الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 13:01

صاحب العريضة/ بقلم: وحيد عياشي

وحيد عياشي
نُشر: 01/09/19 15:47,  حُتلن: 21:25

صاحب العريضة، كان يظهر لي من بعيد،وهو يقود دراجته الهوائية المستحدثة الصنع من هياكل الحديد الصدئة وبقايا الدواليب المتاّكلة ، كأنه الناصر صلاح الدين يعلو صهوة حصانه العربي ألأصيل فيعدو به الى البعيد ووجهه ممتدا في الهواء الطلق كالارض المنبسطة وشعره البني الطويل مشدود الى الوراء كخيمة مثبتة في العراء اما وجنتاه فكانتا على موعد مع الشفق الاحمر ساعة حلول الاصيل.
ان ابن عمي هذا معهود له بين اجياله بالبلاهة الجميلة ومعروف بين أهل الحي بالسذاجة الحلوة المقبولة ومشهود له بين اخوانه واقربائه بطيابة القلب الوافرة الكثيرة ،ولا أدل عليه اكثر من لمعان وبريق اسنانه البيضاء عند خروجهما من مقدمة وجهه الرفيع المدقق في كل مرة يقود احد تلك الدراجات الخاصة به والمسجلة على اسمه وأيضا المبعوثة حية من بعد سباتها ردحا من الزمن في مكب النفايات حيث تعمل الصدفة عملها في تلاقيهما معا . كان يتركني انظر اليه لاحظى بكامل الصورة المضحكة له لكنه كان ينشد من هذا المشهد اثارة دهشتي واقرار اعجابي به خاصة حين كان يستقصد الترنّح على الدراجة ذات الصرير المسموع من بعيد ،والذي كان يشبه الى حد كبير صوت جنادب الصيف ابان موسم التزاوج ،وكأنه يملك جناحيّ نورس يميل بهما مرة الى اليمين واخرى الى اليسار بضربة معلم ،صحيح اني كنت ابادله ذات الضحكات الصبيانية العالية والتي كانت تخرج جراء فوضى حركاته البهلوانية لكن كنت اخفي عنه قلقي الصادق عليه خشية اصابته بمكروه او أذى ، كأن يهوي على رأسه او يطب على قفاه ذات الارداف الواسعة. اذكر في احد المرات كان يقود دراجه رمادية اللون على طريق وعرة تكثر بها الاحجار المدببة، وكعادته واثق تماما من نفسه ضاربا عرض الحائط كل قوانين الفيزياء الجالولية منها والنيوتونية، اعتماده الوحيد كان على كياسته الهشة وعلى خبرته التي لا تتعدى حول رضاعة ،وبجسارة تفوق جسارة حراس القلاع كان يترك مقود الدراجة لحال سبيله ويبدأ بالدوران ،وكأنه في فقرة عرض انفرادية امام الجمهور في سيرك المدينة ،فيدخل اولا كلتا يديه الى داخل جيوب بنطاله المدرسي القصير ذو اللون الحاكي ثم يرفع عنقه عاليا ،وكأنه ينتظر سماع تصفيق حار من جمهور معجبيه ،بعدها يقدم على تغير جلسته ،وكانه يستعد للعرض الثاني بعد تعمد النظر في الهواء وكأنه في حضرة معبد مقدس ، يثبت الدراجة على مسارها الصحيح ثم يستقيم مستخدما جسمه الثقيل وبدل ان يستعمل يديه في تغيير الاتجاه يضع وزنه الى الجهة التي يريد فتطيعه الدراجه وتذعن له بكل اريحية ،كأنها حيوانه الاليف المدلل نحو الجهة المقصودة دون عناء ولا مكابدة .لكن حدث ان خذله الحظ ذات مرة حيث مالت الدراجة وانحرفت اكثر مما كان هو مقدر لها فهوت وارتطمت بالارض تاركة اياه يسقط عنها ويتدحرج بجسده المنفوخ كعجلة لعدة امتار، وكم كانت خيبته كبيرة وخسارته فادحة ،فعدا عن نفوق الدراجة كليا لم تهدأ الاوجاع من شدة الجروح وكثرة الكدمات في يديه ورجليه طيلة أسبوع كامل.
غير ان هذا كله كوم والذي ابت الذاكرة الا ان تبقي عليه محفوظا لسنين طوال كوم ،ففي ذات عطلة صيف (طق في بالي)انا المغمور ان اجاري من ليس لي به طاقة فاسابقه انا جريا على الاقدام وهو راكبا دراجة كان قد انهى تركيبها وتجميعها من مصادرها الطبيعية (النفايات ) للتو.
بالطبع توقعنا ان يكون الامر مسليا وشيقا وبانت علامات التأييد والتشجيع على سحنة ابن عمي الصنديد كثيرا وقد ارتسمت ضحكة خفيفة تنم عن مكر عند طرف فمه الضيق لانه رأى بهذا السباق فرصة لاختبار دراجته القديمة الجديدة وبالطبع فرصة اكبر لكسر شوكة هذا المبتدئ (الفرصوع) المتحدي . كانت الظهيرة قد حلت وبدا ان حرارة الشمس الحارقة ولسوء طالعنا ستبقى حاضرة طيلة السباق، كانت نقطة الانطلاق من باب دكان الشيخ وخط النهاية تصوينة العبارة .بدأنا اولا بوتيرة بطيئة وكأننا على توافق ضمني بان نعطي الافضلية لأداء الدراجة كونها مستحدثة حديثا لكن كل حسن النية هذا ذهب ادراج الرياح عند اول انحدار للطريق حيث اخذت الدراجة تزيد من سرعتها بفعل الانحدار الشديد حتى بلغت درجة فقدت فيها السيطرة على حركة لساني الذي اخذ يسبقني ويظهر امامي وكأنه أحد المارة يلوح لي محييا ،واذكر جيدا صوت انفاسي المتسارعة صعودا ونزولا وكأن صدري قاربا شراعيا يعلو ويهبط مع تحركات الامواج على سطح الماء ، واذكر ايضا انني كنت احاول جاهدا ،وبكل الطرق والاساليب الممكنة المتبعة منها والغير متبعة ،ان اقول لابني عمي الطيار هذا بان يتوقف ، فكلتا رجلتاي لم تعد تقوى على الجري ووقتها شعرت بوخز حاد وقوي في عضلتاهما ، وهنتا على الفور وضعفتا لكن ابن عمي أخذته العزة بالنفس وعلى ما يبدو شعر بقمة النشوة من أداء حصانه الدراجة والظاهر انه لم يعد يحتسبني في تلك اللحظات الحرجة لي والمنفرجة له وأغلب الظن انه استساغ سرعتها فتركها تنطلق على راحتها وتركني اغرق في زخات العرق االذي هطل كالمطر من على جبيني نزولا الى طيات جفوني مستقرا في الاحداق حائلا دون رؤيتي حجرا متروك في الطريق خصيصا للحمقى امثالي .كان الارتطام في بطن الطريق سريعا وموجعا حد الصراخ المميت وصدقوني لم ابخل عليه ساعتها بشتى صنوف الشتائم ومركبات المسبّات الزوجية منها والفردية حتى اني لا ازال اتذكر جيدا نعتي له بصاحب العريضة .
كان ابن عمي مغمورا بدراجته وبادائها ولم يظهر لي انه يأبه لحالي وقت السباق ولا لما قد يحل لي أثنائه حيث انه لم يلتفت الي ولو لمرة واحدة، لكن في الربع الاخير من السباق وفجأة ودون سابق انذار، وكأنه يصحو من نوم عميق ،رأيته من البعيد يوقف الدراجة ويدير مقودها ويتحرك وينطلق باقصى سرعة باتجاهي الامر الذي دب في السرور كثيرا وقلت في نفسي ،حقا يا هيك ابناء العموم يا بلاش ،فكم انا سعيد بعمله النبيل هذا . كل ظني انه ما عاد على عقبيه الا ليطمئن علي لكن كان كلما اقترب وصار في مرمى نظري يبعث في داخلي الريبة والتوجس .لم اكن افهم بعد ما يجري، حاله وهو مقبل علي ،كأنه قطار سريع يبغي ان يدوسني وينهي الموضوع . لم يتوقف عن الصراخ ولو للحظة كان صوته اشبه بصفير سفينة بخارية تعبر قناة المانش بعجلة وبينما هو غارق في هذه الفوضى التي خلقها طيران عقله من رأسه تبادر الى ذهني بعض من كلامه كمثل تائه يستدل الناس في الطريق، هل سمعتم ما قال ؟؟؟هل فعلا سمعتموه يقول لي يا صاحب العريضة ،وأخذ يغلظ اليمين بانه سيجهز علي ويجش رأسي ويطيح بأنفي ويقلع أذني من مكانهما ويطعمهما لكلاب الشوارع ولن تنفعني عنده الشفاعة بالقرابة ولا بصلة الرحم .
ادركت ساعتها اني اقترفت خطأ فادحا واني كما يبدو دخلت منطقة محظورة. عندما اصبح قاب قوسين او ادنى من احكامه لعنقي تيقنت ان لا جدوى من الاستجداء ولو كورقة اخيرة بالانبياء والصالحين عنده وان بقائي في مكاني مسألة فيها خطر كبير على ملامح سيرتي الذاتية وانه من الاجدر والانفع ان انسحب بسرعة البرق من امامه وطالما تتاح لي الفرصة وفعلا ما ان وصلني حتى كنت قد تحولت الى طائر يحلق ويعلو بعيدا بعيدا في الفضاء.

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com


مقالات متعلقة