الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 22:02

الدستور الجديد/ بقلم: نعمان عبد القادر

كل العرب
نُشر: 30/10/17 10:50,  حُتلن: 07:59


 

الناس في حياة شبه قبليّة، ولكنّها بدائية مليئة بالخوف. خوف من المجهول، وخوف ممن ينذر من المجهول. هكذا هو حال تلك القرية النائية، وتدعى "دير الجمال". سادها جوّ من عدم الاستقرار بعد أن انتشر العنف، وعمّ الفساد، واستُوردت الرذيلة من المدن البعيدة. معبدهم الذي أنشئ منذ مئات السنين يتوسط القرية، تصدر منه فرمانات الكهنة باستمرار، وما يصدر يؤمن به معظمهم ويعظّمونه، بل ويقدّسون الكهنة أيّما تقديس. الفساد والعنف والرذيلة لا ضير، ولكنّ المعبد والكهنة، لهما مكانة في القلوب، حتّى عند الأشرار من الناس، وهما خطّ أحمر لا يجوز تجاوزه.

صادف أن قدم فريق من المستكشفين الأجانب إلى "دير الجمال" صباحًا. حمل بعضهم كاميرات تصوير، وجميهم حملوا على ظهورهم حقائب سفر، جابوا القرى في مهمة استكشافيّة، والتقوا بلفيف من المثقفين، فاستضافوهم في بيوتهم وقاموا بواجب الضيافة على أكمل وجه. دعا الضيوف مضيفيهم لزيارة أوروبا ووعدوهم باستضافتهم ومساعدتهم في استقصاء واستكشاف ظروف الحياة الأوروبية وعلى نفقتهم الخاصّة.
تلبية المثقفين للدعوة جاءت سريعة، وما كادت تطأ أقدامهم أرض الوطن حتّى أحسّ كلّ واحد منهم أنه لا يملك إلا النداء بصوت عالٍ: "عاشت أوروبا! وعاش سكّانها!" عاد كل واحد وهو يطمح في تغيير الأوضاع من هذا الحال إلى أفضل حال، كما هو الحال في أوروبّا بمدنها وقراها. كانوا ثمانية، ولكنّ أحدهم -ويدعى "أبو أبولو"- عارضهم وتخلّى عن فكرهم، لحاجة في نفس يعقوب، مباشرة بعد عودتهم من تلك الرحلة والتي أُطلق عليها اسم "رحلة الاستقصاء في ظروف الحياة المثالية في المجتمعات الأوروبيّة السعيدة"، وقد وصفهم بأنهم يعيشون في عالم من الخيال.
السبعة أجمعوا على أنّ التغيير والإصلاح ينبغي أن يسبقه حملات توعية مكثّفة والسعي إلى بثّ روح الوطنيّة الجديدة، في المقاهي وفي المدرسة وفي الأحياء المختلفة من خلال عقد ندواتٍ للرجال والنساء والأطفال على حدّ سواء، ومن خلال طباعة نشرة يوميّة وتوزيعها على الناس مجانًّا. المهام توزّعت على أعضاء الفريق وانتشر الدّعاة والمبشّرون الثوريّون متسلّحين بعقيدة راسخة ثابتة ناصعةٍ في حبّ الوطن ولن يزعزعها أحد من أبناء الأرض. واعتبروا أنفسهم المخلّصين لأبناء قريتهم من ذلك الكابوس وليس من شأن أحد غيرهم أن يقودهم إلى الخلاص. "أيّها الناس! من كان فيكم يحبّ العيش في جاهليّة عمياء، وتشنّج فكرٍ، فله شأنه، ومن كان يرغب في العيش في حريّة كاملة وسعادة تامّة، فعليه أن ينتهج منهجنا هذا، في يومنا هذا! فلا ثأر بعد اليوم، ولا عصبيّة بعد اليوم، ولا رجعيّة بعد اليوم".
فَرَحُ الناس وتهلُّلِ وجوههم واستعدادهم الحماسيّ للتغيير والعيش وفق دستور جديد، فاق كل توقُّعاتهم. وكانوا يخرجون بوجوه متلألئة كالنجوم في السماء وهم يقولون: "ألا ليت هذا التغيير قد زارنا من زمااااااااااان".
وفَرَحُ النساءِ فاق فَرَحَ الرجال لأنّها علمتْ أن الفرج والتّحرّر من عبوديّة الرجل ومن الرهبنة البغيضة، باتا قريبين. راحت كلّ امرأة تبحث عمّا لها في الخزائن من ملابس العبوديّة وتمزّقها إربًا إربًا، ثمّ تجمعها في كومة قرب المعبد وتصبّ عليها الكاز وتشعل النّار فيها. وفي الجو انتشرت الروائح حتّى كادت تخنق الرضع من أطفال الحيّ.

لو التزم الكهنة الصّمتَ، لكان خيرًا لهم، ولتفادوا غضب الناس عليهم.. فتاواهم الّتي صدرت عاجلة ومستعجلة، والتي تحرّم كلّ التّغييرات جملةً وتفصيلا؛ لأنّها تمسّ العقيدة والميراث والشريعة الكهنوتيّة، انصبّ عليها غضب النّاس كالحريق الّذي يلتهم القشّ اليابس. واجتمع القوم كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، في الساحة العامة يهتفون بحماس تأييدًا لقادة التّغيير وهم يقولون: "عاش الإصلاح! ولتسقط الرّجعيّة الّتي أشبعتنا وعودًا آلاف السّنين!". ثمّ تُليت بنود الدّستور الجديد بندًا بندًا على مرأى ومسامع النّاس جميعًا وقطعوا على أنفسهم عهدًا، على أن يصنعوا التغيير بأنفسهم في الحال، وأن تُنتزع الأسوارُ من حول البيوت، وتُزرع الأشجار والورود في مكانها. والمطبّات يجب ألّا يتأخّر الناس عن إزالتها من الشّوارع. والتّعليم يجب أن يكون على رأس سلّم الأولويّات بحيث يُدرَّسُ الطّلاب الفنون الّتي كانت محظورةً ويتمّ التّركيز فيها على العلوم العقليّة بدلاً من العلوم النقليّة. والنّساء يُسمح لها بالخروج متى تشاء إلى حيث تشاء، وتُقتلع القضبان الحديديّة الّتي تحمي النّوافذ وتحمي البيوت. ويتمّ إزالة الكاميرات في غضون أسبوع من على أسطح المنازل ويلتزم النّاس بعدم إلقاء النفايات في الشوارع وتحويل المزابل إلى متنزّهات وضمان حقوق المرأة والحريّة الفكريّة وعدم التدخّل بخصوصيّات الآخرين، والأهم من كلّ ذلك التّقليل قدر الإمكان من زيارة المعبد لأنّ العقل هو مصدر التّفكير من أجل حلّ جميع القضايا في جميع نواحي الحياة. وبدلاً من جمع الأموال بحجة خدمة وترميم المعبد تُخصّص جميع التّبرعات لبناء مدرسة جديدة، ونادٍ، ومتنّزه، وإرسال الطّلبة إلى الجامعات من نفس الميزانيّة وتكريم المخترعين والمبتكرين. وإن احتاجت بعض القرى المجاورة المساعدة يُلبّى النداء في الحال.
قلّ عدد زوّار معبد "دير الجمال" في اليوم التّالي، وتحرّر النّاس من العبادات، فتذمّر الكهنة و"أبو أبولو" وقالوا وهم يتمتمون: "هذا دستور جديد لا يناسبنا ويستحيل تطبيقه في قريتنا، وهذا التغيير سينقلب عليهم وبالاً، ولكنّهم قوم لا يفقهون".

فرح أهل القرى المجاورة بذلك التّحوّل وهرعوا لزيارة "دير الجمال" المتحوّلة، بأعدادهم الغفيرة؛ لرؤية ما استجدّ فيها، وتمنّوْا وهم يتحسّرون أن ينال قراهم التّغيير المناسب في الوقت المناسب. وبقدرة قادر صارت "دير الجمال" قرية سياحيّة في غضون أسابيع قليلة. وانتعش الاقتصاد فيها وافتتحت محالّ تجاريّة جديدة متنوّعة.
مرّ عام ودُعي أهل القرة لاحتفال كبيرٍ في الهواء الطلق احتفاءً بالعيد الأول لاستقلال قريتهم عن باقي القرى ونيل حريّتها وكرامتها. لم يبق في البيوت أحد إلا وهرع للمشاركة في الاحتفال العام، إلّا الكهنة و"أبو أبولو" فقد نادوا بمقاطعة الاحتفال وتحريم المشاركة فيه تحريمًا قطعيًّا. عاد الناس من الاحتفال ووجدوا بيوتهم قد حُطّمت نوافذها وتمّ اقتحامها وسُرقت أموالهم وحليّ نسائهم وأملاكهم الثمينة.. تشفّى رجال الدّين و"أبو ابولو" بذلك وسعدوا؛ لأنّ النّاس عادوا إلى صوابهم. وفي اليوم التّالي كان "أبو أبولو" وكبير القدّيسين يقودون مظاهرة كبيرة متوجّهين إلى مكان الاحتفال رافعين الدستور عاليًا وهم يهتفون بأعلى أصواتهم: "نرفض الفكر المتشنّج رفضًا قاطعًا، لن نرضخ للتغيير ولا نرضى بسياسة التجهيل"، ثم مُزّق الدّستور الجديد، ودعوا إلى محاكمة "رجال التّغيير" فورًا. فرّ "رجال التغيير" من القرية قبل إلقاء القبض عليهم وصلبهم، خوفًا على حياتهم، ثمّ عاد المعبد يزدحم بالمصلّين.

مقالات متعلقة