الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 15:02

ذكريات لا مذكرات/ بقلم: الشيخ كامل ريان

كل العرب
نُشر: 04/06/18 08:07,  حُتلن: 14:18

الشيخ كامل ريان:

كنت كما انا دائما وكما انا اليوم معتدلا ووسطيا في تفكيري ومنهجي، معارضا لأي نشاط غير قانوني مهما كان نوعه او صفته

الجميع أراد أن يشجعني.. الكل يحاول إسنادي ودعمي.. "لا تقلق، نحن معك، ونؤمن بعدالة طريقك". كانت هذه أعظم الكلمات التي سمعتها والتي خففت عني وعن زوجتي كثيرا جدا

كنت حينها في أوائل العشرينات من عمري، وكنت ناشطا له حضوره في الحركة الإسلامية، لكني لم أكن على علم بالتنظيم (أسرة الجهاد)، كما أنني لم اتصور أن ناشطين آخرين في نيتهم أن يمارسوا الجهاد النشط ضد دولة إسرائيل، بما في ذلك وضع خطة للحصول على أسلحة، وتنفيذ عمليات بهدف إلحاق الضرر بالقطاع الاقتصادي اليهودي.

قبل أشهر قليلة من واقعة فصلي من جهاز التعليم، نجح جهاز الأمن العام (الشاباك) في الكشف عن التنظيم، ونفذ حملة كبيرة من الاعتقالات شملت رئيس الحركة الإسلامية الشيخ عبدالله نمر درويش - رحمه الله - وعددا من القيادة والكوادر، انتهت بتقديم لوائح اتهام، لتصدر بعد ذلك الأحكام التي تراوحت بين سنيتن ونصف وحتى خمسة عشر عاما.

كنت كما انا دائما وكما انا اليوم معتدلا ووسطيا في تفكيري ومنهجي، معارضا لأي نشاط غير قانوني مهما كان نوعه او صفته. كان (الشاباك) مـتأكدا أنني كذلك، وأنني لن انخرط في أي عمل عنفي، ناهيك عن حمل السلاح وتنفيذ اعمال عسكرية.

كذلك كان زملائي في الحركة الإسلامية والعمل في النقب، واعين لهذه الحقيقة عني، ولذلك لم استغرب عندما تكشفت التفاصيل المتعلقة بتنظيم (أسرة الجهاد)، ان أحدا من زملائي وإخوتي في الحركة لم يُطلعني على اية معلومات حول الموضوع، عوضا عن الطلب لي بالانضمام إلى عضوية التنظيم والمشاركة في اجتماعاته والمساهمة في تنفيذ عملياته. كانوا واعين تماما إلى أنني كنت سأمنع بكل طريقة خروج هذا المشروع إلى حير التنفيذ، وسأعرقل اعماله بكل قوة، ولذلك فضلوا الإبقاء على التنظيم سرا إلى أبعد الحدود رغم تواصلنا اليومي والدائم معا، خصوصا في فترة علمنا المشترك كمعلمين في مدارس النقب العربي.

كان من بين المعتقلين رئيس الحركة الإسلامية الشيخ عبدالله درويش، والشيخ عمر صرصور، والشيخ حمدالله عوض طه، والشيخ يوسف محمد طه، وهم من كفر قاسم، والشيخ فريد أبو مخ وآخرون من باقة الغربية، وآخرون من قرى قلنسوة وأم الفحم وجت، كما تم فصل عدد من المعلمين ب – (تهمة!!) العضوية في الحركة الاسلامية مثل الشيخ عبدالحكيم سمارة، والشيخ تيسير بدران.

بالرغم من ان (الشاباك) كان يعرف تماما أنني لم تكن لي أية صلة مباشرة أو غير مباشرة مع تنظيم (أسرة الجهاد)، وأنني بريء من أية تهمة يمكن ان توجه إلي في هذا السياق، إلا أنه قرر تقييد خطواتي، والتنكيل بي، وملاحقتي في كل شيء حتى في مصدر رزقي الوحيد في ذلك الوقت (جهاز التعليم).

كان انتمائي للحركة الإسلامية كافيا ل - (الشاباك) لكي يتخذ أقسى الإجراءات ضدي، وينزل بي أقسى العقوبات، حتى لو لم أكن مذنبا قانونيا في شيء.. كانت الملاحقة سياسيةً بامتياز، لا علاقة لها بالقانون وإجراءاته. كان هدف جهاز المخابرات واضحا.. أراد ان يجعل مني عبرة لمن يعتبر، ودرسا لكل أبناء الحركة الإسلامية وأنصارها ومؤيديها. لقد كان الشاباك مخطئا تماما، فقد زادتنا إجراءاته عنادا وإصرارا على المضي في طريقنا إلى النهاية..

تم استجوابي مرات ومرات، إلا أنه تم الإفراج عني على الفور. لم أُقَدَّم للمحاكمة يوما.. كانت تهمتي الوحيدة أنني ابن للحركة الإسلامية التي تم إدانة بعض قياداتها وكوادرها بتهم أمنية، وصدرت ضدهم احكام قضائية.. كان عقاب (الشاباك) موجعا معنويا، إذ مَسَّ العصب الحي، وأصاب جانبا حساسا في حياتي وحياة أسرتي.. استهدف جهاز المخابرات (حُلُمي) الذي قضيت زهرة مرحلة الشباب في رسم لوحته وتركيب قِطَعِهِ قطعة قطعة.. ألحَقَ القرار بفصلي من جهاز التعليم أذا كبيرا بِحُلُمِ طفولتي، وأمَلِ اهلي في ان أصبح معلما..

لقد كانت صدمة حقاً.. كانت أسوأ اللحظات التي مررت بها، لم أكن أعرف كيف أهضمها. بعد الاجتماع في القدس مع أحد عناصر "الشاباك" والذي كان يعمل موظفا في القسم العربي في وزارة التعليم، ورفضي بعناد وشموخ كل مساوماته وإغراءاته التي شعرت أنها جاءت لتغتال أجمل ما أحمله من مبادئ دينية ووطنية، بعد هذا الاجتماع، عدت إلى مدينة بئر السبع.. مكثت هناك لمدة أسبوع أفكر فيما سأفعله.. أين سأذهب من هناك. ماذا بعد؟! كان القرار صعبا أيضا بالنسبة لزوجتي، إلا انها لم تبكي ولم تنكسر، لأنها امرأة قوية جداً.. انا أيضا لم أنكسر.. قامت زوجتي فاطمة بتهدئتي.. إنه الايمان الذي يلامس شغاف القلب.. لقد كان إيمانها أعمق من أيماني.. لقد أمدني إيمانها وتسليمها بقضاء الله وقدره، وتفويضها أمرنا إلى الله، بقوة معنوية عجيبة.. ظلت تتحدث عن أن الله سيحمينا، وهو يرى كل شيء، ويعلم نوايانا، ولا بد ان يجعل لنا من هذا الضيق مخرجا، ومن هذا العسر يسرا.

أقمنا لمدة أسبوع آخر في النقب.. قمنا بجميع الترتيبات اللازمة لمغادرة المكان لفترة غير محددة من الزمن.. أعدنا الشقة التي استأجرناها لسكننا، ودفعنا الفواتير المستحقة.. بعد أسبوع قمنا بحزم حقائبنا وعدنا إلى منزلنا في قريتنا كفر برا، دون أن أعرف إن كنت سأرى طلابي مرة أخرى ام لا!

وصلنا إلى القرية حاملين حقائب السفر.. لقد كانت لحظة عصيبة حينما التقيت بأبي وأمي.. كانت لحظة عصيبة أكثر عندما أخبرتهم بما حدث.. نظرت أمي إليَّ ولسان حالها يقول: " قلت لك.. لقد حذرتك من هذه النتيجة!".. الحقيقة ان أمي نصحتني في أكثر من مناسبة ان أضبط نشاطي في الحركة الإسلامية، وأقننه تقنينا.. ولكن في اللحظة التي رأتني فيها في المنزل، عانقتني مثل كل أم على الفور وهدأتني. كنت في اضطراب عاطفي غير عادي. بكت أمي القوية متأثرة بما حدث، وبما كنت أنا وزوجتي نمر به.

اما أبي فتحدث بشكل أكثر موثوقية: "لماذا وصلت إلى هذا الوضع؟".. بماذا عساي أجيب على سؤاله؟! كان الأمر أكثر من مسألة شرف.. من حيث المبدأ، الآباء يريدون بطبيعة الحال أن يعيشوا حياة هدوء واستقرار قدر المستطاع، وأن يكبر أطفالهم ويحققوا احلامهم وذواتهم، ويحتلوا مواقعهم المحترمة في مجتمعهم.. ان ينجحوا في تأمين حياة كريمة، وتحقيق الأمان الاجتماعي والاقتصادي المطلوب، وشُغل وظيفة محترمة تضمن دخلا منتظما يؤسس لحياة مستقرة وهادئة وهانئة. لا يريد الاهل أكثر من يروا أبنائهم سعداء.. هذا أمر طبيعي جدا.

إلا ان اللقاء بوالدي في تلك اللحظة كان أثقل من ان يحتمله قلبي وروحي، إن لم يكن ذاك بسبب ما حل بي، فسبب هَمِّ والدي اللذين لا ذنب لهما في كل ما حدث! كان الجو صعبًا والإحراج كبيرا.

انتشر الخبر بسرعة.. جاء إخوتي مشجعين وداعمين. فعل أخوالي وابناؤهم ما فعله إخوتي.. الكل يحيطنا بالحنان، ويبحث عن كلمات المواساة المناسبة.. الكل يمد يديه الحانية ليربت على كتفي في مهمة مستحيلة للتخفيف من شدة العاصفة الهوجاء التي تجتاح اعماقي من قمة رأسي حتى أخمص قدمي! كذلك جاء أصدقاؤنا أيضاً من أعمالهم مباشرة إلى بيتنا لمواساتي. تحول البيت أشبه ما يكون بخيمة عزاء.. كان الجو في المنزل كئيبا كما لو فقدت الاسرة عزيزا. أصبح المنزل مَحَجّاً لكل الناس، فقريتنا صغيرة إلى درجة أن الجميع يعرف الجميع، وأن فرحا او مصابا يقع، يأتي بأهل القرية جميعا تقريبا. الجميع أراد أن يشجعني.. الكل يحاول إسنادي ودعمي.. "لا تقلق، نحن معك، ونؤمن بعدالة طريقك". كانت هذه أعظم الكلمات التي سمعتها والتي خففت عني وعن زوجتي كثيرا جدا.

مَرَّتْ ليلة، ثم أخرى.. مَرَّ يوم، ثم آخر.. بدأت الهواجس والاسئلة تهجم عليَّ دون رحمة. ما الذي سأفعله الآن؟! أعيش في المنزل مع والديَّ، أنا وفاطمة نسكن بالطابق العلوي، بينما والداي يسكنان في الطابق الأرضي. صحيح أن زوجتي فضلت أن نعيش في بيت مستقل، وقد وعدتها فعلا بأننا سيكون لدينا منزل خاص بنا، لكن القدر أراد شيئا آخر. عشنا في منزل والدي مدة عشر سنوات تقريبا، انتقلنا بعدها إلى منزلنا الجديد.

لقد كانت مِحْنةً بكل المعايير والمقاييس، ولكن (فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، و (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).. تَبَدَّتْ جوانب إيجابية أيضًا من هذه القضية.

دائما ما تكون هنالك حكمة في كل ما يصيبنا من ابتلاءات، قد تخفى أحيانا، لكنها حتما ستنكشف واضحة ليلهج لسانك بعدها: سبحانك اللهم ما اعظمك، وما احلمك، وما احكمك، وما أرحمك! يتبع.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net   

مقالات متعلقة