الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 19 / مارس 07:02

في ذكرى مجزرة كفر قاسم: العدالة المفقودة/ بقلم: إبراهيم عبدالله صرصور

ابراهيم صرصور
نُشر: 24/10/19 13:32,  حُتلن: 17:11

المشهد الأول
يفتح الستار لتظهر على خلفية المسرح صورة متخيَّلة لكفر قاسم في العام 1956.. قرية وادعة وهادئة.. فجأة يخرج صوت يردد:
"ألا هل أتاك حديثُ الملاحم..
وذبحُ الأناسيِّ ذبحَ البهائم ..
وقصةُ شعبٍ تسمى: حصادُ الجماجم ..
ومسرحُها ... قرية ٌ .. تُسمّى: كفر قاسم".. (من شعر توفيق زياد) :
كفر قاسم يا لوحة هنا مرسومه عالارض..
كانت بلحن الميجنا اتحرك غصون الورد..
حلوه وزغيره وتغني مع العصافير ..
والصبايا الواردات في كل صبح عالبير..
إيه يا كفر قاسم ... مثل العروس قاعده على تله فوق، وبتطل عالبساتين والبيارات والسهلة..
واهلها الطيبين عمال وفلاحين، لكن بعيونهم أسي النكبه..
كفر قاسم حلم السنابل بالقمح والزعتر والزيت..
وحكاية حب وامل في كل بيت...

المشهد الثاني
يظهر القاضي على منصة القضاء.. عن يمينه المدعي العام، وعن شماله محامي الدفاع..
القاضي: باسم الله نفتتح الجلسة.. تنعقد هذه الجلسة للمحكمة الشعبية الخاصة للكشف مرة وإلى الابد عن الحقيقة بشأن مجزرة كفر قاسم والتي تستمر حكومات إسرائيل في التنكر لها بعد مرور 63 عاما على مجزرة كفر قاسم..
لائحة الاتهام: على طاولة المحكمة الشعبية هذه لائحة اتهام تحمل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن ارتكاب مجزرة كفر قاسم بشكل متعمد ومع سبق الإصرار والترصد، ضاربة بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والشرائع الدينية والإنسانية.. كما تتهمها أيضا بالتنكر لمسؤوليتها القانونية والسياسية والأخلاقية عن المجزرة، واصرارها المستمر والمنهجي على اعتبار المجزرة حدثا موضعيا لا علاقة له بسياسة الحكومة..
حيثيات الاتهام: في مساء يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر تشرين اول/أكتوبر عام 1956، وعشية العدوان الثلاثي على مصر، ارتكبت إسرائيل مجزرة ضد مواطنين عزل آمنين في قرية كفر قاسم.. كانت مجزرة رهيبة ووحشية بكل ما تعني الكلمة من معنى.. تسعة واربعون شيخا وشابا ورجلا وامرأة وطفل.. أسماؤهم كثيرة لكن موتهم واحد.. كَمَنَ لهم جنود وحوش تربوا على الحقد وكراهية العرب، ودُرِّبوا على قتل المدنيين دون تمييز ما داموا عربا فلسطينيين.. "حصدهم" جنود إسرائيل عند وصولهم الى ساحة الإعدام دون ذنب او مبرر.. لم تكن مجرد مجزرة ارتكبها احفاد ضحايا النازية في الحرب العالمية الثانية.. كانت مجزرة مروعة حملت اجندة سياسية.. ارادت إسرائيل كما فعلت في مذبحة دير ياسين وغيرها، ان تبعث برسالة الى سكان فلسطين الشرعيين: لا مكان لكم هنا.. انها دولة اليهود فقط..
حاولوا تشريد من تبقى من شعبنا الفلسطيني داخل الخط الأخضر بعد نكبة فلسطين، وإلحاقهم بِمَنْ سبقهم من مئات آلاف اللاجئين.. أرادوا ذلك وخططوا له ودبروا، لكن الله أراد شيئا آخر.. أرادوا، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا، فما زالت فلسطين هي فلسطين، وما زال الشعب الفلسطيني هو الشعب الفلسطيني.. ما زلنا هنا، وسنبقى رغم الدماء والاشلاء والمعاناة.. هم "حصدوا" اجدادنا وآباءنا وامهاتنا بالأمس، لكنَّ نَبْتَ الشهداء والشهادة سيظل يعطي ثماره كل حين بأذن ربه الى يوم القيامة، شاء من شاء وأبى من أبى..
اعطي الان الكلمة للمدعي العام..
المدعي العام: سيدي القاضي.. اسمح لي أن أبدا من حيث تصريحات المجرم الضابط يسخار شدمي المسؤول المباشر عن المجزرة والذي مَثَّلَ مَنْ فوقه من القادة العسكريين والسياسيين في حينه.. تصريحاته التي نشرتها له جريدة هآرتس بتاريخ 11.10.2018، قال فيها: "كانت المحاكمة بشأن مجزرة كفر قاسم مجرد مسرحية، أراد منها بن غوريون إعفاء نفسه واعفاء حكومته من تحمل اية مسؤولية عن المجزرة الرهيبة من جهة، وإخفاء خطة التهجير السرية والمسماة (حفرفيرت) التي كانت تستهدف طرد العرب من إسرائيل في اتجاه الأردن، وانهاء الوجود العربي في إسرائيل من جهة أخرى، والظهور بمظهر (تحقيق العدالة) أمام الرأي العام الدولي من جهة ثالثة.."..
سيدي القاضي: ليس هذا فحسب، فما سمعته المحكمة الموقرة من المجرم يسخار شدمي جَسَّدَ السياسة العليا لحكومة بن غوريون في ذلك الوقت والحكومات التي جاءت بعدها.. من اجل تنفيذ هذه السياسة كان لا بد من إعداد جيل من الجنود لا يعرف الا قتل العرب والفلسطينيين، تربية جيل من ماكينات القتل لا أكثر ولا أقل.. تمثل مجموعة المجرمين الذين نفذوا مجزرة كفر قاسم نموذجا لجيشٍ وشرطةٍ قاتلة، إذ ان معظم الجنود الضالعين في هذه المجزرة لم يندموا على أفعالهم، وبرروا جرائمهم بالادعاء الجنائي بـ "طاعة الأوامر". كبير هؤلاء القتلة هو "شالوم عوفر"، أمر جنوده "بحصد" ضحاياه من الرجال والنساء والشيوخ والشباب والأطفال.. قال في مقابلة مع الصحفية داليا كاربل (صحيفة هعير - 10.10.86) بمناسبة الذكرى ال – 30 للمجزرة: "كنا مثل الألمان، أوقفوا الشاحنات، أخذوا الناس إلى الأسفل وأطلقوا النار عليهم. هكذا فعلنا نحن أيضا.. لا فرق.. نفذنا الأوامر تماما كما نفذها الجندي الألماني الذي أمره قادته بقتل اليهود"..
سيدي القاضي: قالت العرب: الاعتراف سيد الأدلة، وليس هنالك بعد اعتراف يسخار شدمي الضابط الأعلى رتبة التي تمت محاكمته صوريا في العام 1958 بسبب مجزرة كفر قاسم وصلته بها، واعترف المجرم شالوم عوفر، أقوى دليلا على إدانة إسرائيل وحكومة بن غوريون، وثبوت التهم الموجهة اليها في لائحة الاتهام، وعليه اطلب من حضرة المحكمة إيقاع أقسى العقوبات وأشدها في حق دولة إسرائيل وقياداتها السياسية والعسكرية المارقة والمتعدية ظلما وعدوانا على دماء الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة باعتبارهم اهل البلاد الأصليين، وأصحاب الحق الشرعي الازليين فيها وعليها الى الأبد..
سيدي القاضي: ما زالت اغلب محاضر جلسات المحكمة العسكرية التي انعقدت لمحاكمة الجنود المجرمين الذين ارتكبوا مجزرة كفر قاسم، سرية حتى يومنا هذا.. ما زالت كفر قاسم تنتظر قرار المحكمة العسكرية رغم مرور أكثر من عام على انتهاء المداولات في القضية المرفوعة في هذا الشأن، وذلك للكشف عن هذه المحاضر التي ستلقي الضوء بشكل أكثر تحديدا وتفصيلا لما ورد على لسان الشاهد/المتهم يسخار شدمي..
سيدي القاضي: سنقدم للمحكمة الموقرة ادلة جديدة وشهادات دامغة على وحشية الحكومات الإسرائيلية من خلال شهادة السيد علي سليم صرصور والذي كان ابن ستة أعوام وقت وقوع المجزرة، وهو أيضا ابن الشهيدة الحامل في شهرها التاسع السيدة فاطمة داود صرصور، وكذلك شهادة السيدة هناء سليمان عامر، الناجية الوحيدة من مجزرة النساء. شكرا سيدي القاضي في هذه المرحلة.
القاضي: اعطي الكلمة الان لمحامي الدفاع ان كان عنده ما يقوله امام هذه الأدلة الدامغة التي ساقها المدعي العام في القضية، واعترافات الضابطين يسخار شدمي وشالوم عوفر، التي تدين بشكل واضح حكومة بن غوريون في حينه، وهي أيضا شهادة ادانة لحكومات إسرائيل حتى الآن، والتي تصر على ان تسير على خطى بن غوريون من حيث التنكر لمسؤوليتها عن المجزرة ونتائجها، وتحويلها كما لو كانت "طوشة" بين فريقين انتهت ب "صلحة" حسب التقاليد والأعراف العربية، الأمر الذي تعتبره المحكمة جريمة فوق جريمة، وعارا فوق عار..
محامي الدفاع: شكرا سيدي القاضي.. أعلن امام المحكمة الموقرة عن عجزي الكامل عن الدفاع عن حكومة إسرائيل امام ما قدمه زميلي المدعي العام من أدلة دامغة وشهادات قاطعة خصوصا شهادة يسخار شدمي وشالوم عوفر.. لذلك أعلن انسحابي من مهمة الدفاع عن حكومة بن غوريون والحكومات التي جاءت بعدها الى اليوم، لافتقادي لما يمكن ان يكون اساسا لدفاع فعَّال في مواجهة الحقائق التي سمعناها..

المشهد الثالث
القاضي: إذا كان الامر كذلك، فاطلب من المدعي العام استدعاء شهوده للإدلاء بشهاداتهم امام المحكمة..
المدعي العام يطلب الشاهد علي سليم صرصور، الذي يقف على منصة الشهود..
القاضي: اسمك..
الشاهد: علي سليم صرصور
القاضي: هل تقسم ان تقول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق..
الشاهد: اقسم سيدي..
القاضي: تفضل، ادل بشهادتك..
علي سليم صرصور: انا ابن الشهيدة فاطمة داود صرصور ابنة الثلاثين ربيعا والتي قتلها جنود إسرائيل وهي حامل في شهرها الثامن.. كنت يومها ابن ست سنوات.. كنا ثلاثة إخوة واختان.. كنت في الصف الأول الابتدائي.. كان ابي مريضا، مما اضطر امي الى الخروج للعمل مع عدد كبير من نساء القرية خصوصا في موسم قطف الزيتون.. بسبب وضعنا المادي الصعب لم أستطع اقتناء الدفاتر والاقلام التي طلبتها المدرسة.. خجلت كثيرا وانا اتعرض لسؤال الأستاذ يوميا عن ذلك، فقررت الا اعود الى المدرسة الا بعد ان تشتري لي امي كل ما احتاجه من دفاتر واقلام.. صباح يوم الاثنين 29.10.1956 (يوم المجزرة) قررت امي الا تخرج الى العمل بسبب تراكم اعمال البيت وخصوصا الغسيل.. قررت ان تظل في البيت لتهتم باحتياجاته الكثيرة.. فجأة طرقت صاحبتها باب البيت، وألحت عليها الخروج معها الى العمل.. رفضت امي في البداية، لكنها خضعت في النهاية امام الحاح صاحبتها. قلت لأمي انني بحاجة الى دفتر، فوعدتني ان تعطيني ثمن الدفتر عندما تعود من العمل مساء ذلك اليوم.. جاء المساء، لكن امي لم تدخل من باب بيتنا الخشبي كما كانت تفعل يوميا.. لم نستقبلها في ذلك المساء بالقفز والفرح كما كنا نفعل كل يوم.. لم نستطع النوم تلك الليلة.. سألنا ابانا في لك الليلة عشرات المرات: اين امي؟ لماذا لم تعد حتى الآن؟ لم نجد جوابا عند والدنا! لم يعرف هو الجواب، لكن علامات القلق كانت واضحة على وجهه.. لم نفهم ما يجري خارج جدران منزلنا.. لم يعرف أحد من قريتنا ما كان يجري مِنْ احداث دامية راحت ضحيتها امي مع تسعة أربعين شهيدا وشهيدة أبرياء كبراءة امي الحبيبة.. بعد ثلاثة أيام جاء سمعنا بخبر الفاجعة... لم نتوقف عن البكاء لأيام.. لم نتوقف في الحقيقية عن البكاء حتى الآن، لكنه بكاء بلا دموع بعدما جفت مآقينا، لكنه بكاء أشد من الجمر.. مرت منذ ذلك المساء المر والحزين ثلاثة وستون عاما بدون امنا الحنونة.. أصبح عمري اليوم تسعة وستون عاما، وما زلت انتظر دفتر امي!
القاضي: شكرا، قصة هي قطعة من الجمر فعلا.. صبركم الله يا بني، ورحم امكم وعوضكم خيرا.. يمكنك مغادرة منصة الشهود مشكورا..
المدعي العام: أطلب استدعاء الشاهدة (هناء سليمان عامر.. تقف الشاهدة على منصة الشهود..
القاضي: اسمك سيدتي..
الشاهدة: هناء سليمان عامر
القاضي: هل تقسمين ان تقولي الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق..
الشاهدة: اقسم سيدي..
القاضي: تفضلي، ادل بشهادتك..
الشاهدة هناء سليمان عامر: كان الليل قد توغل كثيرا عندما وصلت الشاحنة التي كنا فيها مدخل القرية وموقع المجزرة، عائدين من العمل بعد يوم شاق في قطف الزيتون.. عرفت فيما بعد اننا كنا الموجة التاسعة من موجات المجزرة.. كنا أربع عشرة امرأة وشابة نركب صندوق الشاحنة الخلفي، بينما كان هنالك رجلان في كابينة الشاحنة.
حاول السائق (محمود محمد مصاروة من الطيبة/25 عاما) بعدما رأى الجثث المتناثرة – على ما يبدو – ان يستمر في قيادة السيارة ما دام ان أحدا لم يأمره بالتوقف.. قام الجنود بملاحقة الشاحنة بينما علا صراخ النساء بعدما رأين جثث الشهداء، وأطلقوا النار على عجلاتها وعلى خزان الوقود، فتوقفت عن الحركة..
الشهيدة صفاء صرصور (45 عاما) كانت رأت جثة ابنها جمعة (16 عاما) ملقاة على طرف الطريق، كانت تشاهد ابنها المرافق لها عبدالله (14 عاما) والرجال الاخرين وهم يُقتادون للوقوف في صف واحد ثم يقتلون رميا بالرصاص.. قَتَلَ المجرمون ولدها الثاني امام عينيها، فصرخت ورمت بنفسها عليه محتضنة فلذة كبدها، ولم تكن تعلم انها ستحلق به بعد دقائق قليلة..
بعد ان فرغ قتلة حرس الحدود من قتل الرجال، تفرغوا لنا نحن النساء.. كانت معنا الشهيدة (فاطمة داود صرصور) حامل في شهرها الثامن، ومن بينهن نساء كبيرات في السن واخريات صغيرات جدا.. طلب قائد مجموعة القتلة منا النزول من الشاحنة.. طلبت (خميسة عامر) وهي أكبر الموجودات سنا أن يسمح لنا بالرجوع الى البيت.. قال لها: لا تخافي، نحن لا نقتل النساء! بعد نزولهن أمر بإطلاق الرصاص علينا فورا..
كنت الناجية الوحيدة.. رأيت اخواتي وصديقاتي يمسكن ببعضهن وشكَّلن حلقة من اجل الاحتماء من الرصاص المنهمر عليهن من كل جانب.. قُتِلت النساء جميعا ونجوت انا فقط بسبب ان جثث الشهيدات وقعت علي، لأبقى الشاهدة الوحيدة على بشاعة المجزرة ومنفذيها المجرمين.. استمر الجنود بإطلاق النار على رؤوسنا للتأكد من قتلنا.. لم استفق من الغيبوبة الا صباحا حينما سحبني أحد الجنود محاولا رميي مع صويحباتي في شاحنة جاءوا بها لنقل جثث الشهداء والشهيدات.. شعرت بوجع في يدي عندما سحبني بقوة... صرخت، فانتبه الي، وامر بنقلي الى المستشفى لتلقي العلاج.. ما زلت لا أنسي ذلك اليوم، ولا يمكن ان انساه الى الابد.. اللهم انتقم لنا من المجرمين..
القاضي: شكرا لك سيدتي على شهادتك الدامية والحزينة.. مكوني واثقة ان الله العدل لا بد ان ينتقم لكل الشهداء من القتلة والمجرمين ومن وقف وراءهم وحماهم..
هل يريد الادعاء العام او محامي الدفاع استجواب الشهود؟
المدعي العام: شهادات الشهود أبلغ من كل كلام.. يحق لكل العالم ان يقف اجلالا لهما ولغيرهما من الشهود الذين لو اتسع وقت المحكمة لسماع شهاداتهم لاحتاج ذلك الى أيام طويلة..
محامي الدفاع: اخجل ان أكون إسرائيليا! دولتي ارتكبت جريمة حرب لم يكن لها أي مبرر ابدا، ولا بد من فتح ملفها من جديد!

المشهد الرابع
صوت يرتفع يصف مشهد دفن الشهداء وهو يقول:
بحثَ المجرمون عن وسيلةٍ لدفن ضحايا الجريمةِ البشعة.... حاولوا إخفاءَ معالمِها المؤلِمة، إذ أحضروا وتحت تهديدِ السلاح مجموعة َشبانٍ فلسطينيين مِن قريةِ مجاورة تسمى (جلجولية) إلى مقبرةِ (كفر قاسم)، وأمروهم بحفرِ تسعةٍ وأربعينَ قبراً.. لم يعرفوا شيئاً عن الجريمة ومجرياتها.. كان عليهم أن يحفروا وكفى...! جاءت شاحنة ٌتحملُ جثثَ الشهداءِ المكدسةِ فوق بعضها البعض.. ألقوا بها أمامَ عيونهم.. كانت الفاجعة ُ أكبر من توقعاتهم.. لم يقوى الرجال من (جلجولية) على تحمّلِ المنظر.. حاولوا السيطرة َعلى حزنهِم ومشاعرهِم، بينما فقدوا السيطرةَ على دموعهِم، فانهالت بين السنابلِ خلسة ً تعانقُ دماءَ أصحابِهم وجيرانِهم. احضروا كبار القرية ليتعرفوا على القتلى الأبرياء..
هنا ينامون.. أسماؤهم كثيرة، وموتُهم واحد. كانوا متعبينَ وكان الغروبُ صغيراً، فسقطوا بسهولةٍ ولم يقولوا شيئاً لأن الموعدَ كان مفاجئاً.. رحَماتُ ربي تتنزلُ عليهم..
لم يُسمحْ لأسر الشهداءِ بإلقاء نظرة ِالوداع ِ الاخيرةِ على أعزاءهم ... كما لم يُسمح لسكانِ القريةِ بزيارةِ المقبرةِ إلا بعد ثلاثة أيام.. انفجرت بعدها (كفر قاسم) تبكي الشهداء، وتشكو إلى الله ظلم الظالمين.

المشهد الخامس
قرار المحكمة...
القاضي: من الواضح ان القضية المرفوعة امام المحكمة من أهالي كفر قاسم ومعهم عدد كبير من احرار العالم، ليست كأية قضية عادية.. انها جريمة حرب ارتكبتها دولة إسرائيل في حق مواطني عزل من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، من سكان قرية وادعة وهادئة اسمها كفر قاسم، قتلهم جنود إسرائيليون بدم بارد وسادية دموية، تذكر بجرائم شبيهة في الحرب إعلامية الثانية..
لم تكن مجرد جريمة عادية.. كانت جريمة حملت مشروعا سياسيا.. كانت جريمة مبيته ومع سبق الإصرار والترصد..
اما عن دموية المجزرة فليس ادل على ذلك من الشهادات التي سمعتها المحكمة من المجرمين والضحايا على حد سواء، والتي تشير كلها الى بشاعة الجريمة التي ترقى الى مستوى جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وجريمة إبادة شعب..
قال شيدمي في شهادته، أن المحكمة التي انعقدت لمحاكمة مرتكبي المجزرة، كانت "محاكمة صورية"، غايتها إزالة المسؤولية عن المجزرة عن القيادة الأمنية والسياسية العليا في حينه، وبينهم رئيس الحكومة، دافيد بن غوريون، ورئيس أركان الجيش، موشيه ديان، وقائد المنطقة الوسطى ورئيس الأركان لاحقا، تسفي تسور، الملقب بـ"تشارا". وأضاف شيدمي أن الهدف من المحكمة استعراض مشهد كاذب حول تحقيق العدالة أمام المجتمع الدولي، وإزالة الموضوع عن الأجندة العامة، ومحاولة لإخفاء "عملية الخُلْد/حفرفيرت"، وهي عبارة عن خطة سرية لطرد العرب في منطقة المثلث إلى الأردن، والتي أشار اليها الكثير من مجرمي المجزرة في شهاداتهم امام المحكمة.
المحكمة تأخذ بعين الاعتبار ان كل الشخصيات ذات الصلة بالمجزرة تقريبا قد ماتوا، الا انها ترى ان اصدار الاحكام عليهم حتى بعد موتهم له اعتباره القانوني، ويلزم حكومات إسرائيل بما يترتب على هذه الاحكام من استحقاقات لا تسقط بالتقادم ولا بموت مرتكبيها..
لا تتردد المحكمة أيضا في عقد المقارنة بين ما ارتكبته النازية من جرائم في حق اليهود من حيث النتائج التي ترتبت عليها وخصوصا الاتفاق بين حكومة بن غوريون في خمسينات القرن الماضي والحكومة الألمانية بشأن التعويضات التي ما زالت إسرائيل كدولة، والضحايا كضحايا يتلقونها حتى يومنا هذا..
لذلك، وبعد النظر في الأدلة والبيانات والاحراز ذات العلاقة بملف المجزرة، وبعد الاستماع الى شهادات الشهود، فقد حكمت المحكمة على حكومة بن غوريون والحكومات التي تلتها حتى يومنا هذا غيابيا ما يلي:
أولا، ادانة إسرائيل حكومة وجيشا بارتكاب المجزرة وليس فقط جنودها الذين نفذوها بدم بارد في ذلك اليوم الحزين الاثنين 29 تشرين اول/أكتوبر 1956، والحكم عليهم بالإعدام..
ثانيا، إلزام حكومات إسرائيل السابقة، والحكومة الحالية على اعتبارها الوريثة الشرعية لمن قبلها، بالاعتراف القانوني والسياسي والأخلاقي الكامل عن المجزرة مع ما يترتب على ذلك من استحقاقات مادية وسياسية ومعنوية.
ثالثا، تدفع حكومة إسرائيل لكل عائلة شهيد مبلغ ثلاثين مليون دولار تعويضا عن جريمتها في حق الاسرة، وتدفع مبلغ عشرة ملايين دولار لكل جريح وناجي من محرقة المجزرة.. كما وتلزم المحكمة الدولة بدفع راتب شهري لكل أبناء الشهداء والجرحى واحفادهم وذويهم وبشكل دائم لا ينقطع، بمبلغ عشرة الاف دولار شهريا تعويضا لهم عن بعض من يعانونه بسبب فقدان اب الاسرة الشهيد..
رابعا، إعادة كل الأراضي المصادرة من سكان كفر قاسم، وإلغاء كل القرارات الصادرة بحقها بشكل كامل ونهائي..
خامسا، توسيع منطقة نفوذ كفر قاسم عشرة اضعاف المساحة الحالية، لتشمل فيما ستشمله المنطقة الصناعية بارك افيك وغيرها.
سادسا، مضاعفة ميزانية بلدية كفر قاسم العادية والتطويرية عشرة اضعاف الميزانية الحالية، وذلك من اجل تمكينها من تنفيذ مشروعات طموحة وتقديم خدمات تليق ببلد وقعت ضحية لدولة إسرائيل..
سابعا، على حكومة اسرائيل شمل موضوع مجزرة كفر قاسم في مناهج التعليم الرسمية في كل المدارس اليهودية والعربية، واحياء ذكراها سنويا في موعدها في كل المدارس في إسرائيل..
ثامنا، تؤكد المحكمة ان كل ما ورد في هذا القرار لن يعوض اهل كفر قاسم ولا اسر الضحايا عن قطرة دم واحدة نزفت في ذلك المساء، ولن يغير القرار موقف اهل كفر قاسم وكل العرب والفلسطينيين واحرار العالم، ويستمرون في ترديد انشودتهم: لن ننسى.. ان نغفر.. لن نسامح.. لن نصالح.. إنما جاء القرار للتأكيد على جريمة حرب بهذا الحجم لا يمكن الا ان يلاقي مرتكبوها جزاءهم، ولا بد من ان تدفع دولتهم الثمن الذي سيظل منقوصا مهما ارتفع..

المشهد السادس
صوت أحد الحضور في القاعة..
المواطن: حضرة القاضي، إسرائيل ذبحتنا في نكبة فلسطين 1948، وذبحتنا في كفر قاسم عام 1956، وذبحتنا في يوم الأرض 1976، وذبحتنا في يوم هبة القدس والاقصى عام 2000، وذبحتنا قبلها وبعهدها، وما زالت.. هذه حقيقة، وخصمنا فيها واضح مكشوف الوجه، أما من نصيحة تقدمها لنا تحمينا أيضا من نار العنف والجريمة المستشري والذي "حصد" منا نحوا من 1400 شاب وفتاة منذ العام 2000 وحتى الان؟
القاضي: شعب يحترم نفسه، ويعي واقعه، ويسعى لأن يكون له مكان تحت الشمس، لا بد ان يعمل جاهدا لتشييد قلاعه السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية، وتعزيز بنيانه الاجتماعي والأخلاقي والقيمي.. لا يمكن لمجتمعنا ان يحقق ذلك ما لم يحقق نصرا مؤزرا على مل اشكال العنف والجريمة فيه..
هذا ممكن جدا إن تضافرت جهود الأغلبية الساحقة فينا من الخيرين والمسالمين الذين لا يعرفون العنف ولا يعرفهم العنف.. لا يمكن للعقلاء فينا أن يسمحوا ل - 1% من أبنائه ان يحولوا حياة 99% الى جحيم.. هذا ليس عدلا، ولا معقولا..
وظيفتنا ان نطفئ النارين المهدِّدَتين لحاضرنا ومستقبلنا.. النار الاولى، هي نار الدولة التي تمارس ضدنا كل أنواع العنصرية وذلك من خلال وحدتنا الدينية والوطنية، ومشاركتنا الفاعلة في الحياة السياسية والعلمية والاقتصادية وغيرها.. اما النار الثانية، فنار العنف التي باتت تهدد كل إنجازات شعبنا ومقدراته ووجوده.. لن نطفي هذه النار الا بتكاتف الجميع واخذ كلٍّ دوره في الإطار الجماعي للجم العنف والجريمة..
ستبقى إسرائيل من وراء هاتين النارين، وهذا ما يجب ان نتنبه اليه دائما..

المشهد السابع
تخلو المنصة من الحضور لتظهر صورة تبشر بمستقبل واعد.. يصدح الراوي بصوته الهادر يقول: أرادوا ان تصبحَ المجزرة َ شيئا ًمِن النسيان. (كفر قاسم) أمانة ٌ نتوارثـُها جيلاً بعد جيلٍ سنرسُمُها على دفاتِرهِم أملا ً بفجر ٍ قريب.. كما أن (كفر قاسم) لن تنسى وصية َ الشهداء، فإنها أيضا لن تنسى الشبابَ الذين تحدوا عجرفة َ وإجرام َ الحكم ِ العسكري، وقدموا التضحيات وما زالوا، حتى تظلَّ الذكرى راسخة ً رسوخ َ الدهر.. فلا غفرانَ ولا نسيانَ ولا تفريط َ بحقوقِ الأرضِ والإنسان.
"ومن جيل لجيل..
املأ الدنيا هتافا لا يساوم:
كفر قاسم... كفر قاسم.. كفر قاسم...
دمك المهدور ما زال، وما زلنا نقاوم...!"... (مِن شعر سميح القاسم)

 كاتب المقال- ابراهيم صرصور: الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة