الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 13:01

أرض العُبور/ بقلم: سائدة بدران

كل العرب
نُشر: 10/09/16 08:03,  حُتلن: 07:39

كان عليه أن يسرع أكثر، ولكن خطواته هذه السريعة لم تسعفه إلى اللحاق بالباص، ما أن اقترب من بابه واذا به يُغلقُ وكلُّ تلك الطَرَقَات العنيفة الغاضبة لم تثر عند السائق سوى بعضا اخر من ممارسة سلطته الوهمية بأنه القوي! ولم يُحرّك منظره البائس وهذه الثياب الملطخة بالحجارة والباطون شيئا لدى هذا السائق... أكثر من نظرة جانبية لا تعني شيئا، امام أي معنى.

باسل هذا الذي ينتظر الان في المحطة، جالسا على مقعد يزيد الام ظهره وبيده لا زال يحمل كيسه. كان يفكّرُ بغضب ومقت، لماذا لم يفتح له الباب؟! كان سيكون الان هناك حيث أراد.
طال انتظاره وبدأ سيل من العتمة يجرف نفسه الى حنين اخر، ويزيد ضغطه وخوفه وتساؤله "هل سأمرّ الليلة؟! قد يُغلق المعبر في الساعة القريبة القادمة".
إن تأخر الباص أكثر سيمتنع عليه الوصول الى بيته، ونظراته شاخصة الى هذا الكيس بيده.
ما زال يراقب هذه الغزارة لأناس يتسابقون للوصول الى بيوتهم، سيارات كثيرة وأضواء المدينة تشير الى تقدّم الوقت أكثر!
في المحطة ليس سواه وشاب في أوائل العشرينات يحمل حقيبة كبيرة على ظهره، استطاع أن يتوقّع انّه طالب في الجامعة القريبة من هنا، هو أيضا كان يرتقب قدوم الباص وناظرا لاتجاهه كان، ولكن عيناه كانت تحملان فرحا صغيرا، راه باسل ... وطارت اسراب روحه الى حيث فرحه الصغير، ودون وعي او قصد تفتحت ياسمينة على وجهه.
هما يحفّان المكان بنظراتهما، بيد أن الشاب كان يلتفت اليه بين الحين والأخر بنظرات مُرتابة مُتشكِكَة!
منظره يخيفهم! يبدو لهم واضحا انه ليس من هنا وانه من عمال البناء الغرباء "العرب"، لونه كان يشير لذلك وهذا العناء الذي كان يبدو عليه هو الدليل الأكبر لصدق هواجسهم.
كان لا زال يرمق الكيس بنظرات من العطف والشفقة ثم تتغير نفس النظرة الى شيء من الخوف والقلق.
وبعد انتظار، يصعدا الى الباص الذي كاد يكون فارغا،
إنّه ليل العيد..
الليل المُتأخّر، المحلات المقفلة...
والشارع الذي كان يفيض بالناس والسيارات، صار فارغا، لذا فإنّ المسافة قَصُرَتْ أيضا الّا أنّ باسل كان يشعرها طويلة، طويلة! فيما عيونه لا تراوح الكيس بيده، وكلما اقترب يشدُّ الكيس الى نفسه، إلى صدره إلى موضع القلب منّه.
القلب، حيث يسكنُ هو.. هو من يُحبّهُ باسل ولأجله يحيا ويوقظ الصبح قبل موعده، في اخر هسيس من الليل، حيث الندى يصير لؤلؤا وحيث العتمة تصير ضوءا وحيث الاله يصير هنا والان، يفكُّ أزرار قميصه فيظهر صدره فقلبه فينجلي ليل ويتنفس صبح.
هو أوّل كل شيء عنده واخره، هو ملامح لا تشبه الا نفسها وكلُّ ما فيه جميل محبب. شعره الجميل عيونه اللامعة يده الناعمة وكل شيء كان.
يقترب باسل منه، وبرفق يلمسُ رأسَه فيشتدُّ ألمُه، وبسرعة ينجز ما عليه ويغادر البيت.
بعد ليل طويل، كانت اهاته تقطعُ أحشاء باسل ونظرات زوجته تزيد الوجع وتزيد القهر، يشعرُ بعجزه فتسقط دمعة من أعلى الروح الي باطن القلب.

الطريق طويلة واليوم سيكون طويلا ولكنها الشمس تبدو أليفة، وها هي تحضنه برفق وتلفُّ قلبه بشيء منها.
رغم هذا التعب ولكنه كان يعمل بجِد وبقوة ولا يشعر بشيء مما يدور حوله، وقد اتفقا صباحا انه سيعطيه أجرة اليوم وعشرة أيام إضافية فهو بحاجة الى النقود، والعيد سيمنعه من القدوم للعمل الى أيام.
ينتهي اليوم بعدما أنهى معه الشمس، يسرع باسل ويسرع أكثر .... نعم وصل! يعطيه الروشيته، يرقبُ كلّ علبة دواء ويتنهد، يرتاح قليلا ثم ما يلبث أن يرتقب ويرتقب.
يحمل الكيس مسرعا، يسابق خطواته... يريدُ ان يسبقها ويسبق الوقت انه ليل العيد وعليه أن يدرك الباص ليصل قبل أغلاق المعبر.

"المحطة الأخيرة" بصوت عال وقاس، أسقط الكيس من باسل. بسرعة أخذه عن الأرض وكأنه يلمُّ بعضه قفز من الباص والي البوابة هناك... هناك حيث المعبر!
المعبر الذي أوقف باسل "مغلق".
صرخ باسل باخر ما فيه من قوة: الدواء الدواء يحتاج الدواء، ابني يحتاج الدواء!
كان الشاب الذي نزل من الباص مع باسل يحاول أن يساعده، توجّه الى المسؤول هناك، ليسمح لباسل بالعبور فرفض.
كان الشاب يراقب باسل خلال مكوثهما سويا في هذه الطريق وقد استطاع أن يرى شيئا اخر في عيونه، يدفعه الان ان يتصل باخرين علّهم يستطيعون المساعدة.
اقترب من باسل، وحاول اخباره بأنه ينتظر ردا من أحدهم وقد يستطيع المساعدة ولكنّ باسل كان قد افترش الأرض وسالت دموعه بهدوء شديد ونظر بعيدا إلى السماء... بعيدا بعيدا، حيث صوت الاهات خفتَ... انتهى انقضى وصعد إلى السماء.
سيعود حين يعود ولكنه لن يحمل الكيس...

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة