الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 19:01

لا يوجد حبّ مجرّد.. كما أظنّ وأرى/ بقلم: مهند الصباح

مهند الصباح
نُشر: 20/02/18 11:35,  حُتلن: 19:03

مهند الصباح:

نحن نحبّ لأننا نريد ملء فراغ ما في داخلنا، ولا نحب الأشياء لذواتها الخالصة

بعض الأشخاص يحبّون المال وجمعه فتراهم في سبيله يزيلون كل عقبة تقف أمامهم من بشر وأصدقاء وعائلة، ويلقون بالقيم الإنسانيّة خلف ظهورهم لدرجة استعدادهم للتضحيّة بذواتهم مقابل الإشباع المادي

الحب هو عمليّة أشبه ما تكون بالميكانيكيّة في أرقى أشكالها، وثقوب سوداء في أسوأ حالاتها؛ تبتلع النجوم ولا تفرزها من جديد. وأية علاقة غير قائمة على السمو الإنساني المجرّد والبحت لا يمكن أبدا أن نصفها بالعلاقة المهذّبة

الإنسان عبارة عن كائن حي يتفاعل مع البيئة والمحيط من حوله، يتأثر ويؤثر سواء بالسلب أو الايجاب، فهو كائن دينامكي متحرّك، تختلف احتياجاته ورغباته باختلاف الحيّز- المكان- والفاعلين فيه وتتأثر رغباته وطموحاته بمركبات هذا الحيّز، وبما أنّه كائن متحرّك فهو متطور من حيث المادة( الجسد) ومن حيث متطلباته العاطفيّة النفسيّة (الذات)، ومن أهم المتطلبات العاطفيّة النفسيّة هي حاجته الماسّة في انغماسه في حبّ الأشياء التي تتواجد في محيطه. حبّ الأشياء هو فطرة جُبل عليها الإنسان منذ أن شقّ طريقه في هذه الحياة، فيصرخ باكيّا لحظة ولادته ليعلن عن وجوده بقوّة لمن هم حوله؛ وليعلن عن حاجته لإشباع رغباته الأوليّة من أمّه، وكلما كبر وتقدّم الطّفل بالعمر يتسع ادراكه وتزداد رغباته وشغفه في الاكتفاء البيولوجي والنفسي. الحبّ هو السرّ المحرك للإنسان ودافعا قويّا لانتقاله من مرحلة إلى أُخرى؛ وسرّ علاقته بالطّبيعة بكافّة مكوناتها، فحب الذات وتحقيقها حاجة، وحب الآخرين من كلا الجنسين حاجة، وحب الانتماء للجماعة وحب الوطن حاجة أيضا، وانتقاله من مرحلة إشباعيّة جديدة يعتمد بالضرورة على إشباعه للمرحلة التى سبقتها، فلا يمكن أن نرى إنسانا يسعى لتحقيق ذاته وهو مازال في مرحلة البحث عن كسرة خبز يسدّ بها جوعه!

ولفهم ماهيّة الحبّ لا بد من اخضاعه لنظريّة النُظم العامّة لعالم الأحياء الألماني برتلانفي ولمطوّر النظرية لاحقا الاقتصادي بولدينغ، حيث أنّ هذه النظرية يمكن تطبيقها على كل شيء في الطّبيعة و هي قادرة على تفسير العلاقة بين ساكنيها – الجماد منهم والمتحرك المتفاعل-.
الحبّ؛ هو الدّافع المركزي لحصول المُحب عما يبحث ويريد من أمور ماديّة ومعنويّة ونفسيّة. ولتوضيح ذلك، نلاحظ بأنّ الطّفل لا يستطيع الاستغناء عن مرضعته- ليس بالضّرورة أن تكون أمّه البيولوجية- و يلتصق بها كي يحصل هو على ما يشاء من حليب يمكّنه من الاستمرار في الحياة، فهذه جُلّ ما يعرفه أو يحتاجه في مراحل حياته الأولى في سبيل إشباع رغباته الأوليّة من التنفّس والغذاء. وبالمقابل تتيح الأمّ لرضيعها الحصول على القدر الذي يشاء من الحليب، وفي هذه الإتاحة أيضا اشباعا لرغبة الأمومة الفطريّة لديها، هو يريد مردودا ماديّا – الحليب- من علاقته بمرضعته وهي تريد من هذه العلاقة مردودا عاطفيّا- تغذيّة شعور الأمومة-، كلاهما غير واع بالكامل لطبيعة العلاقة الناشئة والرابطة فيما بينهما، ربما يمكننا تفسير علاقة الطفل بمرضعته في هذه المرحلة بالعلاقة طفيليّة، وربما يُنظر لعلاقة المرضعة بالرضيع بالعلاقة التكافليّة.

حين يتّسع إدراك الإنسان للمحيط من حوله فإنّ حبّ الذات يتطور لديه بشكل طردي، وينتقل لمرحلة جديدة يسعى فيها لإشباع متطلبات حبّه المتبلورة، سواء بمستوى إدراكي أم بدونه، المهم هو تحقيق الرغبّة. فإن هو لم ينضج في وعيّه الذاتي فسيصرّ على البقاء في اطار السعي وراء اشباع حاجاته دونما مقابل يقدّمه؛ وهذه هي أعلى مراتب الأنانيّة، وإن هو وصل لمرحلة التوازن النفسيّ والدّاخلي والفهم الخارجي الصحيح؛ فسيدرك بحتميّة البذل بكافّة نواحيه مقابل استجلاب المنفعة لشخصه بشقيّها النفسي والبيولوجي، وفي ذلك شيء من الأنانيّة المقننة اجتماعيّا، أو بمعنى آخر حب العطاء طلبا للمردود.
ليس هناك حبّ نقي بلا مقابل؛ سواء كان ماديّا أو معنويّا، بعض الأشخاص يحبّون المال وجمعه فتراهم في سبيله يزيلون كل عقبة تقف أمامهم من بشر وأصدقاء وعائلة، ويلقون بالقيم الإنسانيّة خلف ظهورهم لدرجة استعدادهم للتضحيّة بذواتهم مقابل الإشباع المادي، وبعض الآباء يبذلون كل مستطاع لأبنائهم؛ وهذا اشباع جارف نحو تحقيق لذّة شعور الأبوة لديهم.

أمّا الحبّ العاطفي للجنس الآخر، فيتعمد على طرفين- الذكر والأنثى- ، حيث يرغب كل طرف لملء الفراغ الموجود لديه، فإنّ الرجل يبحث عن الأنثى التي تمتلك ما يطلبه من فكر وجسد، وعلى ذات المقياس هي المرأة تجاه الذكر. فيمكن استبدال الحبّ بمصطلح الإشباع المتبادل بين الأطراف المنجذبة لبعضها البعض، وبزوال الموجات الجاذّبة بين الطرفين يحدث النفور والتباعد، ويبدآن عمليّة البحث الإشباعي من جديد. قد يتشبث أحد الأطراف بالطرف الآخر، وتشبّثه هذا ناتج عن عدم وصوله إلى مرحلة الإشباع التام من الشريك، بيد أنّ هذا التنافر غير معتمد بالضرورة على تراضي الطرفين؛ وإنّما يكفي لتنافرهما قرار احادي فردي، مما يدلل على فحوى حب الأشياء ( الماديّة والعاطفيّة) والقائم بالأساس على الأنانيّة الإشباعيّة سواء كانت في أعلى مراتبها أو في أدناها.
نحن نحبّ لأننا نريد ملء فراغ ما في داخلنا، ولا نحب الأشياء لذواتها الخالصة. نحبّ الزهور فنزرعها في حديقة المنزل ونسقيها حتى إن تفتحت وأيعنت نقطفها ونضعها في مزهريّة داخل البيت لتذبل مع الوقت فلنقيها في القمامة، نحبّ المرأة ونصرّ على الارتباط بها حتى لو كان الأمر عنوّة وجبّرا لها، نحبّ اللحم فنزهق روح الماشيّة وننهشها نهشا على موائدنا. نحبّ أطفالنا فنصادر شخصيتهم ونحتل كينونتهم لمجرّد اشباع لعاطفة الأبوّة والأمومّة لدينا.
إذن نحن لا نحبّ حبّا مجرّدا، إنما علاقتنا مع الطّبيعة بكل ما فيها هي علاقة احتياج قسري وطوعي غير نقيّة البتّه قائمة على الإشباع . ولكي نجمّل هذه العلاقة ونهذّبها نطلق عليها اصطلاحا " الحب "؛ لأن الأطراف المتحابّة مجبرة عليها. وحين نريد نقدها ننعت أحد أطرافها بالأنانيّة الغليظة.
إذن ما هو الحب بالنسبة لنا نحن البشر؟ وهل حقا الحبّ يهذب الروح؟

الحب لدينا نحن البشر عبارة عن تبادل مصالح وتحقيق أهداف ملموسة وغير مرئية محسوسة. الحب هو عمليّة أشبه ما تكون بالميكانيكيّة في أرقى أشكالها، وثقوب سوداء في أسوأ حالاتها؛ تبتلع النجوم ولا تفرزها من جديد. وأية علاقة غير قائمة على السمو الإنساني المجرّد والبحت لا يمكن أبدا أن نصفها بالعلاقة المهذّبة.
 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة