الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 02:01

أحدب نوتردام/ بقلم: آسيا فضّول

آسيا فضّول
نُشر: 28/08/18 11:28,  حُتلن: 16:57

آسيا فضّول في خاطرتها :

 يرى خلف وجوه الضّاحكين نفوساً يسكنها ظلام دامس. لم تؤلمه ضربات السّوط بقدر رؤية أشباح الجماهير الضّاحكة واستهتارها به 

خلف الجدران يختبئ هارباً من أعين عدوانيّة تكاد أن تلتهم أجزاءً من جسده. فكم تؤذيه نظرات الّذين يسكنهم فراغ إنساني ويظنّون أنّ لهم الحق بالأذيّة. وعلى الجدران اعتاد أن يرسم ميزان العدل ويرجّح كفّة الفراغ فيه، لأنّه على يقين تام بأنّ الواقع يناقض ذلك الّذي يتّخذونه رمزاً للعدالة.
لا غرابة في أنّ القاضي الّذي أصغى لشكواه ودرس قضيّته أصمّ لا يسمع! ولا أحد من المجانين يدرك ذلك. يسخرون من معاق في ظهره حدبة، أصمّ ويرى بعين واحدة. وبعينه الوحيدة رأى أسنان القاضي تصطك كمن يمضغ الفراغ، فظنّه ينطق بالعدل. إذا كان القاضي والمتّهم سيّان في حالة صمم، ماذا ستكون النّتيجة!
يحتاج " أحدب نوتردام" أكثر من عين ليبكي بها، فعينه الوحيدة لا تكفي لذرف دموع بحجم آلامه. وعلى الرّغم من إعاقته وصممه وعينه الوحيدة، إلا أنّه يري ما لا يُرى ويدرك ما لا يدركه الأخرون!!
يرى النّاس تمسح الأحذية لقاداتهم وزعمائهم، ويسكنهم القلق والحيرة إذا رأوا ذرة غبار تمسّ أحدهم. يرى النّاس تهتف للظّالم وتعترف باستقامته رغم اعوجاجه الفاضح! يرى كيف أنّ الهديّة القيّمة تقدّم للأثرياء والولائم الشّهيّة لمن به تخمة. هو يدرك أنّ الدّنيا لا تعطي محتاجاً، فالمحتاج يفوز بالملابس البالية ولا يحظى إلّا بفتات الموائد.
ضحك النّاس دون خجل حين عُلّق " أحدب نوتردام " على وتد التّعذيب، وكأنّهم يرون مهرّجاً جاء ليقدم لهم عرضاً ترفيهيّاً. هؤلاء المجانين يظنّون أنّه لا يشعر، وفي داخلهم قناعة أنّه سيلقى قسطاً من التّعذيب الّذي يليق بضعيف، معاق، في ظهره حدبة، أصمّ ويرى بعين واحدة. يُضرب "أحدب نوتردام" ويُجلد والنّاس تضحك! كلّما توجّع أكثر كلما عصفت به رياح الضّحك أكثر فأكثر. هو أصمّ لا يسمع صوت الضّحك، ولكن بعينه الوحيدة يرى ما لا يُرى ويدرك ما لا يدركه الضّاحكون!!
يرى كيف يموت ضمير الجلّاد حين يحفّزه ضحك الجماهير من حوله فيستمر دون توقف. يرى خلف وجوه الضّاحكين نفوساً يسكنها ظلام دامس. لم تؤلمه ضربات السّوط بقدر رؤية أشباح الجماهير الضّاحكة واستهتارها به. هو يدرك أنّ المجتمع من حوله يشبه الأفعى حين يلسع وأقسى من ضرب السّياط حين يصفع.
لم يكن "لأحدب نوتردام" مفرّ سوى أن يغمض عينه الوحيدة، وأن يخفي رأسه بين كتفيه مستسلماُ لجلّاده وهارباً من جمهور الضّاحكين. ولحسن حظّه لم يرَ حدبته حين برزت أكثر بعد أن تقوقع على نفسه، مما أدّى إلى تفاقم حجم الضحك لدرجه التّشدّق.
حين توقّف الجلّاد عن التّعذيب، تلاشت أصوات الضّاحكين بعد أن لوّثوا الهواء بزفير قهقهاتهم المؤلمة، ثمّ انصرفوا وكأنّ شيئاً لم يكن. وألقى الجلّاد "بأحدب نوتردام " أرضاً ورمقه بنظرة أقسى من ضربات السّوط. ثمّ غادر وهو يشرب من كأس بطولته الوهميّة وينتشي سكرة النّصر.
بكى "أحدب نوتردام" بعد أن وجد نفسه وحيداً في حلقة من فراغ، تماماً كما كان وحيداً بين جمهور الضّاحكين. ها هو يغرق في بحر آلامه وأحزانه ونفسه المعذّبة تحلم بطوق النّجاة. ثمّ فتح عينه الوحيدة متأملاً بمأساته ومحدّقاً بالفراغ الإنساني الّذي يحاصره، وبعينه الوحيدة يرى ما لا يُرى ويدرك ما لا يدركه الضّاحكون!!
يرى أنّ جمهور الضّاحكين الذّي سخر من حدبته وضحك من أساليب التّعذيب التّي ذاقها، هو نفسه الجمهور الذّي يهتف ويصفّق لقائد، ظالم، متكبّر، صاحب ثروة وكلّ من يرتدي مئزر الّزّيف الاجتماعي. جمهور الضّاحكين الذّي لم يفكّر بإنقاذه، هو نفسه الذّي يحني الرّقاب ويخرّ خاضعاً لمن هو أقوى منه. جمهور الضّاحكين الذّي لم يشعر بآلامه حين تعذّب، هو نفسه الذّي يفعل المستحيل من أجل إرضاء أسياده الكثر. جمهور الضّاحكين الذّي راقت له صورته حين تلوّى من شدة آلامه، هو نفسه الذّي يسلّم السّوط لجلّاده ويصفّق له مهما فعل. جمهور الضّاحكين الذّي لا يعرف للعدل معنى، هو نفسه الذّي رسم ميزان العدل متوازناً فوق رأس قاضٍ أصمّ.
" أحدب نوتردام" يدرك أّنّ النّاس من حوله أشباح تسير في طريق الضّلال، يدرك أن النّاس من حوله تجسّد مسرحاً للدّمى، فيتصرّفون وفقاً للخيوط التّي تربطهم بمن يفوقهم. لا يتطاولون بأعناقهم للنّظر إلى أعلى لأنّهم اعتادوا على سجن آفاقهم المغلق. يخافون من الحرّيّة فلا يجرؤون أن يقطعوا الخيوط التّي تحرّكهم كما تشاء أسيادهم. وهكذا يستمرّون بالرّقص طالما هم مراقبون بنظرة فوقيّة.
أغمض " أحدب نوتردام" عينه الوحيدة وفارق الحياة، بعد أن هزمته جميع المعارك النّفسيّة، الجسديّة والاجتماعيّة التّي خاضها. فكم من أحدب بيننا يعاني ويتعذّب ويموت ألف مرّة في اليوم ولا أحد يسمع شكواه. وكم من مجنون بيننا يرقص ويضحك على خشبة مسرح الدّمى وتحت سيطرة من يفوقه من مجانين. يرون بأنفسهم عقلاء وأحراراً ولا يدركون أنهم مجانين.... عبيد.... ضحايا.... وأشباح يملؤها الفراغ.

البقيعة

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة