الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 13:01

الانتخابات الأمريكية وأزمة الإعلام/بقلم: سليم سلامة

كل العرب
نُشر: 10/11/16 21:07,  حُتلن: 07:26

سليم سلامة في مقاله:

ترديد سيوليّ كسول لحشد من المفردات تتراوح بين "مفاجأة"، "خيبة أمل"، "صدمة"، "هزة"، "زلزال"، وكل ما يدور في فلكها الدلاليّ، سواء كان واعياً أو باطنياً

المشكلة في مَن يصنع الاستطلاعات... مَن يصممها، بالنص والصيغة والإطار، على مقاس رغباته ونزعاته ومصالحه التي يثبُت، مرة تلو أخرى

المسألة الجوهرية هنا هي المرجعيات الفكرية ـ السياسية ـ الاقتصادية ـ الثقافية التي تقرر منطلقات وسائل الإعلام هذه وتصوغ أجنداتها وتحكم أداءها

وسائل الإعلام هذه هي ذاتها التي "أخفقت" في توقع/تنبؤ نتائج تصويت الشعب البريطاني حول الانفصال عن الاتحاد الأوروبي قبل بضعة أشهر

لنتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في سطرها الأخير وعنوانها الأهم ـ فوز دونالد ترامب ـ نتائج ارتدادية في أكثر من مستوى ومجال، لا بد من مقاربة خلفياتها، مسبباتها وجذورها، ومحاولة تحليلها من زوايا عديدة ومختلفة. لكنني أختار، هنا، التوقف عند ما يخص الإعلام عامة، والمهيمن منه تحديداً، على مختلف وسائطه وانتماءاته.

ولنبدأ من نقطة ما بعد النهاية: ترديد سيوليّ كسول لحشد من المفردات تتراوح بين "مفاجأة"، "خيبة أمل"، "صدمة"، "هزة"، "زلزال"، وكل ما يدور في فلكها الدلاليّ، سواء كان واعياً أو باطنياً. وهو أداء لا يثير في حقيقة الأمر سوى الكثير من الازدراء والقليل من الشفقة. ذلك لأن هذه المفردات، وسواها الكثير، لا تقرأ الواقع على حقيقته ولا تعكس وقائع الأحداث وإيقاعها. لا تعبر إلا عمّا يدور على السطح، على مسافات بعيدة جداً عن حركة الحياة ومفاعيلها في تيارات تتدفق في الأعماق. وهي لا تعبر، بالتالي، سوى عما رسمه هؤلاء بأنفسهم وما أشاعوه من "جو عام" تلقفته ماكينات الإعلام المدججة بأرفع التقنيات الحديثة وأكثرها تطوراً، من جهة، وبأوضَع المضلِّلين المنقطعين عن الواقع وأكثرهم تفاهة، من جهة أخرى.... هؤلاء، أنفسهم، هم "المتفاجئون"، "الخائبون"، "المصدومون"، "المهزوزون"، "المزَلزَلون". هم وكل مَن يلعب في ملاعبهم، يتزود ببضائعهم الفكرية ـ الثقافية ويتغذى على وجباتهم الإعلامية.

غير أن هذا الأداء ليس وليد صدفة، قطعاً، ولا هو نتاج "خطأ" في الحسابات أو في الرؤى الإعلامية. فالمشكلة ليست في "الاستطلاعات". ولم تكن كذلك يوما من الأيام. المشكلة في مَن يصنع الاستطلاعات... مَن يصممها، بالنص والصيغة والإطار، على مقاس رغباته ونزعاته ومصالحه التي يثبُت، مرة تلو أخرى، أن لا قرابة بينها وبين "الرأي العام" الذي تزعم النطق باسمه ولا علاقة بينها، البتّة تقريبا، وبين رغبات "الجمهور" الذي تدعي التعبير عنه وعن ميوله وتوجهاته!
لم يكن من الممكن العثور طوال أشهر عديدة، ولو بجهد كبير، على ما يمكن اعتباره استئنافا أو اعتراضا، حتى لا نقول تحدياً، لإجماع وسائل الإعلام، الأمريكية خصوصا والغربية عموماً (ناهيك عن الإسرائيلية والعربية أيضا، باعتبارها تابعة لا تحسن سوى اجترار ما تتقيأه تلك) على تسخيف ترامب وترشيحه، بداية، ثم تقزيم فرص نجاحه ثانيا، حد الاستهتار التام بكل ما كان يتراكم تباعاً من تأييد جماهيري، ظاهر وعلني أو صامت وخفي. لا بل ذهبت غالبية وسائل الإعلام الأمريكية، وتبعتها في ذلك وسائل الإعلام الغربية (والإسرائيلية والعربية طبعاً)، إلى التعامل مع مؤيدي ترامب بوصفهم "أشخاصاً" قد فقدوا أية صلة بالواقع ويعيشون الوهم، طقساً ونبراساً.

لكن وسائل الإعلام هذه هي ذاتها التي "أخفقت" في توقع/تنبؤ نتائج تصويت الشعب البريطاني حول الانفصال عن الاتحاد الأوروبي قبل بضعة أشهر. وهي نفسها التي "أخفقت" في توقع/ تنبؤ سيرورات وتطورات أخرى في مناطق أخرى من العالم من قبل. وإذا كان موقع صحيفة "واشنطن بوست" قد طمأن قراءه، قبل أقل من أسبوعين، بأن فوز هيلاري كلينتون سيكون "جدياً، لكن حاسماً"، وإذا كانت صحيفة "نيويرك تايمز" قد زفّت إلى قرائها، قبل يوم من الانتخابات، بشرى أن "فرص كلينتون في الفوز بالرئاسة تبلغ 84%"، فماذا يمكن أن نتوقع إذن من أية وسيلة إعلام أخرى من تلك التي ترتع في مستنقعهما، على امتداد الكرة الأرضية كلها؟

ذلك أن المسألة الجوهرية هنا هي المرجعيات الفكرية ـ السياسية ـ الاقتصادية ـ الثقافية التي تقرر منطلقات وسائل الإعلام هذه وتصوغ أجنداتها وتحكم أداءها. وهي مرجعيات الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، بما تقوم عليه من مصالح عابرة للشعوب والدول. هي التي تحدد أشكال التغطية الإعلامية ومضامينها، انطلاقا من التجاهل التام لكل الكتل الجماهيرية العريضة البعيدة عن المركز، الجغرافي والاقتصادي والسياسي، عدم إدراجها في أية حسابات "كبيرة"، إقصائها من المشهد العام واستبعادها عن أي احتمال للتأثير فيه وفي صيرورات تشكّله، لأن دورها في الحياة، حياتها هي وحياة مجتمعاتها، لا يخرج في نظر هذه الاحتكارات في نهاية المطاف عن دائرة "السوق الاستهلاكية".

هذه الكتل الجماهيرية العريضة ـ على اختلاف تركيباتها الإثنية، القومية، الديمغرافية، الاجتماعية والاقتصادية ـ تملأ الهوامش في عمل وسائل الإعلام هذه وأدائها، تكابد النبذ والإقصاء والتهميش، حد التغييب التام، ولا تشكل "مادة إعلامية" إلا في ما يساهم في توكيد وتكريس عجزها، تخلفها، قصورها، انحطاطها ومدى ضررها على "الحيز العام" أو، في المقابل، ما يساهم في توكيد وتكريس منظومة المفاهيم التي تخدم النخب (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) ومصالحها: "ضرورة" تفوقها، سموّ أخلاقياتها، كَرَمها وإحسانها ومدى عطائها لـ"الحيز العام".
ومن هذه الزاوية، ليس تجنّياً على الحقيقة اعتبار نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، في تراكماتها ومحصلتها، نوعاً من "انتفاضة مهمّشين" ضد هذه المنظومة الإعلامية، مرجعياتها وأدائها، تفضح عُري أزمتها التي يبدو أنها تقترب من نقطة الانفجار المحتومة، كجزء عضوي من أزمة الرأسمالية وأشكالها ومسمّياتها الحديثة، المتجسِّدة أساساً في الـ "نيو ليبرالية" و"اقتصاد السوق" و"السوق الحرة"، وفق شهادات عديدة صادرة عن منظّريها ودعاتها أنفسهم، أولاً. وهي "انتفاضة" تحمل، في إسقاطاتها وارتداداتها المحتملة، بذور تأثير وتغيير حتميين (أمريكياً، ثم عالمياً قبل أن نشعر بهما نحن هنا)، رغم الغياب الراهن لأية مؤشرات يمكنها أن تدل على أن المعنيين سيفقهون كنهَها ويستوعبون درسَها في مدى زمني منظور.

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة