الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 05:02

عندما تتحوّل المدرسة من مصدر لإكساب المعرفة إلى مركز لتطوير الإنسان- بقلم: د. آثار حاج يحيى

د. آثار حاج
نُشر: 02/09/19 00:36,  حُتلن: 08:11

لا شكّ في أنّ التّعليم الجوهريّ الحقيقيّ يُعتبر من أهمّ السّبل الّتي تقودنا إلى الرّقيّ الحضاريّ وتخطّي العقبات والآفات الّتي يواجهها مجتمعنا، لا سيّما ظاهرة العنف. ففي التّعليم الحقيقيّ، لا الخارجيّ المصطنع، يزداد وعينا الفرديّ والجماعيّ، وتتعمّق نظرتنا إلى الأمور المحيطة بنا، ونسمو، في التّالي، بإنسانيّتنا وقيمنا الأخلاقيّة.


وأعني بالتّعليم الجوهريّ ذلك التّعليم الّذي ينمّي لدى الطّالب مهارات حياتيّة وتعليميّة مختلفة، يحتاجها لمواجهة الحياة الخارجيّة وتحدّياتها، فالعالم المحيط بالطّالب لا يقتصر على النّظام المدرسيّ، بل يتضّمن أطر أخرى تستوجب التّزوّد بالمهارات المناسبة للتّأقلم والتّكيّف معها، وتخطّي الصّعوبات الّتي تفرضها بقوّة وشجاعة.

وبإمكاننا تقسيم هذه المهارات إلى مجموعتين أساسيّتين: أوّلهما المهارات التّعليميّة-التّعلّميّة الّتي تمكّن الطّالب من التوصّل إلى المعرفة بشكل مستقلّ، تطبيقًا للمقولة "بدلًا من أن تعطيني سمكة علّمني كيف أصطاد"، ويتضمّن ذلك مهارات البحث عن المعرفة، واستقائها من مصادر المعلومات المختلفة المتاحة للطّالب، كما ويتضمّن مهارات التّفكير العليا الّتي تمكّن الطّالب من فهم المادّة وتحليلها واتّخاذ موقف نقديّ تجاهها، هذا بالإضافة إلى المهارات التّكنولوجيّة ومهارات التّفكير الإبداعيّ الّتي تمكّن الطّالب من طرح حلول مختلفة ومتعدّدة وغير مألوفة لمواجهة المشاكل.

أمّا المجموعة الثّانية فهي المهارات الحياتيّة الاجتماعيّة والشّخصيّة، والّتي تتمثّل بالقدرة على التّواصل مع الآخرين، شفهيًّا و/أو كتابيًّا، والتّأثير بهم تأثيرًا إيجابيًّا، والانفتاح على الثّقافة الالكترونيّة والإعلاميّة، وتسخيرهما في سبيل التّسويق الذّاتيّ وإحداث التّغيير المجتمعيّ. وتتضّمن هذه المجموعة، أيضًا، تعلّم اللّغات، ابتداءً من لغة الأمّ، باعتبارها مفتاح العلوم، ثمّ اللّغة الانجليزيّة باعتبارها لغة العولمة. ونضيف إلى ما ذُكر مهارات القيادة الّتي تستندّ إلى ميزات شخصيّة كقوّة الشّخصيّة والثّقة بالنّفس والمرونة والإدارة والقدرة على التّخطيط والتّنظيم.

من هنا، على المنظومة التّعليميّة أن تتلاءم مع هذه المهارات الضّروريّة لمواجهة تحدّيات القرن الواحد والعشرين، وذلك من خلال حتلنة مناهجها التّعليميّة، واتّباع طرائق واستراتيجيّات تدريس حديثة، تعزّز أسس ومبادئ التّعلّم والتّربية الحديثة، ومن أهمّ هذه الأسس مشاركة الطّالب في التّوصّل إلى المعارف، إضفاء متعة تعليميّة على البيئة الصّفّيّة، الرّبط بين الموادّ التّعليميّة والواقع المعيش، مراعاة الفروقات الفرديّة وميول الطّلّاب واهتماماتهم المختلفة. وتجدر بنا الإشارة هنا إلى التّجربة التّعليميّة-التّعلّميّة في دولة فنلندا، والّتي تصدّرت قائمة أفضل الأنظمة التّعليميّة في العالم، على الرّغم من أنّ عدد السّاعات التّعليميّة الأسبوعيّة هي الأقلّ عالميًّا. وفي محاولة للكشف عن سرّ نجاح منظومة التّعليم الفنلنديّة وجدوا أنّ كلمة المفتاح كانت "السّعادة"، إذ يشعر الطّالب في هذه المنظومة بأريحيّة تامّة وبسعادة كبيرة، ممّا يحفّزه على اكتساب المعرفة ويزيد من دافعيّته للتّعلّم، فنجده يجري تجارب، يطهو، يرسم، يلعب، يعزف ويقوم بنشاطات فنّيّة إبداعيّة لاكتساب المعرفة، وهو ينأى بذلك عن أنظمة التّعليم-التّعلّم التّقليديّة الرّوتينيّة المملّة الّتي لا تثير سعادته ولا حتّى اهتماماته وفضوله، فيضيق بصرامة أنظمتها وتقليديّتها.

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أهميّة دور الأسرة في تبنّي هذه الرّؤيا التّربويّة، والّتي تنعكس بمقولة منسوبة لعليّ بن أبي طالب: "لا تؤدّبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم". وتشير هذه المقولة العميقة إلى الفجوة الحاصلة بين جيل الآباء وجيل الأبناء جرّاء تغيّر البيئة الزّمانيّة والمكانيّة الّتي نشأ فيها كلّ منهما، وضرورة مراعاة هذه التّغيّرات في التّربية. ولتجسير هذه الفجوة الّتي تتزايد مؤخّرًا في ظلّ الضّغوطات الماديّة والاجتماعيّة التّي يعيشها الأهل، واختلاف مجال اهتماماتهم عن اهتمامات الجيل الصّاعد المهووس بالعالم التّكنولوجيّ؛ على الأهل الاهتمام بعقد جلسات أسريّة تشكّل طقوسًا ثابتة يشارك فيها كلّ أفراد الأسرة، يتحاورون من خلالها، ويتبادلون أطراف الحديث حول ما مرّ به الأهل أو الأبناء من صعوبات ومشاكل ونجاحات وإنجازات، وبذلك تخلق البيئة الأسريّة لغةً مشتركة بين الآباء والأبناء، وتزوّد كلّ منهما بشحنات عاطفيّة كبيرة يحتاجونها أكثر من حاجتهم إلى المادّيات. ومن الضّروريّ، أيضًا، أن يعزّز الوالدان مواطن القوّة عند أبنائهم، وأن ينمّوا هواياتهم، فالهواية هُويّة تميّز الفرد عن محيطه، وتكسبه قيم الصّبر والمثابرة، وتقوده إلى الشّعور بالإنجاز والاكتفاء والتّقدير الذّاتيّ.
ختامًا نتمنّى لجميع الطّلّاب والمعلّمين والعاملين في السّلك التّعليميّ عامًا دراسيًّا ممتعًا ومثمرًا ومكلّلًا بالإنجازات والنّجاحات، وتذكّرّوا، طلّابي الأعزّاء، بأنّ المدرسة ليست سجنًا بل بوّابة تجتازونها لتنفتحوا على المستقبل. ورغم أنّ الأيّام المدرسيّة تلزمنا بنظام ما، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّه ليس بإمكاننا ممارسة هواياتنا والاستمتاع بأوقاتنا برفقة الأصدقاء والأقارب خلال الفصل الدّراسيّ، إذ أنّ هنالك مفتاح صغير يحقّق لنا هذا التّوازن، ألا وهو النّظام، أي إدارة الوقت وترتيب سلّم أولويّاتنا من الأهمّ إلى الأقلّ أهميّة.
 

* الكاتبة: محاضرة في المعهد الأكاديميّ العربيّ للتّربية- بيت بيرل
مركّزة أساسيّات اللّغة العربيّة
باحثة في مجال الأدب العربيّ الحديث وتدريس اللّغة العربيّة

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة