الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 16 / أبريل 21:02

أمي نورة رحمها الله/ بقلم: إبراهيم طه

إبراهيم طه
نُشر: 07/08/19 09:52,  حُتلن: 23:35

طوبى لذاك الجيل الأصيل من النساء الكادحات المكافحات المكابدات! طوبى لذاك الجيل الجميل من النساء الثابتات الصابرات المرابطات!
كانت أمي من ذاك الجيل، رحمها الله ورحم أمواتكم جميعًا. أمي إسمها نورة بنت علي الصالح وحِسِن الذيب. قبل خمسة عشر عامًا بالضبط، في مثل هذا الأسبوع، فارقت الروح أمي وعادت بأمر ربّها إلى باريها. وقبلها بثمانية وعشرين عامًا غادرنا أبي وانسحب. فاجأنا ورحل. وحين رحل كان في الرابعة والأربعين وأمي في الثامنة والثلاثين، انسحب وترك فوق ظهرها الغضّ سبعة من الأولاد والبنات في عمر النبات. فاجأها الموت وأضنى روحها وأرهقها وأرهقنا. ثقل حملها، وظلّ يثقل حتى مال، لكنها عدّلته وواصلت حمله بصبر جميل. حزن قلبها ودمعت عينها لكنها لم تترنّح ولم تفزع ولم تغفل عنّا ولم تذهل. حملت الهمّ أمي وتحمّلت ما لم تتحمّله أمّ من جيلها. عرفت أنّ الدنيا لا تنقاد لأحد إلا بالكَبَد، ولا تنفرج إلا بالجَلَد. عرفت وعرّفتنا. كابدت الحياة أمي وجالدت. ثبتت وجاهدت وربّت أولادها وبناتها فأحسنت. وتركت فينا ما إن حفظناه أتى بما لا يقدر عليه مالٌ ولا أرضٌ ولا رزق. علّمتنا أنّ اللقمة التي في فمك لك ولأخيك. اللقمة التي تجاهد من أجلها بعرق جبينك لك ولأخيك... وإنّا لما تركتِ فينا يا أمّاه لحافظون!

كان عندنا كرم كبير من العنب والتين وكرم من الزيتون ترعاهما أمي بصبرها الذي لا يلين، و"سهليّة" تزرع فيها بيديها الخضراوين البامية والبندورة والخيار والعدس والسمسم والحمص والفول والباذنجان... كانت الفلاحة الشتوية والصيفية في ذاك الوقت صعبة شاقّة تهدّ الحيل وتنهك القلوب التي في الصدور. يبدأ نهارها من الفجر ولا ينتهي حتى تأخذ الشمس أبعاضها وتنسحب. تظلّ كالنحلة تلوب. "تحوّش" التين و"تقطع" العنب البلدي وتلمّ "الزتونات". تملأ أربع سلّات من القشّ بالبامية أو العنب أو التين وتغطّيها بأوراق الدوالي. محمد أخي الأكبر مني يحمل اثنتين وأنا اثنتين. نركب باص السابعة صباحًا إلى عكا. نقف أول السوق القديم ونبيع ما في السلات. وعند الظهر نعود فرحين مبتهجين بالنعمة. هكذا كان صيفنا كلّ صباح: يوم للبامية ويوم للعنب ويوم للتين. في كلّ مرّة أربع سلات مغطاة بورق الدوالي، وعند مدخل السوق القديم في عكا نقف ونبيع. كنا ما زلنا بعمر نبتات البامية والبندورة التي تزرعها أمي. أمي تنكش وتعشّب وتزرع وتقصّ وتقلع وتحوّش وتلمّ وأنا وأخي نبيع. وأمي كان لها نصيب في البيع أيضًا. تبيع العنب طازجًا في كرمنا العامر بميزان "شقلة" عتيق. بعد العصر تأتي النساء والبنات من الحارات القريبة يحملن السلال في أكواعهنّ، يأتين صفًا صفًا. كان عنبنا بلديًا أصيلا ذهبيًا طبيعيًا، والقطف كيلو. تقطع أمي وتبيع. وما تبيعه تجمعه وتحفظه لفصلٍ لا تجارة فيه ولا بيع.
ونكبر أمام عينيها الرحيمتين ويكبر همّنا ولا تملك إلا أمومتها. كنا نراها متعبة متهالكة، فنحن سبعة. ولا يكسر الظهر إلا "الضنى". أتعبت قلبها الأمومة الفطرية النقية الطاهرة. وحين كنا نناديها كانت تردّ: "نعم، يا تقبرني!" لا يصدر هذا الردّ "الغريب" إلا عن أمومة مزروعة زرعًا في القلب والعقل والشرايين والعروق...
طوبى لذاك الجيل الأصيل من النساء الكادحات المكافحات المكابدات! طوبى لذاك الجيل الجميل من النساء الثابتات الصابرات المرابطات!

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

مقالات متعلقة