الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 07:01

الأديب يمكن أن يكون موظفًا. فهل الموظف يمكن أن يكون أديبًا؟ / بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 05/12/19 14:18,  حُتلن: 15:32

في هذا المقال سأتحدث عن الموظفين المؤهلين الذين وصلوا إلى وظائفهم بطرق قانونية وبفضل شهاداتهم ومؤهلاتهم. وليس عمن وصلوا بالواسطة وبطرق ملتوية. فهؤلاء ليس لدي ما أقوله لهم سوى أنهم مبتلون أعانهم الله على بلواهم.

الموظف الذي يشغل وظيفته بمؤهلاته وبشهادته ويجد في نفسه الموهبة ليكون أديبًا لا بد أن يواجه السؤال الصعب والحتمي وربما المحرج: ما هو المدى المتاح له أو المسموح له التحرك فيه بحرية دون أن يغضب مشغله؟. مجرد الانشغال بهذا السؤال هو تقييد وتحجيم للحرية التي بدونها لا يمكن للأديب أن يبدع.

إن السلطة، أي سلطة، مهما كانت ليبرالية أو ديمقراطية تظل سلطة لها مصالحها وأولوياتها وتتوقع من كل موظفيها الحفاظ على هذه المصالح والأولويات أو على الأقل مراعاتها. وهذا بحد ذاته انتقاص من مجال الحرية المتاح. وكل موظف حتى لو كان بليدًا وغير ذكي يستشعر هذا التوقع وينفذه بقصد أو دون قصد، بوعي أو دون وعي وهو بداية مسيرة التنازلات . كل موظف يريد الحفاظ على وظيفته والتقدم فيها. لكنه يعرف جيدًا أن هذا الحفاظ أو التقدم لا يتم إلا برضا وموافقة السلطة التي تشغله وهذه خطوة أخرى في التنازل. أضف إلى ذلك أن هذه العلاقة، بين العامل والمشغّل، هي علاقة أخلاقية لها خلفياتها الاجتماعية وحتى الدينية. فمن غير المقبول وليس أخلاقيًا في عرفنا أن تشرب من البئر وترمي فيه حجرًا أو أن تأكل من الصحن وتبصق فيه. هذه القيم متجذرة في نفوسنا عميقًا ولها تأثيراتها الحاسمة على نهج حياتنا. وبما أن الأديب هو ابن مجتمعه فإن هذه القيم لا تستثنيه. لذلك ومن غير أن يشعر أو يقصد نجده يتحاشى الصدام مع هذه السلطة على الأقل من منطلق الحفاظ على الانسجام مع ذاته إن لم يكن من باب التودد إليها. هذا الانسجام هو مطلب ملح لكل واحد منا فبدون هذا التصالح الداخلي لا يمكن للإنسان أن يبدع. وهذه خطوة أخرى على درب التنازلات وتقليص الحرية. هذه التنازلات المهمة تظل ممكنة وفي نطاق المعقول عندما تكون السلطة تتمتع بشيء من الديمقراطية أو الليبرالية فتساعد الأديب على حفظ ماء وجهه، أمام نفسه وأمام الآخرين، بسبب علاقته معها وارتباطه بها. ولكنها تصبح مستحيلة ومحرجة مع سلطة تذبح شعبها مثلًا، أو مع سلطة تذبح شعبًا آخر أو تستعمره. في هذه الحالة يواجه الموظف الأديب الخيار الصعب: إما الخروج على هذه السلطة وفك العلاقة معها وتوبيخها، ليحافظ بهذا على انسجامه الذاتي (الصدق الذي بدونه لا يمكن أن يبدع ) وليحافظ أيضًا على صورته أمام الآخرين، وإما السقوط والتحول إلى أديب يخدم السلطة (أديب موظف).
إشكالية الموظف الأديب هذه ليس لها حدود وضوابط واضحة ومحددة لذلك هنالك الكثير من المجالات لتضليل الباحث في هذه الإشكالية أو حرفه عن الصواب. الضابط الوحيد الذي يمكن الاستناد عليه وأكاد أقول الاستنجاد به أو اللجوء إليه لتحديد ما إذا كان الأديب أديبًا موظفًا أم موظفًا أديبًا هو الصدق. فهو المخرج الوحيد لأنه العمود الفقري، الذي لا خلاف حوله، لكل إبداع. أما بقية المخارج فهي زائفة وانتهازية وأصحابها يغطون على من تحولوا من موظفين أدباء إلى أدباء موظفين في خدمة السلطة أو على الأقل في تبييض صفحتها متقوقعين في برجهم العاجي بعيدًا عن هموم وأوجاع الجمهور من حولهم ومتسترين بمختلف الأقنعة والشعارات. وبما أن الصدق هو الصدق فمن غير الممكن للأديب الذي يعمل في وزارة ما، إلا أن يكون أديبًا موظفًا ولا مجال أمامه أن يكون موظفًا أديبًا.
هذا بشكل عام.
أما عندنا هنا وفي حالتنا، الخاصة والاستثنائية، فإن إشكالية الموظف الأديب هي إشكالية مضاعفة أضعافًا مضاعفة. فهو موظف عند سلطة تحتل شعبه وتمارس ضد هذا الشعب مختلف أنواع الكبت والعنف. هو موظف عند سلطة لا تعترف بوجوده هو نفسه. لذلك لا يوجد أمامه أي مجال للانسجام الداخلي، وهو مكشوف أمام مجتمعه لمختلف أنواع التهم. هو موظف محكوم عليه التعاطي مع العالم من حوله وهو فاقد لانسجامه الداخلي وفاقد لتصالحه مع ذاته. وبما أن كل كائن حي لا يمكنه العيش دون هذه المصالحة ودون ذلك الانسجام الذاتي، فإن الأديب الموظف يلجأ إلى الزيف والانتهازية فيما يكتب ليخلق الانسجام مع الذات الزائفة والانتهازية التي اختارها وخلقها فيُلقي ذلك بظلاله ليس على إنتاجه فقط بل على نهج حياته اليومي أيضًا. فالموظف عند سلطة تحتل شعبه لا يمكنه أن يكون موظفًا أديبًا. يمكنه أن يكون أديبًا موظفًا، يتعلق مدى توظيفه بمدى تجاوبه مع رغبات السلطة. والتجاوب يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمدى حرصه على الوظيفة وبمدى رغبته في التقدم فيها على حساب مبادئه وانتمائه وهويته. هنالك تدرج في مدى تورط الأدباء الموظفين. تبدأ بالأديب الموظف الساكت على جرائم وأخطاء السلطة التي توظفه، وقد يكون مبدعًا في مجالات بعيدة عن أوجاع مجتمعه ومَن هم حوله، لكنه يظل يخدم السلطة بمجرد عمله لديها فو يبيض وجهها على الأقل. وتنتهي بالأديب الموظف الذي كرس قلمه وإبداعه جهارًا للذود عن السلطة وتبرير جرائمها. وفي رأيي هذا النوع المكشوف والمحروق أقل خطورة من النوع الأول، الساكت على الظلم، لأنه شيطان أخرس وإنتاجه قد يكون خطيرًا وقاتلًا كالسم الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة. في هذه الحالة تكون مهمة الباحث أو الناقد النزيه بالغة الصعوبة وتتطلب درجة عالية من المهنية.
أدبنا المحلي ليس من هذا النوع ولا من ذاك. أدبنا المحلي في السنوات الأخيرة بمعظمه أنتجه موظفون في مختلف الوزارات وقامت بإشهاره أحزابنا السياسية ومنتدياتها الثقافية. وتداوله بالبحث والترويج باحثون موظفون هم أيضًا. في رأيي المتواضع أدبنا المحلي ليس من النوعين المذكورين أعلاه لأن أدباؤنا استغلوا المساحة الديمقراطية المتاحة الممنوحة للمواطن ليتداولوا نفس الشعارات السياسية القانونية التي طرحها السياسيون في معاركهم الانتخابية. طرحوها بأسلوب أدبي لا أكثر ولا أقل. فعلوا ذلك ليضربوا عصفورين بحجر واحد: من ناحية ليحافظوا على وظائفهم ومن ناحية ثانية ليرضوا الجمهور الذي تعود على هذه الشعارات واستساغها. هذا النوع من الأدب (يمكن تسميته أدب الشعارات) خدم الأحزاب السياسية وتحول إلى أداة رخيصة لتسويقها مما افقده بعده التثقيفي وخلق هذا الخواء الثقافي الذي نعيشه. وهذا النوع من الأدب لا يشكل خطرًا على السلطة ولا يثيرها ضد منتجيه ويمكنها من الاحتفاظ بهم كأدباء موظفين.
يظل السؤال الصعب يلح: هل يمكن للموظف أن يكون أديبًا؟ كما هو السؤال: هل يمكن للأب أو للزوج أن يكون أديبًا؟. لا أدري. ما أدريه وأجزم فيه هو أن الحرية هي أكسجين الأديب. وكلما كانت الحرية مطلقة كلما حلق الأديب عاليًا في عالم الإبداع. الحرية هي أن يكون الإنسان حرًا بشعوره ومعنوياته حتى لو كان في القيود وداخل الزنازين. الزنزانة الخارجية لا تقتل حرية المبدع فكم من عمل فني راقي في عالمنا أنجز في السجون وداخل الزنازين. السجين يحافظ على انسجامه الذاتي، فيكون حرًا، لأنه لم يختر أن يكون سجينًا. لكن الموظف لا يمكن أن يكون منسجمًا مع ذاته، ولا أن يكون حرًا، لأنه هو من اختار الزنزانة الداخلية، التي تسببها الوظيفة، والتي تقتل الحرية وتشوه العمل الفني وتفقده قيمته.
ما أراه هنا وفي العالم من حولنا هو أن كثير من الأدباء، إن لم يكن معظمهم، هم أدباء موظفون. وأرى أن هنالك حاجة ماسة لدراسة إنتاجهم دراسة جادة من هذه الزاوية الهامة والمثيرة شرط ألا يكون الدارس أو الناقد موظفًا هو أيضًا.
 

مقالات متعلقة