الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 03:02

عندما يتردى المشهد الثقافي/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 15/05/19 07:20,  حُتلن: 00:19

تردي الوضع الثقافي في أي مجتمع هو نتيجة مباشرة وحتمية لتردي الوضع السياسي، الاجتماعي والاقتصادي. وعندما يتردى المشهد الثقافي يصبح الكتاب والشعراء والفنانين سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بمدى ولائه للحزب أو التنظيم أو الفئة. يصبح المقياس هو الولاء وليس ما يقدمه هذا الكاتب أو الشاعر أو الفنان. وفي هذه الحالة يتراجع المبدعون أصحاب المواقف ويتقدم المنافقون الذين يجيدون الرقص على الحبال. هؤلاء المنافقون يستغلون ما يوفره لهم التنظيم أو الفئة أو الحزب لينتقموا من المبدعين بإبعادهم أكثر عن المشهد العام وبطمس إنتاجهم الذي يخافونه ويخشونه، ويرون فيه تهديداً مباشراً لمواقعهم.
هؤلاء المنافقون يتجاهلون كل ما هو جيد حسداً وغيرة وخوفاً منه لأنهم يشعرون أنه يهدد مواقعهم ويزعزع مراكزهم التي لم يحصلوا عليها بجدارة. يفتشون عن الرديء فينشرونه ويعممونه لأنه يعزز من مكانتهم ويثبت أنهم الأفضل.
الكاتب الحقيقي هو صاحب مبدأ وله موقف لا يستطيع ولا يقبل التنازل عنه، مما يبعد عنه السياسي الذي يفتش عمن يخدمه ويدور حوله وفي فلكه وليس عمن يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، ويقف له بالمرصاد عندما ينحرف. لذلك من الأفضل لقيادة أي حزب او فئة او تنظيم التعامل مع المنافقين المستعدين دائماً وفي كل الأحوال لدعمها وكيل المدائح لها.
عشنا مرحلة كان فيها الأديب هو الرأس والقائد، فشاهدنا ازدهار وانتعاش المشهد الثقافي، وبالموازاة ازدهار وانتعاش المشهد السياسي أيضاً . كان للكلمة مفعولها ودلالتها ووظيفتها في خدمة المشروع الوطني. في تلك المرحلة كان السياسي صاحب مبدأ ولديه مشروع وطني ففتش عن الأديب الجيد ليدعمه في انجاز مشروعه. أما عندما فقد السياسي مشروعه الوطني وأصبح أداة لخدمة مشاريع أخرى فقد أضطر للتفتيش عن الأديب الرديء ليضع يده بيده لأنه يعرف أن الأديب الجيد عصي ولا يمكن شراؤه.
هنالك مشروع عام تدعمه جهات ظلامية لخنق الأدب الجيد والتعتيم عليه. هذا المشروع، القديم الجديد، ممول ومدعوم بأموال النفط العربي المنهوب والمسروق. وهو يهدف إلى خلق مشهد يغطي ويخفي عورات القيادات الفاسدة والمجرمة التي باعت شعوبها وأوطانها ونذرت نفسها لخدمة اللصوص. وهو يهدف كذلك إلى بث اليأس في النفوس وقبول هذا الوضع السيئ والرديء وكأنه قدر لا مفر من القبول به. ويهدف أيضاً إلى حرف الأبصار عن رؤية الفقر والجهل والبطالة الأعداء الحقيقيين للشعوب العربية. تجند لخدمة هذا المشروع الفضائيات والصحف والمجلات الالكترونية والورقية الممولة بأموال النفط. وانضمت إليها مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبر الوصفة المثالية لتنمية النفاق والرداءة.
ولتجذير وترسيخ هذا المشروع فقد أقيمت مختلف المراكز التي تعقد الندوات والمؤتمرات وتمنح الجوائز الأدبية "المحترمة!". هذه المراكز لها جنودها وخدامها من حاملي الدال والنقطة (د.) ممن لا ذوق لهم ولا ذائقة ولا أخلاق. هؤلاء لأنهم لا يملكون لا الذوق الأدبي ولا الذائقة الفنية ولا الأخلاق المنية يتناولون في تحليلاتهم الأشخاص لا النصوص. يكتبون عن الشخص الذي تربطهم به علاقة ما، أو يريدون منه شيئاً ما خصوصاً إذا كان أنثي ولا يتناولون النص بتاتاً. يكتبون أشياء عامة لا علاقة لها بالنص الذي يدعون أنهم يتناولونه بالتحليل. يكتبون عنه أشياء لا علاقة لها به وتصلح لنص غيره. إن وصف النص الرديء بكلمات جميلة لا يعطي هذا النص أي قيمة ولا يجعله يتحول إلى نص جيد، ومن يفعل ذلك إنما يخون الذائقة الأدبية ويسهم في تدمير المشهد الثقافي.
هنالك ركيزتان هامتان وأساسيتان لا يستوي الفن ولا يصلح بدونهما: الجمال والموقف. فالفن الذي لا يطرح أو لا يتبنى موقفاً لا يمكن أن يكون جميلاً لأنه لا يمكن ان يكون صادقاً، والفن الجميل لا يمكن ألا يطرح أو يتبنى موقفاً هكذا هو الفن الحقيقي شئنا أم أبينا.
إن الفن سواء كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً لا يصلح أن يكون فناً إن لم تتوفر فيه هاتان الركيزتان. فالأغنية والقصيدة والمسرحية والرواية بحاجة أن تعبر عن موقف بأدوات جميلة. قد نغض الطرف عن أديب أو فنان لجأ إلى الرمزية، التي تجعل موقفهضبابياً، ليتحاشى بطش حاكم ظالم. لكننا لا يمكن أن نغفر لفنان تعايش مع الجلاد ولا أن نغض الطرف عن أديب يأنس لجزار يذبح أطفال شعبه. الموقف والجمال هما القدمان الراسختان اللتان يسير عليهما الفن ليخترق القلوب ويفتن العقول ليجلب التغيير.
ما نشهده في أيامنا الرديئة هذه هو العكس تماماً. فالفن المتداول هو فن يغض الطرف عن الظالم، يتجاهل المجرم وأحيانا يسبح بحمده ويغازله. فن لا يتناول الفساد والمفسدين ولا يحتج على ممولي الإرهاب ومبرمجي المجازر. لذلك نجده بمعظمه فناً هابطاً يزحف على بطنه ولا يرقى إلى مستوى الظلم والإجحاف الذي يتعرض له المواطن العربي في هذا الوطن الواسع المذبوح الذي تحول إلى نفق مظلم.
المال والثروة العربية كما هي موظفة لتدمير الشعوب والأوطان العربية، أصبحت موظفة أيضاً لتدمير وهدم وتشويه الثقافة العربية.
أموال النفط جعلت الساحة الأدبية تشهد حالة من الفلتان الذوقي والأخلاقي غير المسبوق الذي تجاوز كل الحدود، وجعلنا نقف يائسين محبطين. لا شك أن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي البائس والتعيس لأمتنا يلقي بظلاله على المشهد الثقافي العام ويوفر الفرصة لضعاف النفوس ولقراصنة الأدب للاصطياد في المياه العكرة، وتصدر المشهد العام بعد محاولة تغييب الأدباء والفنانين الحقيقيين والتعتيم عليهم.
في هذا الظلام الدامس من المفروض في الأديب أو الفنان أن يحمل شمعة ويبدد قليلاً ظلمة الطريق، لا أن يأنس للظلام ويتحول في كنفه إلى وحش مفترس. فالكاتب الحقيقي لا يمكن أن يسخّر قلمه لخدمة جلاد مجرم. والفنان الأصيل لا يمكن أن يوظف فنه في التغطية على إبادة الطفولة وذبح بني البشر. خدمة الجلاد والتغطية على الجرائم لا تكون بمدحها والتغني بها مباشرة، وإنما بالسكوت عليها أو التطرق لمواضيع أخرى والتغاضي عنها. فأي كاتب هذا الذي يكتب عن الغابة والبحر وشروق الشمس بينما الأطفال يموتون تحت أنقاض بيوتهم المهدمة من حوله؟ أي كاتب هذا الذي لا يقول كلمة حق في وجه جزار ظالم؟
أن من يتغنى بعمل فني هابط هو جندي في جيش المجندين لخدمة مشروع تشويه وتخريب الثقافة العربية شاء ذلك أم أبى، حتى وإن كان من حملة الدال والنقطة ممن تقودهم غرائزهم وعقدهم الجنسية.
كم نحن بحاجة للبحث بسراج وفتيل عن الأعمال الجيدة وسط هذا الطوفان من المطبوعات الرديئة التي أحبطت القارئ العادي وساهمت في إبعاده عن القراءة والمطالعة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com 



 

مقالات متعلقة