الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 09:01

عندما التقى الأسود مع النّسور- بين درويش ودرويش/ بقلم: يعقوب ابراهيم

يعقوب ابراهيم
نُشر: 27/09/19 15:55,  حُتلن: 22:12

"عندما التقى الأسود مع النّسور - بين درويش ودرويش" (يعقوب ابراهيم)

"عندما التقى الأسود مع النّسور - بين درويش ودرويش"، لا يمكنك تجاهلها ..
‎فتلك العبارة التي تزيّن الملعب البيتي الصّغير "الوازيس" في الدّار البيضاء والتّابع لفريق الرّجاء البيضاوي، تكشف المحبة التي لا يمكن تفسيرها بالكلمات. محبة الشّعب المغربي لفلسطين والقدس. "قف على ناصية الحلم وقاتل" - تلك الكلمات التي خطّها الشّاعر محمود درويش، أقرؤها من على جدران الملعب وأنا أرى أمامي تدريب فريق هلال القدس، استعدادًا للمباراة التّاريخية التي تجمع الفريقين ضمن بطولة كأس محمد السّادس للأندية الأبطال. أرى درويشًا آخرَ، فلسطينيًّا ساعيًّا مع زملائه اللّاعبين لترجمة الكلمات الى حقيقة. يقاتلون جريًّا خلف الكرة من أجل هذا الحلم. إنه محمد ابن الفريديس، كابتن الفريق الهلالي.


 

‎كلّ من يتابع كرة القدم، وحتى من لا يتابعها، يدرك المحبة التي يكنّها الرجاء البيضاوي المغربي لفلسطين والقدس ومكانتهما عنده، يعرف أن العلم الفلسطيني يرفرف في كل المباريات على اختلاف هوية الفريق الخصم. كيف لا وأكثر من سبعين ألف مشجع يهتفون ويغنون بصوت الرجل الواحد، صوت الشعوب المقهورة: "وان شاء الله بالقدس الفرحة تدوم".

‎لربما هذا الجمهور المغربي المتميّز هو السّبب الذي دفعني لحزم حقيبتي والسّفر الى كازابلانكا. لأرى سرّ محبتهم واخلاصهم، محاولاً أن اكتشف السّبب.

‎الضّابط المغربي في مطار محمد الخامس الدّولي في الدّار البيضاء طلب جواز السّفر. "اموركم زوينة؟" سأل باهتمام كبير، مدركًا للهوية المرّكبة التي كانت داخل أمتعتي والتّناقضات الكثيرة التي أمامه؛ مسافرٌ مع كوفية فلسطينية وجواز اسرائيلي!

‎ولكن سرعان ما تحوّل الحديث الى موضوع المباراة. "اراكم هناك، في الملعب".

‎الكرة كانت حديث الساعة؛ مع موظف الفندق والسائقين والبائعين او حتى المارة في الشارع. وفور معرفتهم بفلسطينيتي يبدأ الترحيب الرهيب. غير المفهوم ضمنًا على الإطلاق.

‎بعث لي رسالة لأنزل الى مدخل الفندق. لم نتقابل سابقاً. تواصلت معه من خلال الفيسبوك قبل السفر مستفسرًا عن التذاكر واماكن شرائها. كان من رابطة الفريق وأصرّ بلهجته المغربية الصعبة ان يحضر لي التذاكر بنفسه وان يدعوني الى بيته ويرتب لي جولة سياحية في المدينة. عرفني مباشرة، عانقني وشّم الكوفية بلهفة وألم كبيرين، بينما أصابتني القشعريرة عاجزًا عن قول أي شيء. أعطاني التذاكر هدية وسألني عن العديد من الأمور. عن تفاصيل كثيرة للاعبين المقدسيين، أسود العاصمة، نحن ربما لا نعرفها. رغم صغر سنه الذي لم يتجاوز الثلاثين ربيعًا كان يعرف أدق التفاصيل عن فلسطين، عن الجغرافيا والتاريخ ناهيكم عن الرياضة. صدمني عبد الاحد بكرمه ومحبته رغم بساطته، ومع هذا لم اعرف بعد سر هذه المحبة.. "لا يوجد اي سر" أجاب عندما سألته، "انها فلسطين، انها القدس". أضاف

استوقفتني تلك البسطة الكبيرة امام مكتبة كليلة ودمنة. عشرات الكتب على الأرض تنتظر من يقتنيها. من ينقذها من غبرة المارة. "الشّاي المغربي لا يعوّض" قال لي البائع. جلست جانبه وتحدثنا وعيني على ذلك الكتاب مع صورة الطّفل المرسومة على الغلاف مع العنوان: أروع ما كتب محمود درويش. "انه حنظلة. عندما اجتمع خيال ناجي مع أنامل العلي" قال. صدمني. ولم اشتري الكتاب. حديثنا الرائع أنساني ان أرد له الجميل وانا اشتري اي كتاب. احتسينا الشاي وغادرت.

يومًا قبل المباراة كنت هناك، في ملعب محمد الخامس الدولي لاشاهد تدريب الفريق الهلال. فرحتهم كانت كبيرة ولكن قلقلهم كان أكبر. ليس بسبب النسور الخصم فقط، انما بسبب ذلك الجمهور، هل سيمتلىء الملعب بالفعل؟ وكيف يمكن أن تعدل بين محبة فلسطين وبين الإخلاص للاعبيهم?

صباح المباراة، قرأت الصحف المحلية ورأيت الاعلاميين المحليين في كل مكان. أتوا من كل مدينة لتغطية الحدث التاريخي. يتابعون كل خطوة وحركة ويسألون عن كل شيء. وبهدوءه المقدسي أجاب لهم مدرب الفريق الكابتن أمجد طه بأن هذه المحبة والعطف يبكيان الرجال. الكل يشعر ان المباراة باتت امر هامشي. ليس مهم من سيفوز. الكل فائز.

الساعة السادسة مساءً ذهبت الى الملعب. الشوارع مكتظة جدًّا والشّرطة أغلقت العديد من الشّوارع. أرى المشجعين والمشجعات يتدفقون من كلّ مكان، قمصانهم خضراء وحطتهم فلسطينية وأعلام فلسطين في كل مكان. البوابة رقم اربعة هي للجمهور الفلسطيني. قال لي رجل الأمن. ولستم بحاجة الى تذاكر. "هدية من الشعب المغربي". فرحت ولكنني تذكرت عبد الاحد المسكين. فربما كان هو أولى بالمئة درهماً ثمن تذكرتي وتذكرة صديقي.

اشاهد عشرات الاف المشجعين يهتفون عاليًا للقدس. ومع بداية المبارة توجهت الانظار الى ذلك المنظر الرهيب. تحول منظر الناس الى صورة ذلك الفتى الصغير. تيفو (شادر) كبير مع صورة حنظلة. أعين عشرات المقدسيين الذين وصلوا المغرب لتشجيع الفريق لم تفارق هذا المنظر حتى اننا نسينا او تناسينا صافرة الحكم وانطلاق المباراة.

لا يمكن وصف الاجواء بالكلمات ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة التي اسمها مشجعي الرجاء. يشجعون كل من يمسك الكرة. ليساً مهم لون قميصه. وفي تلك اللحظة عندما غنوا "رجاوي فلسطيني" شعرنا ان الملعب سينهار من قوة الصوت.

مرت تسعون دقيقة بلمحة بصر. لم نرغب المغادرة. رأيت على الشاشة الكبيرة ان النتيجة كانت هدفاًا واحدًا مقابل لا شيء. الفريق المستضيف هو الفائز، ولكن اللاعبين الهلاليين قالوا ان الفوز الحقيقي لهم. فوز بمحبة لم يشاهدوا مثلها.

انتظرت صديقي محمد درويش كابتن الفريق لينتهي من تلك المقابلة التلفزيونية. تحدث عن اجواء المباراة وعن تلك المحبة.. وانهى حديثه بعبارة لدرويش الاخر: "سنكون يوماً ما نريد".

بين درويش ودرويش غادرت المغرب عائداً الى البلاد وفي حقيبتي اغر اضي فقط ولم أجد هناك سر هذه المحبة. 

مقالات متعلقة

Got