الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 05:02

المسيحية والشيخ / بقلم: اسلام عكرية

اسلام عكرية
نُشر: 08/09/18 14:45,  حُتلن: 14:57

بعد أن ابتليتُ بالنشء الصغار وأثخنوا بي وأنزلوا عليّ الويلات والعقوبات كما لو كنت أشقى ثمود أو زعيم قوم لوط مبتكر الفاحشة التي يهتز لها عرش الرحمن، وبعد أن شدّوا بي - بغير قصد طبعا - الى أن أخرج عن دين الإسلام، وعن ملّة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وعن دين إبراهيم الحنيف، وأن أتبع ملّة أبي جهل وأصحب أبا مرّة وأنادم بشار ابن برد، أنزل الله عليّ الصبر والأناة وأيّدني بالسكينة وثبّت قلبي وخلع مرارتي. فلم تتغيّر الحال ولا تبدّلت ولا تحسّنت وإنّما أنا الذي تغيّر وتبدّل فلم أعد أكترث أو أبالي، فليختلط الحابل بالنابل، ولتتساقط النجوم تتبعها السماء، من أراد منهم أن يتعلم فلينصت لمعلّمه، ومَن أقصى غايته إبراز نفسه بدميم خلقه وشنيع صنيعه وقلّة أدبه وقبيح تصرفاته، بعدما فشل الفشل الذريع، وسقط السقوط المريع، في دروسه كلّها من الرياضيات والفيزياء إلى الرياضة والخط، فليفعل ما يشاء، فقد قطعت شرش الاكتراث وخنقت عصب المبالاة، فلا أكترث ولا أبالي، وهذا أسلم للصحة وأثبت للقلب على دين الحبيب.

التعليم مهنة شاقّة متعبة مضنية في عصرنا هذا، أين تلك الأيام التي كان التلميذ يتوارى ويختبئ عندما كان يرى معلّمه صدفة في الشارع أو في الطريق، أين هي تلك الأيام التي كفت المعلم التلاميذ وأهاليهم لمجرّد أنه معلّم، كانت نظرة منه تكفي ليحلّ الصمت البالغ، وتطغى النظم السوابغ، وينصهر كلّ تصرّف وفعلٍ تافه فارغ. لا مكان لقول شوقي ولا يشفي الغليل قصيد طوقان. هذا عصر أتيح للطالب أن يفعل ويقول ما يشاء دونما مراجعة أو حساب ناجع نافع، العصا! هه، ايّاك ذكر هذا فنحن في عصر التكنولوجيا والهواتف الذكية وكل ما يجوز لك في هذا العصر هو اللمس والهمس دون عقاب أو عتاب، فهذا قد يترك في نفس الطالب جرحا لا يندمل ولا يرأب، وقد يكون السبب في تدمير مستقبله، ووظيفتك كمعلم هي العكس تماما، فمن شأنك أن تهتم ببالغ الأهمية وبصدر رحب وصبر جمّ على أن تحفظ الطالب وأهله من أن تُجرح نفسيّتهم وتتأذّى قلوبهم. لم يعد الطالب طالبًا ولا المعلّم معلّما ولا حتّى المدير مديرا كما كان يومًا. وما أكثر الأمثلة الحيّة على صدق ما أقول، فهذا أبو ايهاب صديقي الأثير ونديمي وزميلي وشريكي الذي أتناطح معه على الدوام في لعب الورق، ومديري في المدرسة الشاملة في القرية يحمل من التناقضات ما يعجز الذهن عن حمله والعقل عن عقله وفهمه، فإذا استثنيت أنفه الجسيم وكرشه العظيم ورأسه الضخمة وصلعته الفسيحة وقصر قامته وضخامة عجيزته التي تفوّق فيها على أكثر من سبعين بالمئة من النساء، وخشونة صوته وانعدام رقبته وكأنّ رأسه موصولة بأكتافه مباشرة وذقنه يلامس شعر صدره الكثيف، فهو مدير المدرسة ومعلّم دين إسلامي بالأساس، خلقه محمود وطبعه السماحة وفي كلامه ملاحة، كما أنه لطيف الجوهر وجميل المَحضَر على خلاف المظهر، وليس كلّ هذا بأهم من كونه يملأ المكان الرابع ويرعى الميدان لسهراتنا، وبغير شراكته لا تتم ولا تبدأ ولا أبدأ لعبة الورق كلّ ليلة ضد معلّمَين آخرين زميلين هما إياد معلم الفيزياء، وسعيد معلم التاريخ.

نحن نجتمع في طرف القرية الشمالي في كوخ صغير كان قد بناه أبو إيهاب على أرض سهل له. سهراتنا هذه هي أجمل أوقاتنا وأكثرها صخبا ومتعة، فماذا يفعل معلّمون قد تجاوزوا الخمسين وحقّقوا كل ما أرادوا، وكيف يتسلّون بغير لعبة الورق والنميمة على بعض التلاميذ وسبّ ولعن أهاليهم والسخرية من هذا العالم. أمّا عن نفسي بالأخص، فمن أين لي بمتعة أشدّ وأحلى من متعة الصياح على أبي إيهاب وتحميله ذنب خسارتنا اللعبة في كل مرة نخسر فيها، وما أجمله عندما يتناسى أنه مديري ويجيز لي ذلك، على كل حال فقد أصبحت عادة بعدما غضبت عليه أول مرّة وتقبل الأمر بضحكة واستخفاف ثمّ تنبّه له فنبّهني الى ضرورة إبقاء كلامي اللاذع في الكوخ وحذرني أن أحمله الى المدرسة فيستخف به المعلمون إذ قال وقتها:
- اسمع يا كمال، ما يحدث بفيجاس يبقى بفيجاس، فاهم؟
- أتدعو هذا الكوخ فيجاس؟ لا عجب أنك تظن أن الحُسن اشتمل في أنفك الكبير فتظهر به أمام العامّة والناس بغير نقاب!
كانت لتكون هذه الليالي أجمل لولا القارص الذي دأب على مشاركتنا سهراتنا بكلّ ليلة من ليالي الصيف، على العموم فنحن لا نسهر في الكوخ في ليالي الشتاء العاصفة خوفا على الصحة من البرد. كما أن ليالي الصيف هي الأشهى والأمتع، فهي بمجملها تتزامن مع عطلة الصيف، أي لا تعليم ولا يحزنون ولا استيقاظ من صُرم الصبح بعد كل سهرة كما كان يقول سعيد بلهجته البدوية.

في السادس والعشرين من شهر أوغسطس، أي قبل شهرين تقريبا من قصتنا هذه وقبل أن تفتح السنة الدراسية أبوابها بأقلّ من أسبوع لنعود اليها ونجتر المواد والدروس على مرأى ومسمع من طلاب نزل عليهم الملل وأكل وشرب وبال، هذا بالإضافة الى أمور تعوّدنا أن نفعلها، مثل معاينة ذات المشاكل ونفس المعضلات مع الطلاب وذويهم باختلاف الوجوه والأسماء، ذكر لنا أبو إيهاب –الشيخ المدير- أنّ الوزارة أرسلت له طلبًا ليوافق عليه، الطلب بخصوص معلّمة بديلة عن معلمة اللغة الإنجليزية سناء التي غادرت البلاد مع زوجها ليكمل دراسته ورسالة الدكتوراة في إنجلترا. قال بلهف وشغف لم نفهم مصدره الا لاحقا:
- وافقت على توظيف معلمة جديدة بدل سناء، معلمة لغة انجليزية.
قال سعيد معقّبًا على كلامه:
- حقًا! سيتسنّى لنا رؤية وجوه جديدة هذه السنة غير وجوه الطلاب وأهاليهم التي لا جديد فيها يرام.
فقال أبو إيهاب وقد ضيّق عينيه وأخفض صوته:
- وأي وجه سترى، ستعجبك كرستين بلا شك!
فقال سعيد مندهشا وباستغراب:
- كرستين؟ أهي مسيحية؟
نطق اياد وقلّما ينطق، وتحرّكت حنجرته بعد سبات فجاء صوته كما لو أنّه قادم من بعيد أو منبثق من مذياع:
- لا، هي من جواري الفقيه تركت الشيعة والتحقت بالصوفية!
لم يعقّب سعيد على كلامه، فغيرنا يجهل أن صمت اياد لا ينمّ عن سخريته كما أن من شأنه بث حكمة ورزانة كاذبتين عن شخصه، بل وجّه سؤالا إلى أبي إيهاب باهتمام وقال:
- كيف عرفت بجمالها؟ هل قابلتها؟
فقلت مقتنصًا فرصة لأهزأ من أبي إيهاب قبل أن يتفوّه ببنت شفة:
- لا أعتقد أن امام السنة والجماعة قابلها، فإنّ الله أرحم من أن ينزل على قريتنا عقابين اثنين فيكون أبو إيهاب مدير المدرسة وأول من يطالع الوجوه الجميلة بأنفه المِدَقَّة.
فقال أبو إيهاب غير مكترثٍ:
- لا، لم أقابلها، رأيت صورتها في السيرة الذاتية التي استقبلتها ببريدي الالكتروني، وهي بالمناسبة صبية لم تتجاوز السابعة والعشرين.

بدأت السنة الدراسية الجديدة وفتحت المدرسة أبوابها وشرّفتنا كرستين، وبكلمتين اثنتين وحرف جر، آية في الجمال، ولأنّ الكلمتين لا تكفيان أمام هذا الحضور الطاغي، فإنّ لكرستين قوام ممشوق وشعر أسود غزير صبغت أطرافه بالأصفر المتدرج لونه من باهت الى مشعّ كالشمس، بيضاء الوجه مشرقة الابتسامة وفي عينيها الزرقاوين اختصرت المعلّقات السبع وغزل العرب ومتعة الناظر وألف ليلة وليلة، وإذا أردت أكثر فهو في قول الأستاذ المُبجّل سعيد: "هذي المعلمة قديرة بلا شك"، وعندما سألناه باستغراب كيف عرف بهذه السرعة أجاب: "الا ترون مقدّمتها العلمية ومؤخّرتها الثقافية؟ المكتوب ظاهر من عنوانه".
لكن على عكس لباسها القصير الغير محتشم والمغري للجميع، تلاميذ ومعلّمين وحتى معلّمات -بالرغم من نميمتهن واستغابتها بينهن على الدوام- كانت كرستين متديّنة، طلبت من المدير أن يعفيها من التعليم أيّام الأحد لأنّها بهذا اليوم تتفرّغ لزيارة الكنيسة والصلاة فيها.

سرعان ما اندمجت كرستين بجو المدرسة وصادقت الجميع، كيف لا والجميع يبادلها الابتسامات ويتودد اليها، حتى فرج الأقرع الأجرب بوّاب المدرسة كان يرقق صوته وينعمه أمامها فيظنّه السامع روميو، هذا بالطبع إن لم يره، فإن حدث ورآه مسبقا فقل على الدنيا السلام، فلا ترقيق الصوت يلهم، ولا تنعيمه يحدث بالنفس أمرا، اللهم الا القرف. استقطب جمال كرستين التلاميذ والهيئة التعليمية سواء، فكنا نرى ثلّة من التلاميذ يتبعونها في الفرصة ويقفون معها بعد انتهاء الدوام دقائق قليلة. لم يخفَ على أبي إيهاب هذا، وهو ما أسعده وأبسطه في البداية حتّى تنبّه إلى أمر مهم، ما الحديث الذي يدور بين المعلّمة كرستين والطلاب يا ترى؟ تنبّه المدير لهذا من نميمة معلّمة في المدرسة، ولولا نميمة المعلمة ما علم الرجل ولا تنبّه لأمر بتاتا.

هاله ما عرف وأثار حفيظته، كانت كرستين تحدّث الطلاب عن المسيح عليه السلام والثالوث والانجيل، وهذا ما استدعاه لطرح الموضوع ذات سهرة في الكوخ واستشارتنا بما يمكن فعله وكيف يمكن منعها ولا نظهر بمظهر إرهابي ولا تطولنا الانتقادات وما أكثرها علينا كمسلمين فاضي بطّال!
قال اياد:
- انقل الخبر للأهالي وهم سيمنعونها أو يعترضون أمامك فتمنعها أنت بدعوى أنهم يضغطون عليك.
فقال سعيد بحنكة الأعراب:
- هذا رأي غير صائب، أنت بهذا توسّع دائرة المعضلة.
ثمّ التفت إلى أبي إيهاب وأضاف:
- توجّه أنت اليها وقل لها أن تلتزم بالتعليم فقط وأن تحفظ موضوع الدين لها وحدها فالجميع هنا مسلمون، ومثل كلامها هذا قد يساء فهمه وينتقل للآباء وقد يعود عليها بما لا يُحمد عُقباه.
وهذا ما فعله أبو إيهاب فاستدعى المعلمة كرستين الى غرفته وطلب منها أن تكفّ عن هذا بعدما أشاد بحبّ الأولاد لها ونبّهها بأن المدرسة مكان للتعليم وفق منهاج معين وضعته الوزارة وعليها أن تتقيّد به.
ادّعت كرستين أنّ ما قالته كان فقط مرّة واحدة، وهي عندما سألها الطلاب بدافع الفضول عن المسيحية والمسيح بعد انتهاء الدوام. كما استغربت جدا من طلب المدير واستاءت.

المهم، بعد هذه الحادثة بدأت كرستين تتجنّب الكلام العام مع الجميع ومنهم الطلاب، وبدا أنها غير مرتاحة كما كانت تظهر قبل أيام. لفت انتباهي هذا كما لفت انتباه الجميع تقريبا، فقلت وقتها لأبي إيهاب:
- هي مستاءة، وهذا كما نعلم أنا وأنت، ينعكس سلبا على أدائها وحبّها وعطائها، ليتك تريّثت ولم تدعها لغرفتك وتطلب منها طلبك العجيب الغريب.
- طلبي العجيب الغريب يا كمال؟؟ أتريدها أن تحدّث الطلاب عن الثالوث والمسيحية بكل راحة؟ الطلاب صغار والمدرسة ليست مكانا لمثل هذا!
- أسكت يا رجل، بالله عليك، تتكلّم وكأنّك منعت حملات التبشير والتنصير وأخرجت الصليبيين الغزاة من قريتنا، المعلّمة لم تذكر هذا سوى مرّة واحدة لتجيب على سؤال زمرة من الطلاب دفعهم الفضول ليسألوها.
- لقد كنت قلقا من أن يغضب الأهل ويستاؤون، ماذا تقترح يا فيلسوف زمانك، يا استاذ كمال؟
- لا أدري، سأحاول رأب الصدع.

وبالفعل، هذا ما قمتُ به بلطف وتودد، تارة أسألها عن بعض الطلاب، وتارة أعرض لها يد المساعدة في أمور مهنيّة وتعبئة أوراق لازمة. ومع مرور الأيام وانتقالنا الى الفصل الثاني نسيت كرستين لقاءها مع المدير وعادت المياه الى مجاريها حتى ذلك اللقاء في اخر أيام السنة التعليمية، عندما أثير جدال في غرفة المعلمين حول الثالوث والتوحيد، كان نقاشا جميلا هادئا غرضه المعرفة ودافعه الفضول، كنت في هذا النقاش طرفًا مستمعا، وقد لاحظت أن كرستين لا تعرف الكثير عن المسيحية وليست بملمّة، لكن بداخلها حبّ وايمان يحرّكا عينيها الجميلتين في اسهابها وهي تقصّ قصص المسيح ومعنى الثالوث على مسامعنا، كانت جميلة حقًا بعفويتها تلك وشغفها وحبها الذي ينساب مع كلامها ولحن صوتها كأنه زهور فوق غدير جارٍ. كل هذا تبدل عندما دخل أبو إيهاب الغرفة ووجهه متعكّر، لم يتكلّم ولكن عمّ صمت في الغرفة قام المعلمون بعده مباشرة الى أعمالهم منهيين الحديث.

لم تعد كرستين إلى مدرستنا في السنة التي تلت، وجدت نفسها في مدرسة أخرى، وحلّ مكانها شاب في أول العشرينات كان قد أنهى لقبه الأول في اللغة الإنجليزية للتو. ذكر أبو إيهاب ذلك في أحد سهراتنا بالكوخ في ليلة من ليالي الصيف بالعطلة الكبيرة قبل أن تفتح المدرسة أبوابها لسنة تعليمية جديدة ونستكشف ذلك بأنفسنا، قال إن كرستين لن تعود إلى المدرسة، وأردف أنه وافق على توظيف شاب مكانها في السنة القريبة. فقلت معلّقا أريد أن أغيظه:
- خسارة، خسرنا معلّمة قديرة وداعية للإسلام والتوحيد!
فقال أبو إيهاب باستغراب:
- للإسلام والتوحيد؟ تقصد التبشير والتنصير!
فقلت مُدّعيًا الجدّية:
- هي من دعاة التوحيد أكثر منك يا شيخ الإسلام!
- وكيف هذا؟
فقلت له شعرًا كنت قد كتبته مسبقا لمثل هذا الحديث:

يا شيخُ عُذرًا ففي التَّبشِيرِ تَذكِرَةٌ
حَسناءُ زادت جمالَ الكونِ عيناها

تَدعو أُناسًا الى الثَّالوثِ في شَغَفٍ
ومن رأى الحُسنَ فيها وحَّدَ اللهَ

ضحك سعيد البدوي حتى أصبح ضحكه شخيرًا مزعجًا، وابتسم أبو إيهاب ابتسامةً عريضة وبشّ وجهه المتجهّم، أما اياد فقال بعد أن التفت إليّ وفي عينيه نظرات استغراب وفضول: أعد عليّ ما قلت يا كمال، فإنّي لم أنتبه! 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة