الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 12:02

الرقصة الخالدة/ قصة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 21/11/19 12:23,  حُتلن: 13:39

اخيرا حدثت المعجزة واستجاب الله لدعوات ابناء الكاتب الكبير، قيمة وقدرا، خاصة ابنته البكر، وعادت زوجته المريضة الى وعيها بعد شهرين من الترقب والانتظار شبه القاتل، غير ان هذه المعجزة لم تأت كاملة، كما يحدث عادة، ونقصها امر بسيط جدا نغّص على الجميع حياتهم، فراحوا يتساءلون ما الحل، صعّب في سؤالهم.. انهم بعد ان عادت عزيزتهم من المستشفى، رافضة الانتقال الى مستشفى آخر بعيد عن بلدتهم، لإعادة تأهيلها، كي تعود الى ممارسة حياتها الشخصية العادية. علينا ابي ان نتقبل الامر.. امي باتت تجد صعوبة في البقاء وحيدة في البيت. وماذا علي ان افعل يا كبيرتي؟ انت وجدت الحل لكل ما واجهناه من مشاكل طوال ايام حياتنا، وانا متأكدة من انك لن تعدم الحل هذه المرة. قلتُ لكَ إن امي ترفض ان تبقى وحدها، ولا تطيق البقاء وحيدة.. لحظة واحدة. يكرر الاب سؤاله: وماذا علىّ ان افعل.. وانا مُبعد عن بيتي؟ ماذا علي ان افعل يا ابنتي؟ عد يا ابي.. اقضِ الليل في البيت.. معها فقط. نحن لا نستطيع ان نترك بيوتنا واشغالنا، على الاقل في الليل. من الثامنة مساء حتى الثامنة صباحا. في النهار نحن نقوم بالمهمة. بعينا الله. لكن هل وافقت امك على ما تقولينه؟ نعم يا ابي.. نعم.. ثم ان امي لم تعد تلك المرأة القاسية التي عرفناها.. الطبيب يقول انها عادت الطفلة الوديعة التي كانتها ذات يوم. طيب يا ابنتي.. طيب لن اخذلك.. سأقدم المطلوب مني.. ارجو ان تأتي العواقب سليمة.
عاد الاب، الزوج.. الكاتب الى بيته، يجر سنواته الستين جرا. استجابة لبكره التي لا تكبر. عاد ليقضي لياليه في غرفته وحيدا، وفي غرفة الاستقبال.. استلقت زوجته المريضة بانتظار الصباح، في منتصف الليلة الثالثة استمع الى زوجته تنادي عليه، فهرع اليها طائرا على جناح القلق والخوف. مالك. شو صار؟ انا خائفة جدا. وماذا علي ان أفعل؟ إفعل ما تراه مناسبا.. لا تتركني وحيدة.. لا تخافي.. لن اتركك.
مضت تلك الليلة قاسية صعبة ملأي بالترقب والانتظار. لتأتي الثامنة من صبيحة اليوم التالي. ولينصرف الى شأنه. في منتصف النهار تقريبا.. تتصل به ابنته البكر، ابي هل يمكنك ان تبكّر في العودة الى البيت.. انا لا استطيع ان ابقى اكثر الى جانب امي. سآتي يا ابنتي.. سآتي.. وعاد الى البيت. سأل زوجته المريضة.. ليلة امس.. عندما ايقظته داعية اياه، سألها.. ألا تحس بالأمان اثناء وجوده في البيت. ردت عليه عبر عينيها التائهتين، بلى.. بلى.. المهم ان يكون هنا من يشاركني تنسم الهواء. بعدها جاءت الرحمة المنشودة.. واستسلمت لسلطان الكرى..
في الايام التالية تفاقم شعور الزوجة العائدة من موتها.. بوحدتها.. عبثا حاول الزوج ملء فراغها بذل كل ما امكنه بذله من فعل. استدعى اليها كل من تعرفه وعزّ عليها.. فاستجابوا له، وتوافدوا واحدا تلو الآخر.. لكنهم ولّوا ايضا.. بعد انتهاء الزيارة واحدا تلو الآخر.. ليتركوا المشكلة.. وراءهم.
"ماذا بإمكاني ان افعل"، سأل نفسه وهو يرسل نظره التائه عبر نافذة بيته القابع في الظلام.. وبين الاشجار. ما ان اطلق هذا السؤال حتى جاءه صوتها.. صوت زوجته المريضة يشق قلبه.. أين انت؟ يهرع اليها على جناح من امل وحلم.. هاانذا هنا. اشعر بخوف رهيب.. ابق هنا.. بعد دقائق تغمض عينيها.. تسلمهما للنوم. يعود الى غرفته.. يجب ان افعل شيئا.. علي ان اوجد الحل. لا يمكن ان اعجز.. انا من فكر في حل مشاكل البشرية كلها.. لا يمكن ان استسلم للعجز. ينام مفتّح العينين. في غفلة من يقظته.. يذهب الى الماضي البعيد في محاولة للتعامل مع الحاضر القريب.. يتصور زوجته المريضة خلال سرحان غزالتها،، عندما كانت تملأ البيت رقصا وصخبا. تخطر في باله فكرة جهنمية، يشدُّ على يده مصممًا كما فعل ارخميدس ذات يوم موغل في القدم: يوريكا.
يقفز اليها في غرفة الاستقبال، يوقظها من نومتها. تفاجأ به. بعد الآن لن تشكي من الوحدة. تبتسم زوجته بنوع من التباله. يتوجه الى الخزانة القديمة.. يستخرج منها شال زوجته الاسود القديم. يربطه على خصره. يقف قبالتها، وسط غرفة الاستقبال. قبل ان تستفيق من دهشتها، يشرع في تقليد رقصتها القديمة.. سارحا مع غزالته. يمتلئ البيت حركة.. يهتز السكون اول مرة منذ فترة بعيدة. يفاجأ بزوجته تنهض متثاقلة من سرير المرض.. تشرع في الرقص معه.. يعود الاثنان شابين.. بالضبط كمات كانا قبل نحو الاربعين عاما... الحركة تملأ البيت..
بعد حوالي الساعة يهدُّ الاثنين التعب.. فيستسلمان للنوم. يغمض كل منهما عينيه على رقصة مشتهاة.. تدب الراحة في العينين والحياة. ها هو مُخلّص البشرية.. الكاتب الفلسطيني النحرير.. يكتشف السر.. في محاربة الوحدة والعزلة.. ها هو يفكر في أن يلجأ إلى الرقص المشترك كلما تطلب الامر والحت الوحدة. اخيرا وجد حجر الفلاسفة.
هذا الحجر يحل مشكلة الليل.. والى جانبه مشكلة النهار.. سأرقص يا ابنتي كلما استدعت الحاجة وتطلب الامر.. امك رقصت لنا كثيرًا.. ومن حقها ان نرقص لها.. مهما رقصنا لها لن نفيها ما قدمته لنا.. لكنها ضايقتك كثيرا يا ابي.. انسي هذا يا ابنتي.. كان ذلك في الماضي.. اما اليوم فقد اختلف الامر.. هل اقتنعت؟ تهز ابنته بكره رأسها علامة الموافقة.
بعد ايام يعصف الشعور بالوحدة بالبيت.. يتوجه الاب.. الزوج.. الكاتب.. الى الخزانة القديمة يستخرج الشال الاسود القديم.. شال الرقص.. ويبدأ العرض.. الرقص يجتذب زوجته المريضة.. تقف على رجليها.. تقترب منه وتشرع في مشاركته الابتعاد عن الوحدة. يسمع الاثنان طرقا على الباب.. يتوجّه الزوج الى الباب يرى ابنته بكره هناك.. يفتح الباب.. ادخلي يا ابنتي.. ادخلي.. ويشرع في الرقصة المشتركة.. يدب الصخب في كل انحاء البيت.. تنضم الابنة البكر الى الرقصة.. يحل التعب بالجميع، فيتوجه كل منهم الى ناجية.. للنوم.. لقد تعبنا كثيرا وحان لنا ان نرتاح.
الرقص يُضحي هو الحل.. بعد أيام.. وقت الظهيرة.. يرفع اهل البيت الموسيقى.. ويشرعون في رقصتهم الخالدة.. يسمعون طرقًا على باب شقتهم.. يتوجه الأب إلى الباب.. يرى من ناظور الباب جارهم وجارتهم يفتح لهم.. ليدخلوا يا ابنتي.. ليدخلوا.. تعالي نواصل سيرنا في طريق الامل.. هيا يا ابي.. وتبدأ الرقصة.. تنتقل عدوى الرقص إلى الجارين.. فينضمان إلى الراقصين.. تنتهي الرقصة.. كلٌ يتوجه إلى ناحية.. ويستسلم إلى نوم عميق..
ـــــــــــــــــــــــــــ
*يوريكا: وجدتها.

مقالات متعلقة