الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 10:02

صارت البلد قنبلة عنف موقوتة.. هل مجتمعنا عنيف؟/ بقلم: د. جودت عيد

د. جودت عيد
نُشر: 31/05/19 19:33,  حُتلن: 13:41

د. جودت عيد:

هناك عنف في البيت وفي المدرسة من قبل المعلمين والطلاب وفي الشارع وفي مؤسسات الدولة التي يتدنى فيها مفهوم الانسان 

يحتفل الصباح بالنور الذي يغطي أرض مدينتي، فيروز تستقبل السكون بخشوع بترنيمة مريمية، حالة تنافر ذهني ما بين سكينة النهار وصخب الجريمة. جريمة اخرى بعد جريمة وقبل جريمة، ينزل الناس الى الشارع الذي ما عاد لهم، يحملون الشموع والحريق المشتعل في قلوبهم ويمشون ويقفون لذكرى ضحية اخرى في غياهب المساحة التي تحاصر ذواتهم بذواتهم، حين صار الشارع مرتعا للغضب والاعتداء وصارت الساحات للفوضى واللا قانون وصارت البلد قنبلة عنف موقوتة، ورفض مستمر لكل ملامح الانسان التي فقدتها مدينتي وقريتي وبيتي وساحاتي ومؤسساتي وحجارتي وكل معالم مجتمعي. يدخل الناس الى حالة الغضب وحالة الوجع والاحساس بخيبة الامل والخسارة والاهم من كل ذلك الاحساس بعدم الامان من الحاضر والمستقبل، مما قد يحمله الشارع من عنف وتردي للفكر وللأخلاق.

أجندة مجتمعنا مُهمَلة وكل البُنيَة التَّحتية المجتمعية مهملة من قِبَلنا ومن قِبل السلطات المحلية ومؤسسات الدولة، وليس لدى الناس الا القليل من المعرفة والقدرة للتعامل مع ظواهر العنف والانفلات في مكان لا قانون فيه ولا روادع شرطة ولا روادع اخلاقية، في ظل تهميش مجتمعي ممنهج. الأقليات ليست مركز اهتمام صناع القرار في الدولة، ما دامت لا تؤثر تلك الاقليات، الضعيفة حضورا وتمثيلا، على مجريات النهار العادي للمواطن في اسرائيل وما دامت تداعيات قضاياها لا تطال الأغلبية المهيمنة، بالذات وأن الأقليات تنعزل غالبا في جيتوهات طوعيّة أو قسريّة.

هل العنف متعلق بالشرطة؟ يوجد عدم اكتراث بالأقليات عامة وتقصير من قبل المنظومة الحاكمة التي تشمل أيضا الشرطة التي تمارس هي بذاتها عنفا ممنهجا بدرجات متفاوتة، لكن ليست الشرطة وحدها مسؤولة عن العنف المجتمعي كما يرتاح البعض في ان يفكر وكما يفضل البعض في القاء اللوم على "الشَّماعة" التي تدعى "الدولة" ومؤسساتها. ليست الشرطة هي فقط المسؤولة عن تردّي الوضع الامني في المجتمع العربي، وليست مؤسسات الدولة الرسمية والحكومية والتربوية هي فقط المسؤولة عن اهمال نشأة مجتمعنا واقصاء شبابنا من دوائر الانتاج المجتمعي واحباطه ونزعه من تراثه الفكري وتغييب هويته وجذوره الفلسطينية، الامر الذي يغذي بدائل متطرفة وغير مهذبة بالضرورة. القيادات أيضا ان كانت سياسية او تربوية او دينية ليست هي فقط المسؤولة عن العنف في المجتمع وان كانت تتقاعس عن مسؤوليتها وتنغمس في احتفالات الايجو والالقاب والجيوب والخطاب المتطرف، فهي بالتالي الافراز الطبيعي للتدني الفكري والمهني العام في المجتمع. إن المجتمع العنيف، ليس بالضرورة ظاهرة أو نتاج لعنصر واحد، انما هو حالة ونهج حياة نتيجة تربية عنيفة يتبناها الناس لحل المشاكل وفق ادراك غير موضوعي للمحيط.

وكلاء التنشئة الاجتماعية/ النفسية، تعتمد التنشئة الاجتماعية وكلاء تنشئة الذين يسهمون في بلورة التفكير الشخصي والهوية القومية والجنسية والذاتية والدينية وأيضا السلوك. تبدأ التنشئة الاجتماعية من خلال التربية في البيت والمدرسة والمعابد الدينية وتستمر بالاعلام والمؤسسات المجتمعية العامة والمستوى الاقتصادي والفكري والثقافي للمجتمع وحالة الحرب والسلام وغيرها من عوامل الحصانة المجتمعية والعائلية والاستقرار التي تؤثر على شخص وتكوين الفرد. العنف بكل أنواعه يعود الى الاطر التي ينشأ بها الفرد والتي تؤدي الى تطوير سلوكيات تتماهى مع المجتمع الانساني او سلوكيات تحتقر معايير المجتمع ورفض الثوابت حيث يعتبر الفرد نفسه فوق القانون وفوق الناس وفوق كل المركبات الفكرية، الامر الذي نلحظه بشكل كبير في المجتمع العربي في اسرائيل الذي يطالب بكل ما يحق له وفق القانون ومن جهة اخرى لا يلتزم به لأنه يمثل السلطة التي يسعى الى محاربتها وهي تسعى الى احباطه وفق ادراكه وتجربته الشخصية والقومية، وبالتالي يسترد وبشكل شرعي وفق اعتباراته جزءا مما يحق له وان كان على حساب كسر القانون الذي هو يمثل السلطة وحتى وان كان يخدمه او يحميه ويحمي سلامة بيته. لذلك عدم الالتزام بالقانون هو شرعي حتى التذويت، ويصبح استعمال العنف كرد فعل للقمع ان كان على الصعيد الشخصي او القومي او الديني امرا عاديا. بالتالي يلقي فشله واحباطاته على الدولة ومؤسساتها متناسيا تنشئته التي رسمت سلوكياته الى جانب تنشئة الدولة الممنهجة لمجتمع غير منتج وغير ناهض.
تنشئة ذكورية: مجتمع عنيف، التنشئة الذكورية في المجتمع العربي، حسب رأيي، تشكل عاملا اضافيا لزرع بذرة العنف والتعامل المتطرف مع المحيط. عندما يُمنح الذكر مساحة يحق له فيها كل شيء، قد يؤدي الى تشويش العلاقة بينه وبين المحيط حين لا ينجح في التمييز بين الصحيح والخطأ، وان كان يعرف الفرق، فلا يكترث لانه، وفق تنشئته، كسر بديهيات مجتمعية يقابله إما التحطيم الذاتي أو التشجيع من منطلق ذكوريته التي تمنحه الحق في التمادي والاعتداء على الحق العام والخاص، على ممتلكات او على حيوانات او حتى على اشخاص ان كان جسديا او كلاميا او نفسيا. التنشئة التي تعتمد التربية الذكورية تضرب مفاهيم المجتمع من البداية بسبب التمييز الحاصل ضد الاناث اللاتي يشعرن باحباط وحتى يقمن بدورهن في مرحلة من حياتهن كامهات وقد ذوَّتن هذا الفكر والسلوك وبالتالي تستمر كرة الثلج بالتضخم وبتنشئة جيل غير جاهز وغير واعي للتحولات المجتمعية ويبقى منغمسا باوهامه الذكورية التي تنصب الرجل سلطانا ليكون الآمر الناهي بكل شيء، فمنذ الازل هو شيخ القبيلة يصيد ويوفر الطعام لجرائه وجارياته. عندما يخطئ الطفل الذكر او يخرب او يشتم نضحك ولا نتعامل معه بشكل صحيح، لا يدرك في مرحلة معينة ما هو المسموح وما هو الممنوع ويعتقد ان كل شيء مشرع له ويستطيع ان يفعل ما يشاء. تنعكس هذه التنشئة في الممارسة المستديمة بعدم الالتزام بالقانون او الالتزام بالتعليم او بالعمل او بالمسكن وبكل شيء، فلا مجال لقبول اي آخر ولا حق لاي آخر لانه تلقى تربية تقضي بانه في المركز وليذهب الجميع الى الجحيم.

أنا فوق القانون؟! الشارع لي وحدي والقانون لا يعنيني انا فوق القانون والارواح رخيصة، إن غضبتُ فَعلى الجميع ان يقبلني ويتقبلني وان فرحت كذلك الامر، ويحق لي الاعتداء على الحق العام ان كان شارعا او ساحة او حتى فضاء يتزاحم في ضوضاء لا ترى الا ذاتها، فهي ايضا تعتبر اعتداء ينتهك مساحة الآخر. هكذا تمَّت تنشئة الفرد، يحق لك كل شيء دون روادع وهو في المركز واحتقار كل آخر هو شيء مقبول. هذه التنشئة تؤثر على تفكير الفرد الذي لا يدرك حضوره ولا دوره الفاعل في المجتمع الا من خلال العنف لان البيئة عنيفة بتركيبتها وبتعاملها ولا تعطي مساحة للانسان، وبالتالي لا يستطيع التعامل مع من هو افضل منه لدرجة تذنيب الآخر لكونه أفضل منه، وبالتالي هو كفرد يشعر بالنقص وينعكس أيضا مرة أخرى بسلوكيات عنيفة. هناك عنف في البيت وفي المدرسة من قبل المعلمين والطلاب وفي الشارع وفي مؤسسات الدولة التي يتدنى فيها مفهوم الانسان، وينعكس بخدمة متدنية عنيفة وخطاب فكري وديني وتربوي عنيف وسلوك عنيف وحتى فن عنيف ينعكس في الأغنية والمسلسلات والاعلام. ذلك يحث على ايجاد دفيئة حاضنة بديلة والأغلب تكون إما من خلال الاقصاء الطوعي أو القسري من المجتمع. ليس هناك اهتمام جدّي في هذه المجتمعات المهمشة الفقيرة فكريا وثقافيا، ويغيب الهم الجماعي وتغيب القيادة على كل الأصعدة وتغيب الذاكرة الجماعية والمصير المشترك، "أسألك يا رب نفسي" في خضم صراع البقاء. هكذا لا يعود اي مفهوم مجتمعي فيمارس الناس العزلة والانغماس في الدائرة الضيقة التي تبدأ بباب المنزل وتنتهي به، "بريت سكرتي مسخرتي"! دون الاكتراث بكل ما يجري مجتمعيا وسياسيا وفكريا لأن الثقة رحلت الى مَواطنَ بعيدة ولم تعد موجودة في أجندة النهار!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة