الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 23 / أبريل 06:01

الخيار واضح: إما الإنسانية وإما الصهيونية! - سليم زاروبي

سليم زاروبي
نُشر: 04/11/18 22:40,  حُتلن: 12:29

سليم زاروبي:

نستطيع إدراج عشرات القصص المشابهة التي نشهدها جميعا عندما نتعامل مع أبناء الحركة الصهيونية

الطريقة الوحيدة لفهم قانون القومية تأتي عبر إدراكنا للتناقضات الداخلية في الفكر الصهيوني

قبل حوالي عشرين عاما، حين كنت أعمل في معهد للأبحاث في مدينة ميونيخ، زارني زميل اسرائيلي للعمل على مشروع علمي مشترك. كان هذا الزميل يشعر بمشاعر مختلطة ومعقدة تجاه الألمان، فهو ابن لوالدين نجيا من براثن النازية بأعجوبة. بطبيعة الحال، تحدثنا عن الوضع السياسي في ألمانيا، إذ كانت تمر في فترة تغيير قوانين أساسية، خصوصا قوانين الهجرة والمواطنة، تحت قيادة غيرهارد شرودر، المستشار الألماني آنذاك. خلال الحديث ذكر زميلي، بنبرة احتجاج وتذمر، أن الحق في الحصول على الجنسية الألمانية ينتقل فقط بواسطة "الدم"، أي لا يهم أين ولدت وأين تعيش ما دام في دمك يسري دم ألماني (هذا القول غير صحيح اليوم). ثم ربّت على عروق رسغه بشدة، ليؤكد أهمية الدم في القانون الألماني، وقال بحرقة وانفعال واضح "هذا قانون مجنون!ّ".

علي أن أعترف أني عندما سمعت ذلك، أصابني ذهول بالغ وانعقد لساني وأصبحت لا أعرف ماذا أقول. إذا كان هذا الرجل يفهم أن الواقع الألماني آنذاك، الذي يؤسس حق المواطنة على سريان "الدم الألماني" في عروق الإنسان، هو واقع مجنون، فكيف إذاً لا يرى أن الواقع الإسرائيلي الذي يمنح المواطنة لكل من يسري في عروقه دم "يهودي" وعلى حساب السكان الأصليين للبلاد، هو واقع مجرم ومجنون أكثر بكثير؟ كيف لشخص مثقف ومتعلم، وصل الى درجات اكاديمية عالية، أن لا يرى التناقض الهائل الذي يمليه المنطق البسيط، بين ما يرفضه، بحق، لدى ألمانيا ولكنه يقبله بسكينة وهدوء نفسي، بل ويدافع عنه باستماتة، لدى إسرائيل؟

نستطيع إدراج عشرات القصص المشابهة التي نشهدها جميعا عندما نتعامل مع أبناء الحركة الصهيونية. فهذه الحركة موبوءة بالتناقضات الجوهرية. أي أن التناقض الصارخ في موقف زميلي هو تناقض نموذجي لما يسمى "اليسار واليسار-الوسط" الصهيوني. فهذا "اليسار" يحاول جاهدا، لسنين عديدة، أن "يربّع الدائرة" لكن دون جدوى. فقد أوصلته محاولاته العقيمة إلى هامش الخارطة السياسية بعد أن كان من أقام وحكم دولة إسرائيل على مدى عقود. أوضح مثال على ذلك هو رد فعل العديد من رموز هذا "اليسار" على قانون القومية. ولعل أبرزها هو المقال الذي كتبه الكاتب دافيد غروسمان في صحيفة هآرتس في 3 آب 2018، بعنوان "المساواة ليست جائزة".

قد يكون غروسمان أكثر أدباء الحركة الصهيونية تعاطفا مع الشعب الفلسطيني وأبلغهم. والحقيقة أنه لا يبخل في التعبير عن هذا التعاطف، فهو الذي كتب "الزمن الأصفر" الذي تنبأ فيه باندلاع الانتفاضة الأولى، وكتاب "حاضرون غائبون" الذي وصف فيه واقع فلسطينيي الداخل المؤلم، والخ. لكن، وفي الوقت نفسه، تمتلئ مواقفه بالتناقضات العميقة التي تصطدم بها صهيونيته مع انسانيته.

فمثلا، في مراسيم الذكرى الإسرائيليّة الفلسطينيّة التي قامت كبديل للمراسيم الرسمية، ألقى غروسمان خطابا مؤثّرا، جاء من رجل عانى ويعاني من ألم الفقدان الكبير لأب ثكل ابنه (الذي مات في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006)، ومن شخص يتفاعل ويتفهم ألم الطرف الآخر ويتضامن معه. لكن في هذا الخطاب، بالرغم من إنسانيته العميقة، لم يتطرق غروسمان ولو بكلمة واحدة إلى أسباب هذا الألم، وكأنه ضربة من السماء أو قضاء قد حل على الطرفين من غير ذنب لهما. وهذا التجاهل هو في صلب مشكلة اليسار الصهيوني الذي يستغل عمق الألم لدى الطرفين لخلق تماثل بين الضحية والجلاد، بين المقتلِع والمقتَلع، وبين الغاصب والمغتَصَب.

في مقال "المساواة ليست جائزة"، أيضا، والذي يهاجم فيه غروسمان بشدة قانون القومية وحكومة نتنياهو ويتهمه بحق، بتعميق الأبرتهايد القائم فعليا في الضفة الغربية وغزة، وأن هذا القانون هو محاولة لتصدير التفرقة العنصرية المنهجية إلى داخل اسرائي، لكنه يقول في ما يقول: "لقد بلورت تجربة الأقلية هويتنا [اليهودية]، وأرهفت حساسيتنا الأخلاقية. والآن نحن، اليهود، أغلبية في بلادنا." هنا أيضا نرى عمق التناقض، إذ لا يذكر مطلقا أن "الحساسية الأخلاقية المرهفة" أدت إلى مأساة شعب ودمار مجتمع لم يؤذ اليهود بشيء! ولا يتساءل من أين يأتي الادعاء التاريخي الأرعن بأنها "بلادهم"، اللهم إلا إذا استثنينا العلاقة الدينية، وهذا بحكم طبيعته الأساسية ادعاء مناقض لمبدأ المساواة بين الناس لأنها تأتي بتخويل من قوة عليا تأخذ من هذا وتعطي ذاك لمجرد أنها تفضّله. وهو، أيضا، يحمل المسؤولية لحكومة نتانياهو فقط متجاهلا أننا وصلنا إلى هنا نتيجة للمشروع الصهيوني بكل مركباته، وواقعنا هو "ثمرة" تاريخ ممارسات منهجية، وليس "حادثاً" تاريخيا ابتدأ مع نتنياهو وحكومته المهووسة.

وقع في مثل هذا التناقض، أيضا، أبراهام بورغ الذي كان، ضمن وظائفه الرسمية العديدة، رئيسا للحركة الصهيونية العالمية. شهد بورغ تغييرا جوهريا في مواقفه في السنوات الأخيرة، فهو ينادي اليوم بالتخلي عن تعريف اسرائيل كدولة اليهود. أي أنه ينظر إلى "ما بعد الصهيونية" في الحياة السياسية الاسرائيلية، وهو تطور مثير للإعجاب لمن شغل المناصب التي شغلها.

كتب بورغ مقالا ضد قانون القومية، نشره في صحيفة هآرتس بعنوان "لهذه القومية التي أخترعوها، أنا لا أنتمي"، صدر في 1 آب 2018، قال فيه: "دولة إسرائيل، في رأيي، هي الدولة القومية للإسرائيليين. فهي تنتمي إلى من يدفع الضرائب، يَنتخِب ويُنتخَب، يعيش هنا، يتكلم اللغة، يحصل على حقوقه ويفي بالتزاماته. مثلما تنتمي فرنسا للفرنسيين وألمانيا للألمان، كذلك إسرائيل هي ملك لجميع الإسرائيليين، وفقط لهم. فهي لا تعود للشعب اليهودي، إذ لا يوجد نظام، أو جهاز حكم أو دولة تعود إلى أناس بعيدين غير مواطنين فيها".

أي أن بورغ يقول إن الدولة ملك لساكنيها، وهذا يشبه شعار "دولة كل مواطنيها" الذي ترفعه الأحزاب العربية، وبالذات التجمع الوطني الديمقراطي. وهو كلام جميل نستطيع جميعا أن نقبله. لكن إذا كانت الأرض والدولة ملك لساكنيها اليوم، ألم يكن هذا أيضا صحيحا قبل مئة عام، عندما تعرض سكان فلسطين للهجوم الصهيوني الأرعن على حقهم في الوجود؟ إذا كان بورغ يؤمن حقا بما يقول، فعليه أيضا أن يعترف بأنه لم يكن هناك حق تاريخي لوجود اسرائيل. أي أن الحركة الصهيونية، بحسب منطقه، هي تجسيد لسلطة الغريب على ابن البلاد. ولهذا في التاريخ اسم: استعمار!

الطريقة الوحيدة لفهم قانون القومية تأتي عبر إدراكنا للتناقضات الداخلية في الفكر الصهيوني. فهو ليس خطأ مطبعيا عابرا من الممكن تصحيحه، أو نتاج ظروف سياسية مؤقته، أو لأن أعضاء الكنيست العرب "استفزوا" الأغلبية اليهودية في الدولة، والخ. قانون القومية هو نتاج حتمي للحركة الصهيونية، وهو مجرد محطة نحو الانزلاق لما هو أسوأ، إذ أنه محاولة لحسم التناقضات العميقة الموجودة لدى كل أطياف الحركة الصهيونية، وليس فقط لدى الحركات "اليسارية" منها. فكل مميزات الدولة الغربية الحديثة التي يتباهون بوجودها، مثل الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والانفتاح وحرية الفرد والخ، تقف بتناقض واضح، وتتقزم، مقابل القيمة العليا الحقيقية للحركة الصهيونية، ألا وهي يهودية الدولة.

هذا هو جوهر التآكل، وحتى كدت أقول الانهيار، في جميع مقومات الدولة والمجتمع التنويرية. فمن يصر أنها دولة كل اليهود في أنحاء العالم، مثل غروسمان، يضع يهودية الدولة كقيمة أعلى من كل القيم الأخرى. هذه هي مشكلة كل الذين ينتقدون القانون من داخل الحركة الصهيونية. فعلى الرغم من أنهم يرون به، بصدق، خطوة أبعد مما يجب، إلا أنهم يتعامون عن أنه يكتسب مصداقيته من الفرضية الأساسية في الفكر الصهيوني: يهودية الدولة.

قد يقول البعض: وماذا إذا كانت هناك تناقضات فكل أنظمة الحكم مليئة بها، وعلى الرغم من ذلك تعيش هذه الأنظمة بسلام من غير أزمات تعصف بها. فالمجتمعات الإنسانية لا تعيش على أسس نُظُم منطقية رياضية لا تحتمل التناقضات، بل هي مجتمعات يصنعها بشر بعيدون كل البعد عن الكمال والتوافق الداخلي. وبالتحديد في قصتنا، ألم تكن هذه التناقضات موجودة في الفكر الصهيوني منذ البداية، وها قد عمّرت هذه الدولة أكثر من سبعين عاما. أوليس وضعها الاقتصادي والسياسي والإقليمي الآن في ذروته، بالذات على ضوء الأزمات العميقة التي تعصف بالعالم العربي وسيطرة الأنظمة الموالية لأمريكا على معظم دولها، وعلى ضوء الانحسار العميق التي تشهده القضية الفلسطينية واستسلام قيادتها المشين والمأساوي؟

الإجابة على هذا بسيطة، تستطيع الدول العيش مع التناقضات ما دامت ليس هناك حاجة لحسمها والتوفيق بين مركباتها. التغيرات العميقة التي نشهدها في كتاب قوانين الدولة الصهيونية وانحدارها المتسارع نحو الفاشية في كل مناحي الواقع الإسرائيلي، تشريعا وممارسة، ابتدأت منذ أعلن إيهود براك عام 2000 أنه ليس هناك شريك للسلام في الجانب الفلسطيني. هذا هو التغيير الأساسي الذي حدث. فقد فهمت الأغلبية الساحقة من مركبات الحركة الصهيونية أنه يجب أن تحسم هذا التناقض بحيث تخلد يهودية الدولة والأرض، كل الأرض، بالقول والفعل. هذا هو الخيط الذي يربط تسلل الأحداث منذ مجزرة أكتوبر عام ألفين وحتى قانون القومية الآن. أي أن الحركة الصهيونية، كما نعرفها، وصلت لنهاية طريقها، فهي لا تستطيع أن تحمل "بطيختين في يد واحدة" أكثر مما فعلت.

المشترك بين أبناء الحركة الصهيونية ممن ينتقد قانون القومية هو أنهم يرفضون أن يروه كتعبير للمشكلة البنيوية الأساسية في الفكر الصهيوني، وانما فقط كمشكلة مرحلية فرضتها فئة معينة عليهم ومن الممكن تفاديها. من يريد أن ينتقد قانون القومية بصدق وشجاعة، لا يستطيع أن يقف عنده فقط، بل عليه أيضا أن ينتقد قانون العودة وممارسات الدولة منذ قيامها. أي، عليه أن يرفض ممارسات الحركة الصهيونية بكل أطيافها جملة وتفصيلا، لأن العلة فيها وليست في هذا التفصيل أو ذاك.

علي أن أوضح قبل أن أنهي هذا المقال أني لست ممن يدعون إلى الغاء وجود اسرائيل والعودة بالتاريخ إلى الوراء. لأن من يحلم بذلك سوف ينتهي به الأمر بارتكاب جرائم لا تغتفر. تماما مثل الحركة الصهيونية، التي بمحاولتها لإعادة تاريخ موهوم، دمرت مجتمعا بأكمله من غير ذنب له، وما زالت لا تتحمل وجوده ولو كشريك ثانوي على هذه البلاد. هذا هو حال كل من حاول أن يفعل ذلك في الماضي وفي وقتنا الحاضر، مثل داعش وأشباهها.

هدفي مما قلته هو البحث عن مخرج مشترك من أزمة الفاشية التي تعصف بهذه الدولة. والحل الوحيد الذي أراه هو تنازل الإسرائيليين عن الفكر الصهيوني وعن يهودية الدولة كقيمة عليا. آن الأوان لهذا "اليسار" لأن يجعل إنسانيته، وليس يهوديته، هي البوصلة لخياراته السياسية. فالطريق إلى المستقبل تأتي عبر الفهم الحقيقي لماهية المشروع الصهيوني في البلاد ولما حدث ويحدث على الأرض فعلا، والاعتراف به (مثلما فعل الصحفيان العملاقان جدعون ليفي وعميره هس). أي بكلمات بسيطة: التنازل عن الصهيونية والاعتراف بالجريمة التاريخية التي ارتكبتها ضد المجتمع الفلسطيني الأصلاني. هذا هو الشرط الأساسي لوضع بديل سياسي واضح يستطيع من خلالها الطرفان، اليهودي والفلسطيني، أن يعيشا معا في المستقبل. لأن التقدم إلى الأمام يمر عبر الاعتراف بالظلم التاريخي الذي ألحقته الحركة الصهيونية بأبناء شعبنا، ومحاولة الطرفين العيش معا على أساس متساو ومتماثل، وليس على أساس "حاكم" ذي حق رباني يقف خارج سياق التاريخ الطبيعي، و"محكوم" من عرق أدنى! أي: إما الإنسانية كخيار من أجل المستقبل وإما الصهيونية التي ستؤدي بنا جميعا إلى مسار التهلكة.

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   


مقالات متعلقة