الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 11:02

الأديب الفلسطيني ناجي ظاهر.. صمت وصرخة قلم/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 12/04/19 10:56,  حُتلن: 23:20

في واحد من لقاءاتنا المستمرة في مدينة الناصرة بلد ناجي ظاهر الثانية بعد بلده الأول سيرين التي هجر منها وعائلته في العام 48، سألته ماذا يكتب هذه الأيام، فأجابني أنه لا يكتب ولكنه يقرأ كثيراً. وأضاف أنه غير سعيد بهذا الوضع لأن هذا الجفاف في القريحة يقلقه كثيراً. طمأنته وحاولت أن أخفف من توتره. قلت له أن هذا كثيراً ما يحدث لي ولأي كاتب آخر. إلا أنني لاحظت أنني لم اخفف من ملامح القلق البادية على وجهه.

بعد أسابيع من ذلك اللقاء ومنذ عدة أشهر بدأ ناجي ظاهر بنشر قصة قصيرة كل بضعة أيام على صفحته في الفيسبوك. فرحت لما يحدث وجمعت 15 قصة من هذه القصص، كنواة لإصدار جديد، ووضعتها في موقع دار المل للنشر والتوزيع التي أسسناها معاً قبل ما يقارب الثلاث سنوات.(عنوان الموقع لمن يريد الاطلاع www.daramal.net). لكن الوتيرة التي صار يكتب بها قصصه أقلقتني وجعلتني أظن أنه أصيب بانهيار ما، فاتصلت به لأطمئن على سلامته. سألته إن كان لا يزال في كامل قواه العقلية فطمأنني وببرودة أعصاب أنه حتى الآن لا يزال. حاولت بسؤالي أن أستفزه لكنني لم انجح.
في كل لقاء كنت أسأله عن رأيه فيما يجري في وسطنا الثقافي فيجيبني: "عادي! كل واحد يغني على ليلاه" أثور لهذه الإجابة غير المبالية لكنه يهدئني مطمئناً ومؤكداً لي أنني مهما حاولت، لن أغير شيئاً لأنني كمن يصرخ في وادٍ ولن أسمع إلا صدى صوتي. قال لي: يا أخي نحن نعيش في عصر الفيسبوك. كان من عاداتنا في الأفراح مثلاً أن نحتفل ونرقص ونغني لبعضنا، أما اليوم فقد أصبح كل واحد منا يحتفل ويرقص ويغني لنفسه. الفيسبوك اللعين أخذ منا كل شيء!
لم أقتنع وحاولت تحريضه للتصدي لهذا الهبوط والنفاق الذي تشهده ساحتنا الأدبية خصوصاً وأنه واحد من الذين عاصروا تلك الحقبة الناصعة من حياتنا الثقافية يوم كان الأديب يقود السياسي ويوجهه.
ذكرته بتلك الأيام يوم كان الأديب لا يترأس الحزب فقط وإنما يقوده، يوجهه، يرسم طريقه، يحدد تطلعاته ويقرر من هم مندوبيه في البرلمان. ويوم كان الشاعر هو وجه الحزب والناطق بلسانه في كل مهرجانات الدفاع عن الكرامة والوجود. تساءلت أمامه أين هي تلك الأيام وكيف وصلنا إلى هذا الوضع الذي صار فيه الكاتب والشاعر يقف على أبواب رجل السياسة مستجدياً عطفه وفُتاته. حاولت استفزازه وإثارته، عله على الأقل يكتب رأيه فيما يجري. لكنني لم أنجح لأنه آثر الاحتفاظ بغضبه وسخطه لأنه يؤمن أن الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يبقى.
أعتقد أن الفنان، أي فنان، بحاجة لمنبر وحاضنة. وكلما كان المنبر نظيفاً وعالياً كلما كان حافزاً للفنان لتطوير أدائه وأدواته فينتج ويبدع ولا يصاب باليأس والإحباط. وكلما كانت الحاضنة حيادية وراقية ومتفهمة كلما كرس الفنان قلقه الفطري إلى قضايا الأمة بعيداً عن القلق الوجودي البدائي.
لا أدعي بتاتاً أن الفنان يجب أن يعيش في رفاهية أو في برج عاجي حتى تتوفر له القريحة وأدوات الإبداع. على العكس تماماً أنا أؤمن أن الظلم والفقر دائماً كانا المحفزين لأعظم الفنانين (وعندا أقول فنانين أقصد الكتاب والشعراء والرسامين والموسيقيين). وأنا أؤمن أن الفنان مطالب ببناء أسرة والتعامل مع زوجة وأبناء وتوفير كل متطلباتهم حتى الصغيرة. هذه الهموم اليومية البسيطة هي التي تخلق الفنان الملتزم بقضايا شعبه وأمته والمنتج للأدب الهادف.
ناجي ظاهر في قصصه أل 15 التي جمعتها في موقع دار المل يصور ببراعة فائقة وصدق متناهي حياة الفلسطيني ابن الناصرة، رب الأسرة الذي يتعامل مع أبنائه وبناته وزوجته كأب وليس ككاتب. ناجي ظاهر يرسم بريشة إبداعه حياة الفلسطيني في الناصرة وفي وسطنا العربي في هذه البلاد، وكل ما يعتريها من تجاذبات لا ترحم. لم يشغل قلمه بالمهاترات السياسية التي لا تقدم ولا تؤخر. بل كرس قلمه لطرح القضايا الاجتماعية السياسية اليومية التي تمس وتؤثر على حياة الإنسان العربي في هذه البلاد.
ناجي ظاهر يكتب بغزارة وعمق هذه الأيام، ربما كرد فعل صامت على ضوضاء هذا المشهد الثقافي البائس الذي أوجده الباحثين عن الشهرة السريعة، والراكضين وراء المجد الرخيص. وربما كاحتجاج شديد على هذه السطحية والرداءة في معظم ما يُكتب ويُنشر، التي خلقها الفيسبوك وما وفره من فوضى قاتلة .
ناجي ظاهر يكتب بيد ويحافظ على أسرته بيده الأخرى. لا يبحث عن منبر ولا يفتش عن حاضنة. حاضنته هي أسرته البسيطة المتواضعة ومنبره صفحته على الفيسبوك التي من خلالها يمكن ملاحظة مدى تمرده على قواعد اللعبة الفيسبكية وعلى كل إغراءاتها. فهو يرفض، ليس من باب التكبر، إبداء إعجابه بأحد ولا يطلب الإعجاب من أحد. ليؤكد تمرده وربما احتقاره لهذا الأسلوب الرخيص الذي يحاول الفيسبك ترسيخه. (لا أدري كيف يقدر على ذلك؟). إنه يرفض الانجراف مع التيار وفي نفس الوقت يرفض اللجوء إلى الأبراج العاجية التي تبعده عن شوارع وأزقة الناصرة التي عاش فيها طفولته وأحلى أيام شبابه على قلة تلك الحلاوة. في هذه الشوارع والأزقة يمارس حياته بصمت تاركاً الصرخة لقلمه.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com   
 

مقالات متعلقة