الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 18 / أبريل 08:01

هي الأرض/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 26/03/19 08:55,  حُتلن: 09:49

حسين فاعور الساعدي:

علاقة والدي بالأرض كانت أبعد وأعمق من ذلك. لأن الأرض ساعدته على تطويع الفصول وقهر الظروف والمفاجآت

"الأرض ستّارة العيوب" هذا ما سمعته من والدي كثيرا. وعندما سألته عما يقصده أجابني: ألا يدفنوننا فيها عندما نموت؟ ألا يكفي أنها تستر منظر الدود وهو يلتهم أجسادنا؟. أما في حياتنا فهي توفر لنا الدفء في فصل الشتاء والبرودة في فصل الصيف، إن كنا نعيش مع قطيع في مغارة. أما إذا كنا نعيش مع قطيع في عمارة (زجاجية تعوم على بحر بترول) فهي ملاذنا في سويعات الملل...هذا ما قاله أبي رداً على سؤالي الفضولي.

وفي مناسبة عادية أخرى قال لي: الأرض كالأم تجود علينا دون مقابل. ففي الربيع تجود علينا بعلتها وزعترها وشومرها وخبيزتها غذاءً إذا جعنا. وتوفر لنا بابونجها ومرميتها ونعناعها دواءً إذا مرضنا.
كدت أصدقه لولا ما حدث لي عندما كبرت وجعلتني أعيد النظر فيما أسمعه من والدي المتعلق بالأرض كتعلق رضيع بأمه. فقد ذهب والدي ذات يوم ليطلب لي يد الفتاة التي أحببتها. أراد إغراء والديها بالموافقة فأخبرهم أنه إنسان غني لأنه يملك مئات الدنمات من الأرض المزروعة بأشجار الزيتون والخضراوات على مختلف أنواعها. وعندما سأله والدا العروس عن مهنتي وعملي أخبرهم أنني أعمل معه في الأرض فلاحاً. تبادل والدا العروس النظرات فيما بينهما وأخبراه أنهما سيعطيانه الجواب خلال أسبوع كما هي العادات والتقاليد. إلا أن والد العروس لم يستطع الانتظار أسبوعاً فاتصل بوالدي في اليوم التالي ليقول له: "ما في نصيب". المصيبة أن هذا ال "ما في نصيب" طاردني في كل مرة ذهب والدي وطلب لي يد فتاة وفاخر بما يملك من أرض. لم توافق فتاة على الزواج مني إلا بعد أن فاخر والدي أنني موظف وعندي دخل شهري.

علاقة والدي بالأرض كانت أبعد وأعمق من ذلك. لأن الأرض ساعدته على تطويع الفصول وقهر الظروف والمفاجآت. فنسج معها علاقة حب يومية جعلته يتشبث بها بأظافره وأسنانه، وتتسرب هي إلى دمه ومسامات جلده ليصبح لونه من لونها ورائحته من رائحتها. زرعها في الشتاء بالقمح والشعير والعدس والكرسنّة والفول والحمص. وفي الصيف بالبندورة والبامية والبطيخ والشمام والخيار والفقوس والكوسا. جففت والدتي البامية والبندورة والتين والعنب والمشمش والخوخ وحفظتها لفصل الشتاء. ودفن والدي البطيخ في التبان بين التبن لفصلي الخريف والشتاء. لكل تلك الخضار والفواكه طعمها ورائحتها التي لا نجدها هذه الأيام، لأنها كانت تأتي من الأرض مباشرة ودون تدخل من جشع وطمع إنسان هذه الأيام. هذا على صعيد الجسد حسب سلم ماسلو.

أما على صعيد الروح فالأرض مكنت والدي أن يكون سيد نفسه. منحته السيادة ووفرت له الكبرياء دون مقابل. وساعدته على إقامة مملكته المستقلة التي لا ترتبط بأحد ولا تحتاج لأحد. منها أخذ كل ما يحتاجه من خضار وفواكه ولم يحدث أن ذهب لدكان لشرائها. ومنها أخذ ما يحتاجه قطيعه من علف وغذاء. هذا القطيع وفر لوالدي ولعائلته كل ما يحتاجه من حليب وألبان وأجبان ولحوم لها طعمها ورائحتها لأن القطيع تغذى مما تنبته الأرض وليس مما يصنعه الإنسان. الأرض جعلت والدي حراً طليقاً لا يخضع لسلطة أحد.
كان والدي يتعامل مع صخرة زرقاء ملساء جثمت في عرق واحدة من زيتوناته التي زرعها في قمة الجبل، عندما بدأ الرصاص يمر فوق رأسه ةينهمر حوله كالمطر فطلب مني الاختباء وراء سلسلة الصخور التي بناها كجدار فاصل بين أرضه وأرض الدولة. استغل موجة إطلاق الرصاص لينبطح إلى جانب صخرة مشعلاً سيجارته التي لفها للتو، وليرتاح قليلاً. لم يبد خائفاً مثلي لأنه تعود على أزيز هذا الرصاص الذي ينهمر علينا يومياً وكلما بدأ الجيش مناوراته وتدريباته. أطلقوا علينا النار بحجة التدريبات، وتوقعوا أن نترك لهم الأرض. يبدو أن الصخرة كانت أكبر من أن يقتلعها بواسطة القضيب الفولاذي الغليظ ذي الرأس الحاد الذي اشتراه خصيصاً لاقتلاع الصخور الكبيرة من أرضه (كان يسميه البانسه). لذلك استعمل شاكوشه الذي يزن خمسة كيلوغرامات، والذي يسميه الحجارون "الشاقوف"، لتكسيرها. كل يوم، وبعد عودته مع القطيع من المرعى، وأثناء قيلولة القطيع يأتي والدي إلى الصخرة ويبدأ معركته معها. يرفع شاقوفه الضخم من فوق رأسه ويهوي به عليها بضربات متلاحقة. يضربها على أطرافها فتتطاير شظاياها، إلا أنها ظلت صامدة. استمر على هذه الحال سنواتٍ طويلة. اقتلع وكسّر الكثير من الصخور الصغيرة إلا أن هذه الصخرة ظلت صامدة رغم تكسيره لمعظم أطرافها.
والدي لم يملك إلا القليل من المال لكنه قرر بناء بيت من الحجر الطبيعي، لذلك لجأ إلى الأرض واقتطع منها حجارة البيت وهي الأهم والأغلى ثمناً بين مواد البناء. أجاد التعامل مع الصخور وعرف أنواعها الملائمة للبناء والتي لا تمتص المياه فلا يتغير لونها. من هذه الصخور اقتطع ما يكفي لبناء بيت من الحجر كبيوت الأثرياء. ومن شظايا الصخور صنع ما يحتاجه ليخلطه بالرمل والأسمنت ليصنع الباطون المطلوب لبناء البيت. دفع ثمن الرمل والإسمنت والحديد فقط. ولأن الشاحنات لم تصل قمة الجبل فقد اضطرت والدتي وصديقاتها من نساء الفبيلة إلى نقل هذه المواد على رؤوسهن وهن يرددن الأهازيج والأغاني. بنى والدي بيته الفخم بدعمٍ سخيٍّ من حبيبته الأرض ووفر مبالغ طائلة لم يكن يمتلكها.
البيت الكبير من الحجر الطبيعي يدل على الثراء خصوصاً إذا كان في قمة جبل. لذلك تهافت عليه الضيوف بشكل مستمر.
في تلك السنين لم تكن المطاعم وأكشاك الأطعمة السريعة منتشرة في قرانا ولا حتى في مدننا. لذلك كان تقديم الطعام للضيف يعد ركناً أساسياً من أركان الضيافة، من لا يؤديه لضيفه يجلب العار لنفسه ولبلده. والدي لم يعمل أجيراً في حياته. دائماً كان سيد نفسه لم يحتج للمال لأن كل ما يحتاجه من أطعمة وأغذية كان يحصل عليه من الأرض مباشرة. إلا أنه لم يتهاون في إكرام ضيوفه ولم يحدث أن زاره ضيف ولم يقدم له ما تيسر من الطعام. أحياناً تكثر الخيرات وأحياناً تشح، خصوصاً في فصل الشتاء الماطر أو في فصل الخريف المجدب. في يوم لا يُنسى أذكر أنه ذبح ديك دجاجاته الوحيد عندما لم يجد ما يقدمه لضيوفه. وفي مناسبة أخرى عندما وجد أن بيته خالياً من كل ما يؤكل أذكر أنه قال لوالدتي "لا تيأسي من رحمة الله". خرج وجمع أغصان البطم الطرية من شجرة البطم التي تظلل بيتنا وطلب من والدتي أن تفرمها وتصنع منها وجبة من السلطات اللذيذة المذاق قدمها لضيوفه الذين نشروا في المنطقة أخبار تلك الوجبة الغريبة والشهية التي تنولوها في بيت ذلك البدوي.
مرت السنوات وتبدلت الأحوال. كف الجيش عن مناوراته بسبب يوم الأرض أو بسبب هذه المناطر التي ملأت المنطقة. تذكرت صخرة والدي العنيدة فقررت زيارتها برفقة JBC وشاكوشه الذي يعمل بضغط الزيت وليس بضغط العضلات والرفع من فوق الرأس. هوى عليها بضربة واحدة شقتها إلى نصفين ومن ثم غرس ازميل شاكوشه تحتها وسحبها من التراب رغم صراخها وتشبثها. كانت أصوات نقرات شواكيش زملائه الأضخم منه، تتعالى وهي تشق شوارع قريتنا الوليدة فوق ترابنا الذي لم نفرط بذرة منه.
لا زلت أعيش فوق أرضي لكن زوجتي تزرع الورود في القوارير. أما أنا فكبقية أبناء شعبي أعيش الصراع بين المعاش الشهري من ناحية ومواسم الأرض من ناحية ثانية. أعيش هاجساً متواصلاً: المعاش الشهري أنتظره شهراً واحداً فقط، أما الموسم فيجب انتظاره عدة أشهر. المعاش الشهري يدخل إلى البنك مرة واحدة، أما الموسم فيجب تجميعه بطرق تعتمد على السوق وظروف العرض والطلب المتغيرة. المعاش الشهري هو ثمن عبوديتي للوظيفة، بينما موسم الأرض هو ثمن العزة والسيادة.
إلا ان الجميع يميلون إلى المعاش الشهري. لذلك معظم أراضينا مهملة وتغطيها الأشواك بعد أن فقدنا حاستي الشم والذوق، وبعد أن أصبحت فتياتنا يفضلن الموظف العبد على الفلاح السيد.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com


مقالات متعلقة