الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 18 / أبريل 09:02

الحضارة الإنسانية لا تعرف حدودا قومية أو دينية/ نبيــل عــودة

نبيل عودة
نُشر: 26/12/19 11:33,  حُتلن: 11:40

يشكّل محمد أراكون في الفكر العربي ظاهرة فريدة، إذ جعل من الفكر مقياساً انسانياً، بعيداً عن حالة اللاتفكير التي باتت مميزاً لجميع مجتمعاتنا العربية.

لم أقرأ إلاّ القليل من طروحات أراكون، وقرأت عنه أكثر مما قرأت له، خاصة على الشبكة الانترنيتية، والسبب صعوبة (وبالنسبة لي استحالة) إيجاد مؤلفاته في مكتباتنا العربية الغارقة بكتب تقليدية، هزيلة وسطحية، لدرجة أن كتب الأبراج، وكتب الخرافات والخوارق، أصبحت أكثر تسويقا وربحا من أي كتاب فكري أو ثقافي، ويبقى أملي أن يترجم أراكون للعبرية لأستطيع الابحار في فكره. لكن للأسف لم أجد مؤلفاته حتى اليوم، وهو امر مستهجن بثقافة لم تترك موضوعا ثقافيا فكريا فلسفيا لم تنقله للغة العبرية. ربما هو تجاهل مع سبق الاصرار على فكر عربي متنور؟

رغم ذلك البعض الذي عرفته من كتابات قرأتها عنه، فتحت لي آفاقاً فكرية، وأعادت لي بعض الثقة بقدرة العقل العربي على الإبداع، إذا ما أنقذ من حالات التسيب التي تسود مجتمعاتنا في كل مرافقها.

النموذج الذي يقدمه الراحل الكبير أراكون، للأجيال العربية الناشئة، أن تعتمد العقل منهاجاً تستنير منه، وأن تبتعد عن مظاهر الجمود والنقل والمحاكاة والتلقين، مقبرة كل فكر ومقبرة القيمة الإنسانية للشخص نفسه.

في الكثير من طروحاته، انتقد المناهج المغلقة، خاصة في الدين. ودعا إلى أنسنة الفكر لتصبح معايشة المجتمعات المختلفة، وخاصة المجتمعات الأرقى تطورا ممكنة ومتاحة، للتعلم منها ومن تجاربها وتطورها.

أراكون اختار لكتابه الأخير عنواناً دالاً: "الأنسنة في الإسلام -مدخل تاريخي نقدي" ويؤسفني ويحزنني أن هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته في اللغة العربية، مفتقد، كالعادة، في مكتباتنا، وربما لو عرض لما اقترب منه قراء الأبراج وفكر الخوارق. وكل ما استطعت معرفته هو من مقالات كتبها مفكرين عرب عن أراكون، ولولا وجود الشبكة العنكبوتية لما تسنى لنا أن نطلع على مضمون مقالاتهم أيضا.

أراكون حدّد معالم الانغلاق في الفكر العربي، بأنها بدأت تبرز منذ القرن العاشر وتتجذر بشكل ملحوظ في القرن الحادي عشر حتى يومنا هذا، بل يشير إلى أن الانغلاق أصبح أكثر عمقاً وشراسة، وهو يرجع ذلك إلى أن الثقافة العربية لم تكترث بوجود الأنسنة، رغم أهميتها، ومن هنا نجد أراكون يجعل من بحثه الانسنة هدفاً فلسفياً في أبحاثه وربما في مشروع حياته.

بالطبع أتجاهل الدخول المباشر لبعض التفاصيل، حتى لا أثير نقاشاً عدوانياً في مضامينه.

يقول أراكون في لقاء أجرته معه صحيفة عربية، نحن المغاربة وكذلك المشارقة لدينا مرجعيتان، هي العربية الكلاسيكية من القرن العاشر والثانية هي الحداثة الأوروبية، ويدحض أراكون موضوعة الاستعمار وتأثيرها على الفكر الأوروبي، لأن الاستعمار لحظة تاريخية لم تؤثر على الفكر الأوروبي.

من وجهة نظر أولية، أعتقد أن تأثير الاستعمار كان إيجابياً على تطوير العلوم والثقافات في أوروبا، وقاد إلى تطوير العلوم والتكنلوجيا والثقافة أيضا، بصفتها جهازا في تسويق سيطرته وسيادة ثقافته على ثقافات المجتمعات ضعيفة التطور، ولا شك أن الثقافة أساسا شكّلت الواجهة الإعلامية للاستعمار في مرحلة صعوده، وهذه الظاهرة نجدها في كل الفتوحات والحروب الاستعمارية أو التي غلفت بسط سيطرتها ونفوذها برسالة الهية. وقد انتبه لهذه الظاهرة وأكّدها المفكر الفلسطيني الكبير، المرحوم إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية". لكن جعل الظاهرة الاستعمارية معياراً لنبذ الحضارة الغربية فهذا خطأ قاتل، هذه الظاهرة حملت جوانب متناقضة عدة، بينها الايجابي وبينها السلبي. السلبي تلاشى أو يتلاشى باستمرار، وظلّت الظواهر الإيجابية هي السائدة والحاسمة في الرقي الحضاري، وتشكل مضمون الحضارة والأنسنة في المجتمعات الغربية اليوم 

ليس صدفة أن أراكون اشتكى من عدم وجود ظواهر إيجابية في ذاكرتنا، ربما نتيجة نوع الفكر (أو الحضيض الفكري) الذي ساد العهد العثماني. ولم يتردد أراكون في نقد المقولات الدينية الثابتة، والتنويه بأن الزمن تجاوزها.

ومن الجدير ذكره، أن أراكون لاحظ إشكاليات اللغة العربية وعجزها عن التعبير عن بعض المصطلحات، مما جعله رغم ثقافته العربية الواسعة، يكتب بالفرنسية، حتى لا تخونه التعابير.

وهي ظاهرة شبيهه بما يواجهه الباحثين والمفكرين والكتاب والمترجمين العرب في إسرائيل، ولا أعرف ما هو الوضع في العالم العربي، إلا من بعض الترجمات غير المفهومة والمبهمة التي تصلنا، حتى عندما تُنقل بعض الكتب في ترجمات عربية، لا يمكنني نقد لغة مترجمها وإلمامه الموسوعي بلغة الضاد، كما حدث مع كتاب "الإستشراق" لإدوارد سعيد مثلا، الذي تحتاج لغته العربية إلى ترجمة للغة عربية مفهومة حتى لقراء مثقفين ثقافة عالية، وكنت أظن أن المشكلة شخصية، حتى اعترف لي أكاديميون عرب انهم لم يفهموا النص العربي أيضا، واضطررت لقراءة الكتاب بترجمته العبرية الرائعة، وآمل أن لا يشتمني أحد لصراحتي!!

أراكون انتقد بثقة مطلقة ما سمّاه رفض الإسلام للحداثة وتعامله معها بحذر شديد وخاصة في وقتنا الراهن، حيث بلغ الرفض أشده وظاهرة هذا الرفض تتجلى حسب رأيه... في تنامي الإرهاب والعنف الديني بشكل ملموس، ويعبر عن خوفه من أننا ننغلق فكرياً أكثر وأكثر 

ألعديد من الكتّاب العرب رأوا في طروحات أراكون نزعاً للقداسة عن القرآن وكل ذنبه أنه أخضع النصوص الدينية والتراث الديني للتحليل والدراسة وفقا للمناهج الدراسية العلمية الحديثة، معتمدا المساءلة العقلية. واتُّهم أنه يقلد الفكر والثقافة الغربية، وغيرها من الثرثرات التي لا تعي مسألة عالمية الفكر وعالمية الحضارة بغض النظر عن مصدرها، إذ لا قومية للعلوم ولا دين للفلسفة، ولا طائفية للفكر.

وكل حديث عن اختلاف البيئة، هي هرطقة لا أساس عقلاني لها. ووصل الأمر ببعض التافهين أن يعزوا أنفسهم بأنهم لم يخسروا كثيراً برحيل نصر حامد أبو زيد المفكر الإسلامي القدير، وبالتالي لم يخسروا كثيراً برحيل المفكر الكبير محمد أراكون، ويبدو أن غياب كلّ المفكرين العرب لا يؤثر على مجتمع التخلف والتلقين.

حسناً لو كانت الراحلة روبي (أطال الله عمرها وغنجها) لشعر العالم العربي بحزن وأسى وأعلن الحداد لستة أشهر قمرية كاملة.

يبدو واضحاً أن فكرنا ما زال خاضعاً لخزعبلات زغلول النجار واكتشافاته العلمية التي رغم كثرتها لم تغير الواقع العربي بل زادته تخلفاً وفقراً.

يقول هشام شرابي: "شئنا أم أبينا يستمد الفكر العلماني النقدي مفاهيمه ومصطلحاته وأبعاده من التجربة الأوروبية للحداثة بمفهومها الشامل وقد وجدت هذا الأمر جليا في مراجع أراكون". نفس الأمر ينطبق على دراسات جميع المفكرين العرب البارزين وفي مختلف المواضيع التي تتناولها أبحاثهم.

هل هذه صدفة؟!

لم أجد ما يستحق الذكر في ردود التيارات الرافضة للحداثة والعقلانية، والمتمسكة بالجمود الفكري والديني، كل ما لديهم هو تكرار ممل لمقاطع جاهزة، نجد ما ينفيها من نفس المصادر التي استقوا رفضهم منها.

ألمضحك أن البعض يدعي أن الحداثة الغربية، لم توفر السعادة والطمأنينة للإنسان، بتجاهل كامل لواقع الإنسان العربي، واقع 140 مليون إنسان عربي تحت خط الفقر، واقع نسبة أمية رهيبة خاصة بين النساء تتجاوز ال 60%. وواضح أن خط اللافقر العربي يعتبر أدنى بكثير من خط الفقر في المجتمعات الغربية. من هنا أستصعب فهم تهم الإلحاد التي تُطيح بمفكرين عرب من مستوى أراكون ونصر حامد أبو زيد والقائمة طويلة. ولولا مساحة الحرية في الغرب، التي انطلق الفكر العربي حرا في أجوائها، لما استطاع الفكر العربي أن يخرج من قرونه الوسطى!!!

مقالات متعلقة