الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 16 / أبريل 09:02

مكاشفة مع الذات - بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 12/03/19 20:28,  حُتلن: 20:42


جميلٌ بحرُ هذا الليلِ
يحملني إلى الشرفاتِ
يخرجُني وراء الظلِّ
يخبرني، يكاشفني، يؤكدُ لي
أنا من سلّمَ الجلادَ مقصلةً
ليذبحني ويذبح أخوتي البسطاءَ والفقراءْ
أنا من شدَّ ساعدَهُ
ليسرق قوت أطفالي
ويحرمني طلوعَ الفجرِ
للمجهول يرميني
وحين الريح والأشجار لامتني
لجأت لمجرمٍ آخر
أقوّيهِ، أناصرهُ وأحميهِ

جميلٌ بحرُ هذا الليلِ
يجذبني ويغريني،
يجرجرني لأسبح في غياهبهِ
ويرميني، كلمح الضوء يحملني
لأخرج من مجال الظلِّ
من موت بلا معنى،
إلى موتٍ كيفما أمضي يلاقيني
ليبحث في شراييني
عن المدن التي حبلت
ولم تنجب
وعن يمنٍ يقطعه بني يعرب
عن الأنهار التي جفت
عن الطابون والغربال والمنجل
وعن وطنٍ لم يكن وطناً
تلاحقني مجازرُهُ
لأنسى وهْجَ كرسيٍّ صرت أعبده
فضيعني وقسمني ولم أخجل

جميل بحر هذا الليلِ
يحجبُ وجه سفاحٍ
يربيني لأخدمهُ
ويبقيني لأحميهِ
يخوفني بإرهابٍ،
لأعبدهُ
لينسيني حقولاً كنت أفلحها
وأفقاً كنت أغمرُهُ بأحلامي
فيغمرني بنجماتٍ
وكرماً من الرمان والتينِ.
لينسيني بلاداً كنت سيدها
وكانت زينة الدنيا،
فأخرجها من التاريخ
سوّدَ وجه من رسموا معالمها فشردهم
وبيّضُ وجهَ كذابٍ يشوهها
تربع فوق أكتافي
يلاطفني،
يجوعني،
يخوفني،
يدغدغ كل رغباتي
يمجّدُ كل أوصافي
لأبقى جائعاً حافي
ويبقى فوق أكتافي.

جميل صمتُ هذا الليلِ
يأخذني ليُخمدَ كل أوجاعي
فأنسى وجه مرتزقٍ يلاحقني،
وجندياً يراقبني،
يحاصرني،
يصوّبُ حقدَهُ نحوي ويرميني.

جميل صمت هذا الليلِ
يكشفني على ذاتي
ويشعل نار وسواس يذكرني بزلاتي
ويرميني خارج الزمنِ
بلا ظلٍّ ولا أفُقٍ
ليحفظ وجهَ قنبلةٍ
وبعضَ قذائفٍ أودت بأبنائي وأخواتي
ويبقيني بين عاصمةٍ وعاصمةٍ بلا وطنِ
بلا أهلٍ ولا زادِ
يَعُضُّ البرد أحشائي
وأخشى من طلوع الشمسِ
أحضنُ رملَ صحراءٍ تجوعني وتنهشني
واهرب من حقول اللوز والقمح
نزيف الجرح أتعبني وأضعفني
وأمضي في جراح الروحِ من جرحٌ إلى جرحِ
أصلي خلف شيخٍ
يملأ الكلمات بالبارودِ
باع الأرضَ والمسجد
ويحشو الجرحَ بالملحِ

جميل ثوب هذا الليل يكسوني
لأحصي بعض هفواتي
ويسترني لأعبر في عواصمنا
ألملمُ جثتي وثياب زوجاتي
لأنسى واحة النخل التي ذٌبحت
وحقل النفط والبئر التي سُرقتْ
لأنسى جامعات علمتني الجهل والفوضى
وأهلاً طيبين يقودهم جحشٌ
وسجناً كان لي بيتاً
لأنسى بحر زلاتي
وذلاً كان يسكنني
ويأخذني إلى الغابات أسكنها
لأخفي بعض غاباتي
لتحضنني ثعالبها وتحميني
أنا من شدَّ أزر دويلةَ الأوغاد والعسكر
لتحرمني من الأحلامِ
تنهب قوت أطفالي وترميني

جميلٌ بحرُ هذا الليل يحملني
ويحملُ حاملات الموتِ
تقصفني بفسفورٍ
وتقتلني بأنغامٍ وموسيقى
تحاصرني
تشوّهُ روعة المنظر

جميلٌ كلُّ هذا الليلُ من حولي
تغازلني ثعالبُهُ
وترثيني
إذا تعوي تخفف نكبتي،
وتعيدُ لي فرحي...
تواسيني
وتكشفني على ذاتي
فأحصي مرة أخرى
دجاجاتي
وأخرجُ من شراييني
أمرُّ على عواصمنا
أحاسب موقدي والنار التي خمدت
وأبحثُ عن عناويني

جميلٌ منظرُ الغربانِ مثل الليلِ
تنعبُ فوق أشلائي فتطربني
تنقرُ لحم أطرافي
فتوقظُ بعضَ أحلامي
تواريني!

جميل كل ما في الكون من حولي
يمزّقني
ويحييني
لأحمي دولة الجبناء والعسكر
وأحرسها بآلامي وأوجاعي
على جلدي فهمت الدرسَ
وسّعنا موانئنا
لتهجرنا حقولُ القمحِ
كبّرنا جحافلنا لننسى القدسَ
أو نمشي وراء النعشِ
زيينا حدائقنا لنحمي الجنسَ
أصبحنا كعصفور يغرّدُ فوقَ غصن اللوز
عصفورٌ يلاعبُ فرحة الأفعى تطاردهُ
فيشجيني
ويغضبني...
فأذكرُ ومضة الفسفورِ
تحت الجلدِ،
والنار التي تشوي شراييني

جميل كل ما في الكونِ
ينسيني
عيوناً مثل لون البحرِ،
تكرهني
وتكويني بنظراتٍ
وينسيني ذئآباً أدمنت لحمي
أربيها وأطعمها لتأكلني
وأحميها لتحميني

جميلٌ منظر القنّاصِ،
يرقبني بواحدةٍ،
وبالأخرى يحييني

جميل كل ما في الكون،
أحضنُهُ فيحضنني
ويطعنني بسكينِ
أعانقُهُ يجوّعني
يحاصرني ويَبكيني
ويحرقُ جثتي لينالَ من روحي
لتزهو الروحُ في غلوائها طرباً
كأني لم أكن يوماً على ديني.
فتسمو الروحُ في عليائها غضباً
لأني لم أكن إلا فلسطيني

مقالات متعلقة