الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 21:01

أعماق نصراوية

قصة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 15/11/19 21:46,  حُتلن: 13:03

الدكتور المحترم، 
ابتدأت قصتي عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، في الصف الثاني عشر الثانوي. كان ذلك عندما شاركت ابناء صفي في رحلة مدرسية طويلة نسبيا، يومين الى مدينة البشارة.. الناصرة. قمنا في اليوم الاول بالتجوال في المدينة وكان من المفترض ان تنتهي زيارتنا هذه مثلما تنتهي مثيلاتها من الرحلات، يمضي يوماها، ونعود الى بلدتنا سالمين غانمين، لولا تلك الحادثة التي قلبت حياتي راسا على عقب، وادخلت اليها تشويشا كثيرا.. اعتقد انه استوجب منذ سنوات طلب المساعدة النفسية.. هذا التشويش تواصل خلال اكثر من عشرين عاما. كما هو واضح.. انا اليوم في الثامنة والثلاثين.

كنا لحظة وقوع الحادثة، نشارف على انهاء رحلتنا، فراح كل منا نحن الطلاب المشاركين في الرحلة يشتري الهدايا لأهله ومحبيه، وكان ان سألنا خلال انطلاقنا العفوي في احد الشوارع، شابًا عابرَ طريق عن محل يبيع الاثريات، فارشدنا قائلا انه بإمكاننا ان نصل اليه خلال سيرنا في الشارع ذاته مباشرة، الا انه يوجد هناك شارع اخر اقرب اليه، لكنه عادة ما يكون خاليا من المارة، تشاورت مع مرافقتي عما اذا كانت تود ان نمضي في الشارع ذاته، وتوصلنا بعد نقاش قصير، الى انها تفضل المضي في الشارع الاقرب، على اعتبار انه شارع خلفي، واننا قد نرى فيه الناصرة القديمة.. بتاريخها الحضاري العريق، وزواياها غير المرئية، سرنا في الشارع الاقرب، وراحت كل منا، نحن الصديقتين، تحاول ان ترى الاعماق النصراوية عبر الحجارة والاسوار والورود المسترخية عليها بمحبة وحنو، الامر الذي فصل بيننا، وجعل كلا منا تنطلق في زقاق ضيق. بحثت عن صديقتي عبر ارسالي النظر في اتجاه آخر اعتقدت انها سارت فيه الا انني لم ارها، انتابتني حالة من القلق، فرفعت صوتي اناديها، وما ان عاد الصمت الهيب يهيمن على المكان، حتى شعرت بنفسي بين احضان شاب، يحاول النيل مني، عندما تبين لي ما انا فيه من خطر، قاومت بكل ما لدي من قوة، الا انه تمكن مني، وقبل ان ينال مأربه مني، شعرت بوقع اقدام تندفع من اول الشارع، وبيد من شفاعة وخلاص تمتد اليه وترفعه عني، لتقذف به بعيدا.. بعيدا.. في فضاء الزقاق وضبابه. خلال ثانية او اكثر رأيتني اقف وجها لوجه امام ذلك الشاب الذي ارشدنا، صديقتي وانا، الى حانوت الاثريات، وقبل ان اشكره توجه الى زقاق جانبي آخر، وعاد بسرعة وبرفقته صديقتي الضائعة، ارسل نظرة حافلة بالحنان نحونا، واشار لنا بيده ان نغذ السير، وهو ما قال لنا انه لم يتبق لنا حتى نصل الى حانوت الاثريات.. الا مسافة قصيرة، وما زلت اتذكر انه رافقنا بنظراته الحادبة الراعية حتى وصلنا الى الحانوت المقصود. بعدها اختفى اختفاء تاما، كأنما هو تداخل في احجار الاسوار او ورودها المتدلية عليها بحنو.

حاولت ان اعود الى الوراء، ان ابحث عنه لأشكره على شهامته تلك، الا انني لم اتمكن، وقد ندمت كل الندم لأنني لم اساله عن اسمه او عنوانه لأرسل اليه اشكره، او لأرد له بعضا من جميله علي وعلى صديقتي. كان ذلك الشاب وديع المحيا.. اكثر ما يلفت النظر فيه عيناه عميقتا الغور، وشعره المسترسل على كتفيه، كما كان ذا قوام متوسط، لا هو بالطويل ولا هو بالقصير، واعتقد انه كان يومها في مثل عمري اصغر مني بسنة او اكبر بسنة.
عندما روينا لمعلمنا المرافق، صديقتي وانا، ما حصل لنا وكيف ان ذلك الشاب خلصنا ، انا خاصة، من خطر محتم، عاد معلمنا معنا.. رغم ضيق الوقت المتبقي للرحلة، الى الشارع ذاته، وعبثا بحث عن ذلك الناصري الشهم.. فقد اختفى.. كما تختفي النسمة في عبق التاريخ.

انتهت رحلتنا تلك، وعدنا الى بلدتنا، لتلح علي صورة ذلك الشاب، فما ان انسى صورته او احاول ان اتناساها، حتى تعود لتلح علي مجددا، إما بعد ان ارى شابا يشبهه، او عندما يظهر لي طيف يشبهه في هذه السماء او ذلك المكان التاريخي العريق، ولا اعرف لماذا شعرت انني قد ارتبطت روحيا بذلك الشاب، علما انه لم يفه بأية كلمة ولم يدل بأية معلومة تقود اليه، وتعرف به، وقد بقيت صورته تلح علي مُدّة قاربت العشرة اعوام، واذكر انه كلما كان شاب يتقدم لطلب يدي وخطبتي، كنت اقارنه به، عبر اختبارات خاصة برعت في حبكها، فأجد الفارق الكبير بين الاثنين، لتأتي النتيجة في مصلحة ذاك الغائب في اعماق الناصرة.. ازقتها وضبابها المقدس، وهو ما يعني انني كنت ارفض الارتباط بمن تقدم الي من الشباب. خلال هذه الاعوام المقاربة للعشرة، جرت مياه كثيرة في نهر حياة بلدتنا وتزوجت معظم صديقاتي، بنين بيوتا وملأنها بالأبناء. وكان لا بد ان اجد حلًا لوضعي مع ذلك الشاب المقيم الساكن في اعماق اعماقي.

ذات يوم من ذات عام، حملت نفسي واستقللت الباص المنطلق من بلدتي الى الناصرة، وصلت في ساعات الضحى، وحرصت اول ما حرصت على ان ازور ذلك الشارع الخلفي، لعلي التقي بذلك الشاب، غير انني لم اعثر له على اثر، قضيت يوما كاملا هناك ابحث عنه وانقب.. غير انني لم افز بالعثور على بغيتي. اصابتني حالة من الهوس، عدت الى بلدتي توجهت الى بيت زميلتي، يوم الرحلة الى الناصرة، ومتاهتنا فيها، وطلبت منه ان تحضّر نفسها لنزور مدينة البشارة. في اليوم التالي استقللنا الباص.. وصلنا الى الناصرة وشرعنا بالتجوال في شوارعها، وكنت طوال الوقت انقب بعيني قلبي عن ذلك الشاب، حتى وقع نظري عليه في احدى الزوايا المعتمة من منطقة السوق- البلدة القديمة. اقتربت من صديقتي وهمست في اذنها عما اذا كانت ترى ما ارى؟ وعندما ارسلت نظرها الى حيث اسدد نظري، قالت لي من فورها.. انه هو. الا انها ما ان رأتني اتوجه نحوه حتى عادت تشدني الى الوراء.. لا اعتقد انه هو. بين هو وليس هو قضينا لحظات لفتت نظر الشاب الواقف في تلك الزاوية المعتمة، الامر الذي دفعه لأرسال ابتسامة شبيهة بابتسامة ذلك الناصري المخلّص. اقترب الشاب منا. وحصل التعارف. وبدون كثير شرح، تقاربت العيون وبعدها القلوب، وارتبط كل منا بالآخر. للحقيقة اقول انني اكتشفت في ليلة الدخلة ذاتها، انه ليس هو، لذا رفضت ان امكنه مني وحافظت على عذريتي لا اسلمه اياها. ومضى على هذا النحو عام، ولم يكن امامي من مفر سوى ان اطلب الطلاق، فكان لي ما اردت، رغم ان "زوجي" رفض في البداية، كونه كان متعلقا بي تعلقا شديدا، وانا لا اخفي عليك ان وجهى الاسمر البسام وجمالي في الشكل والقوام، قد اثرا عليه في الاصرار على البقاء معي تحت سقف واحد. رفض زوجي هذا انتهى بقبوله طلبي الطلاق منه، وكان ان دفعت الثمن مقابل مواصلتي حلمي في العثور على فتى الاحلام الغائب الحاضر، وهو التنازل عن كل حق لي عنده.

ومضت سنوات وسنوات، وانا اتردد على الناصرة، لعلي احقق حلمي في العثور على ذلك الشاب الشهم الاصيل، الا انني ما زلت ابحث، واعتقد انني الآن.. وانا اقارب الثامنة والثلاثين من عمري.. قد التقي به.. فقد رأيت امس، خلال زيارتي الدورية للناصرة، ظله يمر من نفس الشارع و.. يمضي في نفس الزقاق. 

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة