الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 08:01

صُدْفَة !/ بقلم: أزهار أبو الخير- شَعبان

كل العرب
نُشر: 03/11/16 11:35,  حُتلن: 11:47

هُناك...
التقيا، هي ابنة الثلاثين وهو ابن الأربعة أعوام!
هُناك، في تلك الحفلة الصغيرة، في تلك المناسبة أرادت أن تجمعهما الصّدفة الغريبة، المؤلمة والمشوّقة في ذات الوقت، الصّدفة المتناقضة، الصّدفة الواقعيّة واللاواقعيّة في آن واحد! أراد الله أن يجمعها به لتولدُ عَبر تلك الصدفة لديها حُريّة من عُبوديّة آسرة مُدمرة يعيشها ويتعايش معها كل من حولها تقريبا!
هَرولت مُسرعة في منتصف حفلة عيد الميلاد لرؤيتها طفل يكاد يبلغ الأربعة أعوام قد وقع على الأرض دون حول منه ولا قوة، يرتجف ارتجافًا قويًا كانت قد جمعت المعلومات عنه خلال تعلمها للإسعاف الأولي، رأت في نفسها شخصًا بإستطاعته أن يقدم المساعدة لذلك الطفل الذي حرّك لديها مشاعر الأمومة السخيّة، ما أن وصلت إليه حتى بدأ بفقدان وعيه!
بين صُراخ والدته وفوضى الأطفال التي عَمّت أرجاء عيد الميلاد، وموسيقى سنة حلوة يا جميل والأضواء الملونة والمهرجين تواجدت هي!
هو بين أيديها! غائب عن الوعي تقريبًا، جسده يرتجفُ لنوبات تعتارهُ كل فترة وأخرى عند قيامه بمجهود غير عادي، إرتجفت يداها وهي تنظر إلى وجهه الطفولي، إلى عينيه، إلى تقاسيم جسده، رأت كل ما لا يمكن رؤيته في تلك اللحظة! بين أيديها ابن قاتل أخاها!!
تلاقت عَيناها مع عَينيّ والدة الطفل وتبادلا نظرات دَهشة وخوف وحُزن ورَجاء! لكنها سُرعان ما أحالت نظرَها عَنها لتوجههُ للطفل.
لم تعُد تلك الدقائق مُجرد دقائق! اختلطت لديها الأفكار والمشاعر، كيف لقدرها أن يضعها في مثل هذا الموقف؟ كيف عليها التصرّف؟ ما العَمل؟ كيف يُمكنها التهرّب؟ ولما التهرّب أصلا؟!
"ما ذنب هذا الطفل بفعلة أبيه؟
وما ذنب أخي الذي راح ضحية قاتل متوحّش؟ ما ذنب ابن أخي لكي يَربى دون أب؟
ما هذا الشبه الغريب بينهما؟!! وكأنه هو من أحمله بين يَدي! كم أكره والدك أيها الطفل, كم أود أن يتمنى المَوت دون حصولهِ عليهِ, ثأر جاءني على طبق من ذهب وليس فضة!
ماذا لو عَلمت أمي بالأمر؟ ماذا لو مَرّت أختي ورأتني أسعفهُ؟ لما لا يتألم والدك الحقير عليك كما تألم والداي؟"
هذا ليس سِوى مونولوج تناقضيّ مؤلم دارَ بَينها وَبَين نفسها وَهوَ يَرقد بين يَديها الناعمتين.
صِراع صارخ عَمّ أرجاء دواخلها, أفكار وعادات وتقاليد واجتماعيات عَلت رأسها في ثوان معدودة، شحنات سَلبية لم تجد تفسيرًا لوجودها أثناء تلك اللحظة! إلا أن صرخة ضميريّة إنسانيّة مُدوية خرجت من بين كل ذلك الصّراع وقالت لها: "تحرّري! فليس له أي ذنب، تحرّري! ولا تتعصبي وتنجرفي، لا يمكنك إدخال الجميع إلى نفس الحفرة كما يفعل الآخرون!
تحرّري! ولا تتخذي العصبيّة القبلية دربًا لك، تحرّري! فكل شخص في هذا الوجود وحده فقط مسؤول عن أفعاله!"
دَبَّ بها النشاط الغير متوقع! وبدأت تقدّم الإسعافات الأولية لهُ، تارة تضغط على صدره وتارة أخرى تزوده بالهَواء عَلهُ يرجع من غيبوبتهِ التي طالت قليلاً, تفعل كل ذلك بصَمت وكأنها باتت بَكماء! فهي تحاوره بصَمت وتعالجهُ بصَمت وتقول لهُ انهض يا صَغيري ولكن بصَمت أيضًا! لم تود لأيّ أحد أن يَسمع كلامها معهُ أو صَوتها المليء بالدّعاء، لم تُرد ذلك أبدًا لسبب جَهلتهُ ومازالت!
فتحَ عَينيهِ مع شهقة طفوليّة مَبحوحة كادَت تخنقهُ وتُنهي عُمره لو بقيت بَين قفص صدرهِ الصّغير.
أرفقت على جبينهِ قبلة هي نفسها لم تستوعب كيف أرفقتها فكل ما فيها يقول لها لا تفعلي! وهمسَت في نفسها "الله يحميك" في نفسها فقط! دون أن يسمع أحد همسها!
رَكعت الأم بجانبها وأخذت طفلها قائلة: "حمدًا لله، حمدًا لله" وَضمّتهُ ضمّة عَميقة بالضّبط كما ضَمّت والدتها شَقيقها أثناء جنازتهِ!
نفضَت عَن مَلابسها أي غُبار قد أثارهُ ذلك المَوقف، حَملت حقيبتها وَمَشت منتصبة القامة تحبس أنفاساً عميقة مؤلمة وتكتم دَمعة كان لا بُدّ أن تنزل أمام الحضور إلا أنها فضّلت غير ذلك.
غادرت تاركة أمهُ تتشكرها، غادرت غير مُبالية بما يقولون مِن مَديح أو شُكر! لم تلتفت للوَراء حَتى وكأنها خافت أن تلتفت فتفيض دموعها ويُفضح كتمانها.
مَشت وكلّ ما سَمعتهُ أنهم سينقلونهُ للمشفى، رفعت رأسها للسّماء وقالت: "يا رَب ارأَف بحالهِ!"
ما بَين العَقل وَالقلب وَجدت نفسها! ما بَين المشاعر والضّمير تاهت! ما بين العادات السّيئة التي نتوارثها جيلاً بعد جيل وبين الصّحوة الإنسانية التي تقول لا يجب أن يؤخذ الجميع ويوضع بنفس حفرة المذنب! لا يُحاسب أحد على حساب أحد! حتى لو كان أباه أو أخاه أو ابنه حتى!
بين كل ذلك ضاعَت إلا أنّها وَجدت نفسها أخيراً!
تحرّرت من العصبيّة القبلية ولو لثواني معدودات. لكنها بقيت أسيرَة رأيها! مَسجونة تحت ما يُسمّى حُريّة التعبير! فهي لم تستطع أن تبوح لأي أحد بما حَصَل مَعها!!

عَكّا

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة