، ولم تعد مسافة انطلاقات روحي تتعدّى شجيرة القندول الأقرب الى بيتي، أجلس هناك ومن هناك تروح الرّوح في مساحات الرّوح نحو أفق البحر الأزرق الأزرق المطلّ على عبثيّة الزّمكان في ظلّ إقصاء الناس الى هامش أجندة الارض، لتنعم الارض بقسط من الفرح والارتياح من التّنكيل اليوميّ والتّجاوزات وغطرسة بني البشر.
وقف الحكيم على بعد أمتار منّي ونظر نحو الأفق وتحدّث الى الفضاء وقال: اليوم استطعت أن أصغي الى كلّ الطّيور واستطعت أن أرى الأسماك تلاعب الموج، واستطعت أن أرى لون السّماء، وأن أشعر بحرارة الشّمس حين خرجتُ لهنيهات استراحة من غياهب الحَجر. اليوم استطعت أن أشمّ رائحة المطر المنزلق على أزهار القندول، اليوم أينعت كلّ الزّنابق والشّجر والأزهار بُعيد الطّوفان، وعشّش الطّير في كلّ مكان واحتفل بحريّة السّماء والأرض مع كلّ الكائنات، جميعها تعايش الطّبيعة بكل تلقائيّتها كما هي، ولا تدّعي الخلق ولا الفوقيّة ولا الهيمنة كما يمارسها البشر. كم تحتاج الأرض الى استراحة منّا، كم تحتاج الى مساحة لذاتها كي ندرك نحن حكمة، غابت عنّا عندما اعتقدنا أننا فوق الطّبيعة وفوق كل الكائنات، وندرك كنهَ الحياة الحقّ.
طأطأ الحكيم رأسه وصمت.
تحرّكت زهرة من زهرات شجيرة القندول وقالت للحكيم: لقد بكت السّماء وقالت مرارًا أنّ الأرض وطنٌ للكلّ، ولم يصغ منكم سوى قلّة قليلة، ولم يشفع للأرض أيّ شيء، ولم يتوقّف البشر عن انتهاك الهواء والسّماء وكلّ ما فوق الارض وتحتها حتى اختنقت. لم يستطع أيّ شيء أن يقف أمام وحشيّة الانسان وغطرسته، سوى وباء غير مرئيّ هدّد بقاء البشر، فهرب البشر الى غياهب العزلة وابتعد النّاسُ عن النّاسِ وعن كلّ ممارساتهم اليوميّة في محاور النّفاق وهياكل الحضور البشريّ المتداعية. انقلب ميزان القوّة حين كفرت الأرض بكلّ الانتهاكات المتراكمة ولفظت مظاهر البشريّة، لتستعيد الطّبيعة عافيتها والكائنات حريّتها. ابتسم وجه السّماء وتنفسّ التّراب وفرح الكون حين أعلنت الأرضُ الحياة!
وقف الحكيم أمام زهرة القندول وقال: أخاف على الحياة! لم نصغ الى وجع الكون فانتزعت الأرض استراحة لتفيق الطّبيعة في نهارات يفرح فيها الموج والطّير والورد وكلّ الخلائق والانسان، أخاف بعد ذلك أن ننسى وتلفظنا الأرض من جديد!
قالت زهرة القندول: أخاف! قد يعود البشر للعبث في مضاجع الفرح المعشّش في أفياء البسيطة المنطلقة، سيتقوقع البشر من جديد في غياهب الاغتراب حتى اضمحلال الفكر وتقزّم الحياة.
تغفو زهرة القندول على كتف المساء ويرحل الحكيم نحو الضّوء التّائه، ويعتريني الخوف!
أجلس قرب شجيرة القندول، أرنو بصمت نحو البحر، أحاول أن أكتب نشيدًا للحياة... بينما تراقص مدينتي أهازيج البحر...

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة